جاد تابت
عادت مجلة «الطريق» إلى الصدور بعد توقف دام ثماني سنوات. يبدأ عدد المجلة في عامها السبعين بافتتاحية الأستاذ محمد دكروب، التي ذكّرت بالعدد الأخير الذي صدر عام 2003، معلنة ان «قدراً غاشماً شاء ان يطول زمن عودة المجلة... إلى ان وصلنا إلى زمن صار فيه بالامكان ان تستأنف هذه المجلة مسيرتها في شق الطريق إلى المستقبل». لا بد في البداية من ان يهنئ قراء «الطريق» أنفسهم بصدور المجلة من جديد. لكن من حق هؤلاء أيضاً ان يتساءلوا لماذا توقفت المجلة عن الصدور هذه الفترة الطويلة، ولماذا عادت اليوم؟ افتتاحية العدد الجديد لا تجيب عن هذين السؤالين. كما انها تُبقي أسباب غياب المجلة محاطة بغموض ضبابي، مؤكدة ان الأسباب المالية التي كانت تُعطى لتفسير «سر» الغياب، لم تكن سوى «تهرّب»، ثم تبشرنا «بخبر سار» جاء «في شكل قرار» سمح للمجلة بأن تستأنف صدورها. من الواضح ان الافتتاحية لا تقدم سوى جواب تبسيطي وغير مقنع. فكي نفهم لماذا توقفت الجلة عن الصدور خلال ثمانية أعوام، لا بد لنا من استعادة المراحل التي مرت بها «الطريق» والدور الذي لعبته في الحياة الفكرية والثقافية في لبنان والعالم العربي. عام 1941 أسس انطون تابت مجلة «الطريق» كرسالة ثقافية تصدرها «عصبة مكافحة الفاشستية في سورية ولبنان»، وضمت هيئة التحرير إضافة إلى تابت نخبة من الأدباء والمثقفين كان من بينهم عمر فاخوري ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري وقدري قلعجي... منذ تأسيسها، ربطت المجلة بين النضال التحرري للشعوب العربية من أجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي من جهة، والكفاح الفكري ضد الفاشستية والنازية بوصفهما «أخبث أشكال السيطرة الاستعمارية»، من جهة ثانية. فقدمت نفسها «كلسان الأحرار في هذا البلد وصدى الحرية في العالم». وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية والفاشستية، استمرت «الطريق» في نهجها المنفتح على أسئلة النهضة العربية وأفكار التنوير واليسار والتجديد، وواكبت صعود حركة التحرر العربية خلال الخمسينات، والنضال ضد الأحلاف العسكرية ونشوء حركة عدم الانحياز. وإذا كانت المجلة قد واكبت مسار الحزب الشيوعي اللبناني والاتجاهات الماركسية في العالم العربي، إلا انها حافظت دوماً على هامش من الاستقلالية سمح لها بأن تكون منبراً ثقافياً يتميز بالتعددية والتنوع، بحيث صارت، مثلما قدمت نفسها، في العدد الخاص بالذكرى الأربعين لتأسيسها «مجلات عدة في مجلة واحدة». وعلى الرغم من تأكيدها على هويتها الفكرية الواضحة، فإن خطاب المجلة وخطها تعرضا لمراجعات نقدية عدة فرضتها التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة، من هزيمة حزيران وانهيار الناصرية، إلى بروز المقاومة الفلسطينية واندلاع الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية. عبر مواكبتها لهذه التحولات استطاعت «الطريق» ان تحافظ حتى بداية التسعينات، على موقعها كمجلة تقدمية تنطلق من التزامها الفكري والأيديولوجي الواضح بأن تكون منبراً حوارياً في كافة ميادين الفكر والثقافة. غير ان نهاية الحرب اللبنانية ترافق مع تحولات أساسية زعزعت القواعد الفكرية التي كانت ترتكز إليها المجلة. فانهيار النظام السوفياتي كشف طابعه السلطوي وعجزه عن تحقيق الشعارات التي آمن بها ملايين المناضلين في العالم، وبذلوا في سبيلها أغلى التضحيات. وقد ترافق هذا الانهيار مع تراجع الأفكار الاشتراكية والتحررية وسيطرة الخطاب النيوليبرالي وتأليه السوق الحرة في كافة أنحاء العالم، من أميركا جورج بوش إلى صين ما بعد ماو. أما على الصعيد العربي، فقد أدى فشل التيارات القومية إلى إقامة أنظمة استبدادية أخضعت الشعوب العربية لأبشع أنواع القمع وكادت تُخرجها من التاريخ. وكانت إحدى نتائج عجز اليسار العربي عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة هي صعود التيارات الدينية الأصولية التي تقدم حلولاً سحرية كبديل عن واقع اليم تتخبط فيه الجماهير العربية في ظل قمع الأنظمة العسكرية والعدوانية الصهيونية المتمادية، إضافة إلى نهب ثروات المنطقة من قبل الشركات العالمية. أمام هذه التحولات العاصفة، كان لا بد من ان تقوم «الطريق» بمراجعة نقدية جذرية لتوجهاتها الأساسية على الصعيدين الفكري والسياسي، وان تطرح أسئلة منهجية حول الدور الذي يمكن ان تلعبه في عصر العولمة. وبعد صدور العدد الأخير في شتاء 2003، اتصل بي الصديق كريم مروة، الذي كان يشرف على إصدار «الطريق» في تلك المرحلة، بصفتي ممثلاً لورثة انطون تابت، مالكي المجلة. وتباحثنا في ضرورة إرساء أسس جديدة للمجلة، واتفقنا على ان التحولات الجذرية على الصعيدين العالمي والعربي، تتطلب صوغ مشروع جديد متكامل قادر على بلورة توجّه يساري منفتح ومتحرر من رواسب الماضي، ينطلق من الأسئلة الفكرية والثقافية الجديدة التي يطرحها الحاضر المتغيّر. كا اتفقنا على ان الشرط الأساسي لنجاح هذه التجربة يكمن في تأمين الاستقلالية التامة لمجلة «الطريق»، على المستويات السياسية والفكرية والمالية، وفي إيجاد هيكلية متقدمة تتصف بمهنية عالية، من أجل تأمين استمرارية المجلة في الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع الصحف والمجلات في العالم. ورغم الجهود التي بذلها الأستاذ كريم مروة ومعه مجموعة من المثقفين المؤمنين برسالة «الطريق»، لم يكن في الإمكان تأمين الشروط الضرورية لإصدار المجلة على المدى الطويل، ففضل ان يعيد إليّ التكليف الذي منحته له، بدلاً من مباشرة مشروع لا ضمانة لاستمراريته. غير انني فوجئت منذ بضعة أشهر بتسريبات صحافية عن قرب صدور «الطريق»، ثم اكتشفت العدد الأول المؤرخ في صيف 2011 في الأسواق، هذا من دون استشارتي، ولو من باب اللياقة الاجتماعية. قرأت كغيري من محبي هذه المجلة إعلان عودتها إلى الصدور بفضل «قرار» جاء «كخبر سعيد» سمح بالتغلب على «القدر الغاشم الذي سمح باحتجاب المجلة خلال ثماني سنوات». وقد توقفت افتتاحية العدد عند الصدفة التي جعلت قرار إعادة الصدور متلازماً مع «قرارات الجماهير باندلاع الانتفاضات الثورية في أكثر من بلد عربي»، كما تضمن العدد محوراً خاصاً حول «خصوصية ثورتي مصر وتونس والانتفاضات الشعبية». الثورات المشتعلة في العالم العربي تطرح مجموعة من الأسئلة الكبرى التي من شأنها قلب كافة الأطر التقليدية للتحليل السياسي والفكري، وتلقي على عاتق اليسار مسؤوليات جسيمة عليه ان يثبت انه قادر على الاضطلاع بها كي يستطيع ان يلعب دوراً في المرحلة المقبلة. الأفق الذي يفتحه الربيع العربي، يتطلب مراجعة نقدية شاملة لكافة المسلمات النظرية والتجارب التي مرتبها حركة التحرر العربية. تشمل هذه المراجعة النقدية تجربة الحركات القومية، التي تمكنت في أوج المد الناصري خلال الخمسينات وبداية الستينات من تعبئة الجماهير في معركة التحرر من الاستعمار ومناهضة المشروع الصهيوني، لكنها تعثرت بسبب القمع وغياب الديموقراطية وانتهت بهزيمة تاريخية أدخلت العالم العربي في مرحلة إحباط امتدت نصف قرن. كما تشمل مراجعة «ورثاء» الناصرية وخصوصاً تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أطلق في أواخر الأربعينات شعار الوحدة والحرية والاشتراكية، وانتهى إلى إقامة نظامين قطريين استبداديين تميزا بقمعهما الوحشي وبالهيمنة على السلطة واستئثار زمر عسكرية ـ عائلية بالثروات الاقتصادية. وتشمل أيضاً مراجعة تجارب الحركات الدينية الثورية التي نمت على أنقاض التيارات القومية واليسارية، وأنهت إلى تفتيت المجتمعات العربية في ملل ونحل وعشائر متصارعة، أدخلت المجتمعات في دوامة الحروب الأهلية والمجابهات المذهبية. وتشمل أخيراً وليس آخراً تجربة التيارات الماركسية العربية بشقيها «الرسمي» أي الأحزاب الشيوعية، و«الهامشي»، أي التيارات القومية التي تمركست بعد هزيمة حزيران 1967، والتي لم تتمكن إلا في بعض الحالات الاستثنائية من ان تلعب دوراً فاعلاً في التأثير الفكري والسياسي وفي خلق حال من التعبئة الجماهيرية القادرة على طرح خيارات حقيقية في وجه أنظمة الاستبداد العربية. هذه المراجعات هي المدخل من أجل الوصول إلى قراءة الأفق الديموقراطي والتحرري الذي تطرحه الثورات الشعبية العربية، التي لم تفاجئ الأنظمة فقط، بل فاجأت المعارضة أيضاً، وفاجأت جميع تيارات الثقافة العربية. هذا الأفق الجديد يتطلب لغة ورؤية جديدتين، ويساراً قادراً على ربط مسألة حرية المواطن وكرامته بالتقدم والعدالة الاجتماعية، وعلى ربط المسألتين بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. هل يمكن الاستعاضة عن هذه المراجعة النقدية الشاملة برفع شعار إنتاج ماركسية عربية أو «ماركسية لنا» بحسب ما تطرحه افتتاحية «الطريق» كعنوان للمرحلة المقبلة؟! من حقنا ان نتساءل، بعد كل ما يجري، إذا كان هذا الشعار القديم، له علاقة بنبض المرحلة، أو يستطيع ان يكون عنواناً فكرياً لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي؟ وهل تستطيع «الطريق» ان تلعب دورها في مرحلة اليقظة العربية الجديدة بمجرد صدور «قرار» يرفع شعاراً عاماً كهذا الشعار؟ وهل يُغني هذا القرار عن العمل الجماعي الهادف إلى صوغ خطة متكاملة تسمح للمجلة بأن تكون على مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة؟ ألا تتطلب عملية إعادة الصدور الانفتاح على التيارات التحررية والشبابية منها بخاصة، بهدف رسم الإطار العام للمجلة، وتشكيل هيئة تحرير حقيقية تحدد خط المجلة ومنهجها وتضم إلى جانب مثقفي اليسار الكلاسيكي مفكرين مجددين قادرين على تخطي الأطر التقليدية التي لا تزال تحكم الأداء الفكري لليسار العربي؟ أليس من حقنا ان نتساءل عن ضمانات استمرارية المجلة من دون تأمين هيكلية إدارية متطورة تتحلى بمهنية عالية وترسم خطة مالية تؤمن للمجلة موازنة ثابتة واستقلالية تسمح لها بأن تصير منبراً حياً وخلاقاً، ومركز إبداع فكري وثقافي يكون على مستوى تحديات المرحلة؟ حرصت في هذا المقال على ان أكتب في وصفي قارئاً ومتابعاً ومحباً لمجلة «الطريق»، لا في وصفي ممثلاً لورثة انطون تابت الذين يملكون امتياز المجلة. فأنا تربيت على فكرة ان «الطريق» والتراث الفكري والنضالي الذي خلّفه انطون تابت ورفاقه، ليسا ملكية خاصة، بل هما ملك للتراث العقلاني واليساري في الثقافتين اللبنانية والعربية. كتبت حرصاً على هذا الإرث الثقافي الكبير ومن أجل تصويب المسيرة لا من أجل أي هدف آخر. وإذا كان حرصي وحرص ورثة انطون تابت واضحين في عدم التصرف بهذا الإرث لأننا لا ننظر إليه كملكية خاصة، فإن كنا ننتظر من الآخرين الذين أصدروا «القرار»، وخصوصاً من الناقد محمد دكروب، الذي نشأ وكبرت قامته النقدية في «الطريق»، ان يتصرفوا هم أيضاً بالروحية نفسها، لا ان يتم «تهريب» إصدار العدد من دون موافقتنا ومن دون استشارة كوكبة كبيرة من الكتاب والمثقفين الذين رافقوا المجلة في محطات مختلفة من مسيرتها. ان الصدور بهذا الشكل وعبر قرار لم يأخذ في الاعتبار واقع المجلة وآفاق تطورها، يدعونا إلى رفع الصوت كي يلتزم الجميع بمسؤولياتهم الأخلاقية تجاه إرث لا نستطيع ان لا نحميه من الضياع.