المستقبل - الاحد 19 أيلول 2010 - العدد 3775 -
بغداد ـ شاكر الأنباري
مشكلة تشكيل الحكومة العراقية ليست الوحيدة من بين مشاكل هذا البلد، بل قد تكون مظهرا من مظاهر أشد خطرا، أبرزها مشكلة الفساد، وقد بدا الفساد فايروسا مستعصيا، ينخر في جسد الدولة والمجتمع مثل وباء فتاك. يجده المرء في الوزارات، والجيش، والشرطة، والقضاء، والهيئات المستقلة، ومجالس المحافظات، وفي أصغر وحدة إدارية لها تماس بحياة المواطنين. لم تنفع معه أجهزة الرقابة ولا هيئة النزاهة التي تشكلت لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة. صار يعترف بوجوده الجميع، سواء كانوا في دست الحكم كرئيس الوزراء، أو معارضين، خارج العراق أو داخله. انه يبث سمومه في نسيج المجتمع ذاته فيخرب نفوس العامة من الشعب، وقد فشلت لحد الآن كل الحلول المطروحة والمعالجات.
عقود وهمية، ورشاوى، وتزوير وثائق، واستخدام النفوذ السياسي والحزبي والعشائري، ومحسوبيات، وولاءات، وقرابات، وتصفيات، كل هذا في ظل غياب قانون حقيقي يطبق على الجميع، وفي ظل فوضى عارمة هيمنت على كل منحى من مناحي الحياة. حتى اصبح من الصعب وجود منصب يتيح الفساد فلا يستغل من صاحبه. ولعل أخطر ما ينتجه الفساد هو سايكولوجيا محاربة النزيهين وأصحاب الأيادي البيض، ممن يكشفون الفساد وطرقه ودروبه، ويقاومون اغراءات فائقة الجاذبية. ولهذا ان لم ينصع النظيف لبيئة الفساد تلك فسرعان ما يقتل، بكاتم صوت او عبوة لاصقة او ناسفة، هذا ان لم يدفع عن طريق التهديد والضغط لمغادرة البلد. استشراس الفساد جاء بسبب وجود ثروة هائلة يتنافس عليها المفسدون، يدخل الخزينة يوميا من عوائد النفط ما يقرب من ربع مليار دولار، وهي ثروة تنفق دون تخطيط حقيقي، ودون متابعة صارمة، ودون ردع قانوني. بواسطة النقود يحل كل منغلق ومستعص، ومن لا ينصاع لإغراء المال يرسل إلى طريق لا عودة منه. وحين تبدأ التحقيقات تصاحبها ضجة إعلامية مؤقتة لا تلبث أن تنزوي ثم تموت، وتوضع الملفات على الرفوف أو تحرق بحادثة توصف بالعرضية، ثم يطوي النسيان كل شيء.
عن ذلك الجو الغامض، جو الفساد، صرح القاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة، لبرنامج (سحور سياسي) الذي تبثه قناة البغدادية الفضائية، بحقائق مرعبة. قال ان هناك طبقة سياسية في العراق هي فوق القانون، بمعنى تفعل ما تريد دون أن يطالها أحد. لا هيئة النزاهة ولا ديوان الرقابة والتفتيش، ولا القضاء. والمعروف أن هذه الطبقة تتمثل برؤساء أحزاب، وقادة سياسيين، ووجهاء دينيين واجتماعيين، وحولهم من المستشارين والوزراء والمدراء العامين وقادة الميليشيات السابقين. مصنع الطبقة تلك بدأ بعد سقوط النظام، وازاه فساد آخر في جبهة القوى التي احتلت البلد من أميركيين وبريطانيين وسواهم، واستمر وتفاقم طوال سنوات الصراع السياسي والاجتماعي والحزبي. واذا سار الوضع كما هو عليه فسوف تنتج بطانة ستكون أسوأ حتى من بطانة صدام حسين كما قال العكيلي.
فعلا شهد الشارع العراقي أفظع قضية للفساد حدثت في وزارة التجارة، وكان الاتهام موجها لوزيرها عبد الفلاح السوداني المقرب من المالكي، وقد اثبتت التحقيقات وجود تلاعبات هائلة في قضية الحصة التموينية. والحصة التموينية هي توزيع مواد غذائية بأسعار رمزية على الأسر العراقية، واستحدث هذا النظام منذ الحصار في التسعينيات، واستطاعت الحصة التموينية انقاذ ملايين المعدمين من غائلة الجوع في ظل بطالة عالية، وانعدام للخدمات، وتفكك المؤسسات الاجتماعية، والتهجير المذهبي. ورغم وجود تلاعب بالمال العام وصل إلى مليارات الدولارات لم يعاقب الوزير والمدراء العامون المتورطون، وبرئوا جميعا من تهمة الفساد، وكان تسيس القضاء، وممارسة الضغط السياسي لغلق الملف، واضحا لجميع المراقبين.
وحدث أمر مشابه في عقود وزارة الدفاع ايام الوزير حازم الشعلان وزير الدفاع في حكومة اياد علاوي، اذ وصلت الأموال المنهوبة حوالي المليار دولار، واستطاع الشعلان الهروب إلى الخارج وتحصن بجنسيته الأجنبية (بريطانية) التي لا تبيح تسليم المواطنين إلى دولة ثانية. وكذلك الأمر مع ايهم السامرائي، وهو وزير كهرباء سابق، اعتقل في المنطقة الخضراء فدخلت عليه قوة أمنية تابعة للجيش الأميركي وأخرجته من السجن وسُفّر إلى خارج العراق، كونه يحمل الجنسية الأميركية. هذه الحوادث وغيرها يتذكرها الشارع العراقي بدقة، لأنها كانت مدار حديث الصحافة والإعلام، وتحولت إلى فضائح لم يعد احد يستطيع الدفاع عنها، او السكوت عليها. فوجود عدد من السياسيين العراقيين يحملون جنسية ثانية هي واحدة من العقبات التي لا تسمح بمعاقبة المتهمين بالفساد كما يقول القاضي رحيم العكيلي.
هناك كثير من الموظفين الكبار نهبوا وزوروا، ثم تركوا مناصبهم وعادوا إلى بلدان يحملون جنسيتها فلم يعد بالامكان استردادهم. اذ عادة ما يفسر قرار الاتهام او الاسترداد بالقرار السياسي، وهي وجهة نظر تبدو مقبولة، اذ ان هناك كثيرا من الفاسدين والقتلة وقادة الميليشيات ممن ارتكبوا جرائم معروفة، الا انهم لم يقدموا للمحاكمة بسبب دعم أحزابهم السياسية ووقوفها خلفهم. وثمة قادة سياسيون يتصدرون اليوم واجهة المشهد كانوا حتى الأمس القريب ممن قادوا مباشرة، أو من خلف الستار، العمل الميداني للتصفيات المذهبية، والتهجير، والتفخيخ، والقتل على الهوية، والسرقات، وتهريب النفط، وهم موجودون في عدد من الحركات والأحزاب الحالية. فمن بين حوالى خمسة آلاف موظف كبير، بدرجة وزير ومدير عام ومستشار ووكيل وزير، هناك حوالى مئة وسبعين شخصا متهمين بقضايا فساد كبيرة، ومن بين هؤلاء خمسة وزراء، كما يقول القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة. لكن الملاحقات عادة معطلة لأن بعضهم ينتمون إلى الطبقة السياسية التي وصفها بأنها فوق القانون.
هذه الحقائق ربما توضح الكثير مما يجري في الساحة، على الصعيد السياسي والاقتصادي. والا أين ذهبت ثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات السبع الماضية؟ لا سيما أن آثارها لم تلمس في تطوير الواقع الاجتماعي؟ في الواقع الرث على كل المستويات؟ الجميع يعرف ان مجالس المحافظات، على سبيل المثال، أصبحت امبراطوريات شبه مستقلة، تتلاعب بالمال العام، وتصدر احيانا قرارات تتناقض مع الدستور، وتستطيع التأثير على القضاء المحلي بالشكل الذي يلائم نزواتها في جمع المال، وتسيس التعليم والشارع والتقاليد الاجتماعية. ولعل أخطر ما قيل في هذا المجال هو وجود عصابات في السجون العراقية تتقاضى مبالغ ضخمة لإطلاق سراح المجرمين، بمن فيهم معتقلو القاعدة او عصابات التزوير وبقايا الميليشيات، ويدير هذه العصابات ضباط كبار وموظفون في أماكن حساسة. اما قطاع المقاولات فهناك قصص حولها تدخل في اطار الحكايات السوريالية التي لا يصدقها عقل. عقود تباع أكثر من مرة، وتنفيذ رديء للشوارع والأبنية والجسور، وصفقات تتم احيانا خارج العراق لمقاولين يقطنون في بيروت او عمان او الدول الأوروبية، لهم امتدادات مع مسؤولين في أجهزة الدولة المختلفة، أغذية مستوردة منتهية الصلاحية، وأدوية غير صالحة، تتسرب من هكذا صفقات مئات ملايين الدولارات إلى الخارج.
والفساد لا يشمل نهب المال العام فقط، انما يمتد إلى الوظائف العليا، التي استأثرت بها الأحزاب الحاكمة. فأغلب مفاصل الدولة الحساسة يشرف عليها ويديرها أشخاص قريبون لهذا الحزب أو ذاك، وفي السنوات الأربع تفاقمت هذه الظاهرة بشكل كبير حتى بدأت الأحزاب تلك تعاني هي الأخرى من التهميش بعد أن سارت سلسلة التعيينات لتنحصر في حزب واحد أو حزبين، وعادة ما يكون الولاء لا الكفاءة هو ما يحدد أولئك الأشخاص. وتم التلاعب حتى في قانون المساءلة والعدالة، ليسري على البعض من الأبعدين دون أن يطبق على الموالين. وواحدة من معضلات التفاهمات بين القوى السياسية في تشكيل الحكومة هي اختلاف رؤيتها على فتح ملفات الفساد المالي، والإداري، والسياسي، للسبع سنوات السابقة. ثمة اعتراض صريح من قبل الأحزاب الحاكمة، وبعض الرموز المتنفذة، أباطرة السنوات العجاف، على فتح تلك الملفات، وهي ملفات قد تقود إلى فضح جرائم جنائية، وسياسية، ومالية، وحزبية.
في انتخابات مجالس المحافظات السابقة تعهد المرشحون الجدد أثناء الانتخابات بفتح ملفات الفساد للمجالس السابقة. لكنهم ما ان فازوا في الانتخابات، واحتلوا مقاعدهم الوثيرة التي تبيض ذهبا، حتى نسوا تعهداتهم، وانشغلوا بتلقف الميزانية الدسمة، والسفرات خارج البلد، وابتكار طرق جديدة لجمع الثروات وخلق البطانات. وأخذ المواطنون في بعض تلك المحافظات يترحمون على المجالس السابقة. وظلت الجرائم وقضايا الفساد والفضائح الكبيرة طي الكتمان. ولم يحاكم أي مسؤول بشكل صريح ومباشر عن تلك الجرائم، فآخر المحاكمات العلنية كانت لأركان نظام صدام حسين، التي فقدت الاهتمام هي الأخرى، لأن ما يحاكم عليه اولئك من جرائم قد لا يصل بعضها إلى الجرائم التي ارتكبت من أغلب الأطراف في العهد الجديد. لكل ذلك صنف العراق عالميا بأنه يحتل رأس القائمة في الدول الأكثر فسادا في العالم، والأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان، كون القانون لم يعد يسري الا على الضعفاء من الموظفين والمواطنين الذين لا حول ولا قوة لهم سوى الدعاء إلى السماء.