بقلم: د. حنا جريس - القاهرة
حديثي هذا ليس حديثا في التدين من حيث كونه فعلا دينيا وإنما هو حديث عن التدين من حيث كونه مظهرا اجتماعيا.. فهناك اتفاق عام بأن فعل التدين إن كان خالصا لوجه الله فهو بالضرورة فعل حسن ينعكس إيجابيا على أخلاق الفرد والمجتمع.
غير أن ما نعانيه الآن في مجتمعاتنا العربية وعلى الأخص في المجتمع المصري هو هذا التناقض الصارخ بين فعل التدين من جهة ومردوده الأخلاقي على المجتمع من جهة أخرى. فبينما يرتفع معدل التدين ليصل في المجتمع المصري إلى مائة بالمائة طبقا لما جاء في أحد استطلاعات الرأي، يلاحظ الجميع أن الأخلاق الفردية والعامة تتراجع على نحو مخيف، ويكفي أن تطالع بعض صفحات الحوادث في الصحف اليومية حتى تدرك أن معدل تدهور الأخلاق العامة وازدياد معدلات الفساد قد وصل إلى مستويات خطيرة.
هذا التناقض أثار من جديد السؤال القديم، كيف أمكن أن يتدهور المجتمع المتدين على كل المستويات المادية والمعنوية، وأصبح يعاني من الهزائم في الوقت الذي يتقدم فيه المجتمع غير المتدين وينتقل من انتصار إلى انتصار ويمارس السطوة والهيمنة وإدارة أحوال العالم.؟
وهو سؤال قديم قدم تاريخنا الحديث، وقد تصدى له وحاول الإجابة عليه ثلاثة من شيوخنا الأفاضل من رواد النهضة المصرية الحديثة.. وعندي أن اول من طرح السؤال كان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي بالرغم من مقته الشديد للمحتل الفرنسي، تتناثر في حولياته المقارنات بين ما يقدمه المحتل الذي لا دين له من تصرفات أخلاقية حميدة في مواجهة ما كان يصدر من حكام مصر السابقين الذين يدّعون الدين ويغالون في التدين، ولعل ابرز الأمثلة التي ساقها كانت في تعليقاته الكثيرة على محاكمة سليمان الحلبي والتي رأى فيها مع آخرين من عصره أن قيمة العدل مصونة لدى هؤلاء أكثر بكثير مما رأوه في مجتمعاتهم.(الحلبي هو قاتل قائد الحملة الفرنسية).
ثم جاءت مقاربة الشيخ رفاعة الطهطاوي لنفس السؤال، التي حاول فيها قراءة الآخر عن قرب ومقارنته بما نحن عليه، وهو في هذا السياق ينكر أن للدين علاقة بالرفعة أو الانحطاط فمسيحيو الغرب استطاعوا التقدم في المعايير الأخلاقية وهو ما لم يحدث للأقباط في مصر.
ثم يأتي الإمام محمد عبده الذي يعلن أنه وجد في أوروبا مسلمين بغير إسلام بينما وجد في الشرق مسلمين بغير إسلام، وآية ما يطرحه الإمام أن الغرب غير المتدين تقدم فيه النسق الأخلاقي ليقارب لب الدعوة الإيمانية بينما الشرق يملك الدعوة الدينية ولا يستطيع أن يتمثلها نسقا أخلاقيا.
ويبدو أن القضية كانت مثار اهتمام المثقفين المصريين علي مدي أعوام القرن العشرين، ففي أوله قدم لنا فتحي زغلول ترجمة لكتابي جوستاف لوبون "سر تطور الأمم"، و"سر تقدم الأنجليز الساكسونين"، ليتبعهم كتاب "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" لمؤلفه محمد عمر. والمطالع لكل هذه الكتابات يلاحظ أنها امتداد لنفس التساؤل الذي طرحه الجبرتي، كيف يكون لدينا هذا الرصيد الروحي الضخم في الوقت الذي نفتقد فيه المعايير الأخلاقية السليمة التي تدفعنا نحو التقدم.
وليس من شك انه كانت هناك محاولات جادة للخروج من هذا المأزق المركب، الذي فيه ينبغي الاعتراف بتردي واقعنا الأخلاقي دون الدخول في عقدة النقص والضآلة وفي الوقت ذاته نتمكن من استلهام المعين الروحي والحضاري للتقدم للأمام وتحسين نسقنا الأخلاقي.
وعندي أن أهم هذه المحاولات كانت محاولة الإمام محمد عبده الذي حاول الإصلاح الديني كما حاول إصلاح مفهوم التدين، غير أن مشروع الامام تحول على يد الشيخ حسن البنا إلى الدعوة إلى إصلاح المجتمع بالمزيد من التدين، ثم تحول على يد الجماعات الراديكالية إلى إجبار المجتمع على شكل ومظهر محدد من التدين، ثم انتهى عهد السلفية إلى إغراق الفرد والمجتمع في تفاصيل التفاصيل القادمة من دهاليز التاريخ والتراث ليدخل الجميع في مسابقة لا تنتهي من التظاهر الديني على حساب الالتزام الأخلاقي.
والمفارقة أن مسار الأقباط لم يختلف قيد أنملة عن المسار العام، ففي نفس فترة الإمام محمد عبده أو قبلها بقليل كانت هناك الدعوة الإصلاحية والتي كان يقودها الحداثيون من الأقباط، تلك الدعوة التي تحولت على يد حركة مدارس الأحد في ثلاثينيات القرن العشرين إلى دعوة للتدين التقليدي وتكثيفه، ثم انتهت في نهايات القرن العشرين إلى الاستغراق في التدين الظاهري المغلف بتفاصيل تاريخية وتراثية لا تنتهي، وأيضا على حساب الالتزام الأخلاقي.
وهكذا تحول الدين إلى تدين وتحول التدين إلى فائض من التدين يتم استثماره في الحصول على المكاسب المادية وتثبيت المكانة الاجتماعية. وهو في تقديري استخدام لا أخلاقي للدين بغرض الحصول على الدنيا.