الأربعاء، 6 مايو 2009

الشيخ حسن الصفار عن الشيخ شمس الدين

شمس الدين ونهجه في الجهاد
الشيخ الدكتور حسن الصفار:



الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين

يحتل مفهوم الجهاد مساحة واسعة من النصوص الدينية، حيث تبلغ الآيات القرآنية التي تناولته بلفظ الجهاد ومشتقاته حوالي 40 آية، أما الأحاديث الواردة حوله فهي تعد بالمئآت.

الجهاد لغة وشرعاً:

الجهاد على وزن فِعال مأخوذ من (الجُهد) -بالضم- وهو المشقة البالغة، و(الجَهد) -بالفتح والضم- الطاقة ومنه قولـه تعالى ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾[1] .

فتحمّل المشقة وبذل الطاقة والجهد في أي مجال يطلق عليه جهادٌ لغةً.

وقد اعتمد الشرع هذا الإطلاق في النصوص الدينية، فجاء في الآيات والأحاديث، استعمال كلمة الجهاد ضمن المعنى اللغوي العام الذي هو بذل الوسع وتحمل المشقة في سبيل شيء ما، خيراً كان أو شراً. فقد جاء في القرآن الكريم استعمال مادة الجهاد بمعنى السعي في الحرام، كقولـه تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾[2] . فأطلق على سعي الوالدين لإضلال الولد وحمله على الشرك: جهاداً وهما يبذلان جهدهما في طريق الحرام والشر.

وفي نصوص عديدة أطلق الشرع عنوان الجهاد على موارد مختلفة من أعمال البر والتوجهات الصالحة، كالروايات الواردة حول جهاد النفس، والذي اعتبره الحديث النبوي المشهور (الجهاد الأكبر). وكذلك ما ورد عن رسول الله من أن « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللَّه »[3] وما ورد من أن « جهاد المرأة حسن التبعّل »[4] .

وضمن هذا السياق كان اعتبار القتال في سبيل اللَّه، والمشاركة فيه بالمال والنفس جهاداً، لما يمثله من أجلى صور البذل وتحمل المشاق. بحيث تنصرف غالب الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الجهاد إلى هذا اللون منه، وهو القتال والعمل الحربي وما يتعلق به، وإن كان للجهاد مفهوم واسع وشامل، إلا أن هذا المصداق أصبح هو الأبرز والأوضح من مصاديقه، والذي تتبادر إليه الأذهان، ومتى ما أطلق يقصد به وخاصة في اصطلاح الفقهاء.

وحديثنا الآن في هذه الكلمة عن الجهاد بمعناه العام الشامل والذي يعني بذل الجهد والطاقة، وتحمّل العناء والمشقة في سبيل الله، للدفاع عن المبادئ والقيم، ولخدمة مصالح الأمة.

الجهاد فريضة وضرورة:
من يتأمل الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحديات التي تواجهها، يدرك الحاجة إلى بذل أقصى الجهود، وإعلان حالة الاستنفار على جميع الجبهات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولوقف تداعيات التخلف والانهيار الذي تعاني منه الأمة منذ زمن بعيد.

إننا نواجه تحديات خطيرة رهيبة تهدد قيمنا وهويتنا، في ظل العولمة المادية الطاغية، كما نواجه عدواً شرساً (الكيان الصهيوني) تدعمه قوى الاستكبار العالمي، يحتل مقدساتنا، ويمارس البغي والعدوان ضد أبناء أمتنا، متفنناً في أساليب البطش والفتك بالأبرياء العزل من أطفال ونساء. على مسمع ومرأى من العالم. والأدهى من ذلك ما نعانيه من تخلف حضاري في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية.

ولسنا بحاجة للاسترسال في تشريح واقعنا المأساوي الأليم، فصورته واضحة، وغصصه يتجرعها الجميع.

فكيف السبيل إلى الخلاص؟ وكيف يمكن وضع حد لهذه المعاناة؟

إن الاستسلام للواقع والرضوخ له وكأنه قدر لا يمكن تغييره أو تجاوزه، موقف خاطئ لا يقبله العقل ولا الشرع، وانتظار الفرج والتغيير من الغيب، مخالف لمنطق القرآن وسنة الله في الحياة يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾[5] .

والسعي والعمل هو وحده طريق النجاة، لكنه يجب أن يكون بمستوى المواجهة، وفي حجم التحدي الخطير، أما العمل والتحرك ضمن الحدود الدنيا، وفي إطار البرامج الاعتيادية لحياتنا بحيث لا تكلفنا صعوبة ولا عناءً.. العمل بهذا المستوى المنخفض لا يحقق أي نتيجة، ولا يردم شيئاً من الهوّة العميقة، والمسافة الشاسعة التي تفصلنا عن ركب الحضارة المتقدم.

إننا بحاجة إلى إعلان النفير العام، لنستنهض كل طاقاتنا، ولنبذل كل ما في وسعنا من جهد وإمكانية، عسى ولعلا أن نفعل شيئاَ لإنقاذ أنفسنا ومستقبلنا، ولحماية ديننا وكرامتنا.

إننا بحاجة إلى روح الجهاد بالمعنى الشامل للجهاد، ليصبح كل واحد منا جندياً مقاتلاً يتحمل المشاق والعناء، ويبذل أقصى طاقته من خلال موقعه، في أي ساحة أو مجال، في ميدان العلم أو العمل، وعلى مستوى الفكر أو الحركة.

وعلماء الدين هم في طليعة من يتحملون مسؤولية الجهاد من أجل الدين والأمة، حيث « أخذ الله على العلماء ألاّ يُقارُّوا على كِظَّةِ ظالم، ولا سغب مظلوم »[6] كما يقول الإمام علي . ولأنهم بجهادهم يحيون روح الجهاد في الأمة، ويشقون أمامها طريق التضحية والعطاء.

لكننا نلحظ أن الكثيرين من علماء الدين قد أصبحوا جزءاً من الحالة العامة السائدة في الأمة، حيث يعيشون ضمن برنامج اعتيادي تقليدي، ويكتفون بأداء أدوار ومهام محدودة، في إطار إقامة بعض الشعائر والمراسيم الدينية، وتبيين شيء من الأحكام والمسائل الفقهية.

وإذا كنا نحترم ونقدر هذه الأعمال التي يؤدونها باعتبارها إحياءً لجزء من شعائر الدين، وحفظاً لمظهر من مظاهر الخير والصلاح في المجتمع، إلا أنها وبكل تأكيد لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتق العلماء في هذه الظروف الحساسة، ولا تشكّل ثقلاً في معادلة الصراع مع أعداء الدين والأمة.

وما يبعث الأمل في النفوس، ويحي الثقة والاطمئنان، هو انطلاق عدد من العلماء الرساليين المخلصين، وتصديهم لتحمل مسؤوليات المواجهة والتغيير لواقع الأمة.

والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله)، والذي فجعت الأمة بفقده هذه الأيام، هو في الطليعة من تلك النخبة المجاهدة الواعية، وقد تركت وفاته أثراً وصدى عظيماً في أوساط الأمة، وشعر الجميع بالفراغ الكبير الذي خلّفه رحيله، ليس على مستوى الساحة اللبنانية فحسب، بل على الصعيد العربي والإسلامي بأجمعه.

وإذا كنا افتقدناه شخصاً، فيجب أن نخلّده مسيرةً ونهجاً.

إنه أنموذج لعالم الدين المجاهد الذي يشتغل بأقصى طاقة وقدرة لديه، ويستنفر كل جهد وإمكانية، ويستثمر كل فرصة وظرف، من أجل خدمة الإسلام والأمة.

ونستعرض بإيجاز بعض معالم نهجه الجهادي.

الجهاد في ميدان العلم:
قد يتعاطى عالم الدين مع الشأن العلمي ضمن الحدود المتداولة المألوفة، فيدرس ويدرّس، ويفتى للناس ويعلمهم الأحكام، ويكتب بعض المؤلفات والأبحاث. كل ذلك في إطار حياة اعتيادية طبيعية، أما العالم المجاهد فهو الذي يشمّر عن ساعديه، ويعلن حالة الطوارئ الدائمة في حياته، ويتعاطى مع الشأن العلمي كميدان جهاد، يبذل فيه كل جهدْ وطاقة، ويتحمل المصاعب والمشاق، في سبيل خدمة الدين والأمة على الصعيد العلمي.

والشيخ شمس الدين مثلٌ رائع معاصر لهذا الصنف من العلماء المجاهدين، فإبداعاته وابتكاراته العلمية تدل على نشاطه الفكري الدائم، ونوعية الأبحاث العلمية التي أنجزها مؤشر على اهتمامه بالتحديات الخطيرة التي يواجهها الإسلام والأمة.

فهناك مسائل وقضايا حساسة يحذر الكثيرون من العلماء من خوضها وتناولها بالبحث والتحقيق، لأنها تستلزم جهداً كبيراً بسبب قلة الطارقين والمتعرضين لها. ولأن نتائج البحث فيها قد تكون مخالفة للسائد والمشهور.

حيث تعاني أوساطنا العلمية الدينية من مشكلة مزدوجة ذات وجهين: الوجه الأول منها: يكمن في التحفّظ على الرأي الجديد المخالف للسائد والمألوف، في مجالات الفكر والفقه والحركة الاجتماعية، لذلك ينطوي الكثير من العلماء على آرائهم حذراً من ردود الفعل في طرحها من أبناء الصنف، وينقل الشيخ المطهري عن السيد البروجردي وكان المرجع الأعلى في عصره للحوزة العلمية في قم، إنّه كان مضطراً لاستخدام التقية في المحيط الداخلي، وأنّ الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم طلب من عدة من الطلبة تعلم اللغات الأجنبية وبعض العلوم كمقدمات، لكي يستطيعوا عرض الإسلام على الطبقات المثقفة الجديدة، وفي البلدان الأجنبية، لكنه تراجع عن هذا الأمر تحت ضغط المعارضين الذين رأوا في عمله بدعة وانحرافاً [7] .

وفي النجف الأشرف اضطر الشيخ محمد حسين النائيني (1273هـ- 1355هـ) وهو مرجع كبير إلى سحب كتابه ‎(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) من الأسواق، والكتاب كان دعوة إلى الأخذ بالشورى وتشكيل المجالس النيابية، ورفضاً للاستبداد.

ومن يقرأ عن معاناة العلماء المصلحين في الحوزة العلمية كتجربة الشيخ محمد رضا المظفر ورفاقه في تأسيس منتدى النشر وأمثالها، يدرك عمق هذه المشكلة، ودورها في إيقاف حركة الإبداع والتطوير.

أمّا الوجه الآخر للمشكلة فيظهر في استخدام أسلوب الإثارة والتحريض عند طرح الآراء الجديدة، لتكون مادة للتعبئة والتحشيد ضد الطرف الآخر، ووسيلة للاستقطاب والجذب. فيكون الطرح مسيّساً فئوياً، يساعد على اندفاع الفئات الأخرى للتمسك بمواقعها والدفاع عن مصالحها.

وبين هذين الوجهين للمشكلة تكون المصلحة العليا للعلم والدين هي الضحية.

وقد وعى الشيخ شمس الدين هذه المشكلة، وتجاوزها إلى حد كبير، بامتلاكه لشجاعة إبداء الرأي، حينما يتحقق لديه بالأدلة الشرعية، مهما كان مخالفاً لما هو سائد أو مشهور في الأوساط العلمية، لكن مع الالتزام بأكبر قدر ممكن من الحكمة في الطرح، حيث يعرض آراءه الاجتهادية ضمن قنوات البحث العلمي من تدريس أو مشاركة في منتدى، أو من خلال كتاب تخصّصي، كما يؤصل طروحاته بالبرهنة والاستدلال، وفق آليات المنهج العلمي المقبول. ويناقش الرأي الآخر السائد والمشهور بهدوء واحترام، ولا يتعمّد التسويق لآرائه في الوسط الجماهيري بتعبئة وتحشيد.

ونسوق هنا مثلاً على ذلك رأيه حول ولاية الأمة على نفسها، والذي يخالف فيه من يرون أن لا شرعية لأي شكل من أشكال الحكم والسلطة في عصر غيبة الإمام المعصوم، كما يخالف فيه القائلين بولاية الفقيه المطلقة، إنّه يطرح رأيه في المسألة مع الأدلة والبراهين التي قادته إليه، لكن دون أن يؤثر ذلك على علاقته واحترامه لأصحاب الرأيين الآخرين، ودون أن يوظّف رأيه في صراع مع هذا الطرف أو ذاك.

ونلحظ الشجاعة العلمية الفائقة عند الشيخ شمس الدين في ما ذهب إليه وانفرد به من جواز تولي المرأة للسلطة ورئاسة الدولة، مع اتفاق من تعرض للموضوع من علماء السنة والشيعة على المنع من ذلك، ولكنه يناقش الرأي المخالف المجمع عليه بموضوعية وهدوء، فيورد كل الأدلة التي ذكروها، أو التي يُحتمل أن يستدلوا بها، مشيراً إلى ثغراتها ونقاط ضعفها، وبالتالي عجزها عن البرهنة على المنع. ويحتمل تأثر الفقهاء في موقفهم هذا بالخلفية الكلامية السائدة عندهم حول الإمامة والخلافة. وقد أفرد لهذا البحث كتاباً مستقلاً طبع تحت عنوان (أهلية المرأة لتولي السلطة).

وكذلك رأيه حول مشروعية تولي الأكفاء المخلصين من غير المسلمين من حاملي جنسية الدولة الإسلامية ومواطنيها مناصب قيادية تنفيذية، مخالفاً بذلك الرأي الفقهي المشهور عند الشيعة، وقد أفرد له فصلاً في كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) تحت عنوان: (الخيار بين الكفاءة المهنية والإخلاص الديني).

ومن روائع بحوثه وابتكاراته العلمية الفقهية كتابه حول الجهاد (جهاد الأمة) والذي قرّر فيه إنكار مشروعية الجهاد الابتدائي، وهو القتال المبتدأ من المسلمين لأجل الدعوة إلى الإسلام بإدخال الكفار فيه وحملهم على اعتناقه، أو إخضاعهم لسلطان الإسلام بأداء الجزية إن كانوا من أهل الكتاب، وإنّما سمي ابتدائياً لأنه يتم بدون عدوان مسبق من الكفار على المسلمين.

ورغم اتفاق الفقهاء سنة وشيعة على انقسام الجهاد إلى قسمين: ابتدائي ودفاعي، إلاّ أنّ الشيخ شمس الدين ينكر هذا الانقسام ويرى أنّ الجهاد المشروع في الإسلام واحد هو الجهاد الدفاعي، وأن لا مشروعية للجهاد الابتدائي.

ويناقش كل الأدلة التي اعتمدها الفقهاء في رأيهم من آيات وروايات وسيرة وإجماع مناقشة علمية مستوعبة، بمنهجية رائعة شيقة.

في ساحة العمل السياسي:
لم يتزعم الشيخ شمس الدين تنظيماً سياسياً، ولا قاد ثورة جماهيرية، ولم يدخل ضمن تشكيلة حكومية، لكن حضوره السياسي كان بارزاً ملفتاً في أكثر من ساحة عربية وإسلامية، خصوصاً في هذا العقد الأخير.

لقد أصبح مرجعية دينية سياسية ينظر لها بإكبار واحترام، فهو صاحب رؤية سياسية، ذات عمق فقهي ديني، إنه يستشرف الأحداث، ويواكب تطوراتها، فيكتشف الإشكاليات مبكراً، ويحذر من المؤامرات والأخطاء قبل وقوعها، ثم يجتهد كثيراً في وضع المعالجات وتقديم الحلول، بنظرة واقعية، مؤصلة من الناحية الشرعية.

إن الموقف الصلب والثابت من الكيان الصهيوني الغاصب، يعتبر محوراً رئيساً في تفكيره وحركته السياسية، فوجود هذا الكيان العدواني في قلب الأمة العربية والإسلامية، يعتبره الشيخ أكبر تحد للأمة في هذا العصر، والاستجابة لهذا التحدي تعني تعبئة طاقات الأمة للمقاومة، لذلك تبنى الشيخ مشروع المقاومة المدنية الشاملة، فمواجهة إسرائيل لا تقتصر على العمل الحربي، ولا تنحصر في القوى العسكرية، بل هي مسؤولية كل الأمة بكل قطاعاتها وجوانب حياتها.

ولذلك يجب أن تجمّد الأمة كل خلافاتها الجانبية، وصراعاتها الداخلية، لتتفرغ لإدارة معركتها الأساسية ضد الصهاينة الغزاة المعتدين.

وعلى الصعيد اللبناني ومع ضغط القوى الطائفية المتصارعة، واشتداد محنة الحرب الأهلية السيئة الذكر، التي عاشها لبنان طيلة خمسة عشر عاماً، إلا أن الشيخ شمس الدين ناء بنفسه عن الانغماس في أوحالها، أو التلوث بأوساخها، وبقي أباً وراعياً لجميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ومن مختلف الفرقاء والفئات، يدعوهم إلى ضبط انفعالاتهم وعواطفهم، وأن يتخاطبوا بالمنطق والحوار، لا بالسلاح والعنف. وحينما استعاد لبنان عافيته بعد اتفاقية الطائف، واصل الشيخ نشاطه في حماية السلم الأهلي، وتكريس صيغة التعايش المشترك على أساس أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.

وكتاباته وخطبه ومقابلاته الإعلامية وتصريحاته السياسية، ستبقى خير كنز وذخيرة للبنانيين، تعينهم على حماية تجربتهم المتميزة، وتساعدهم على مواجهة الأخطار والتحديات.

المشكل الطائفي:

ولعل من أهم المواقف والأدوار السياسية التي قام بها الإمام شمس الدين، دوره في معالجة المشاكل الطائفية التي تعاني منها العديد من المجتمعات الإسلامية، وكان ينطلق في حركته من المبادئ التالية:
1- إن تعدد المذاهب وانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة ليس أمراً جديداً بل قد حصل منذ العهود الأولى في تاريخ الأمة، وهذا التعدد المذهبي لا يصح أن يشرخ وحدة الأمة، أو يشق صفها، بل يجب أن تبقى أمة واحدة كما أمر الله تعالى ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. خاصة مع التحديات الكبيرة التي تواجهها والأخطار الشديدة المحدقة بها.

2- والتمايز المذهبي لا ينبغي أن يترتب عليه أي تمايز أو تمييز في نظام المواطنة من حيث الحقوق أو الواجبات.

3- والأقليات المذهبية سنية أو شيعية يجب أن تبقى جزءاً من محيطها، وأن يكون ولاؤها السياسي لوطنها ومجتمعها.

4- كما تحتاج الاقليات إلى المبادرة والسعي لإزالة أي لبس أو سوء فهم يحصل حول واقعها وأوضاعها، وأن تقدم عن نفسها الصورة الصحيحة الواضحة، فلا تترك المجال للمغرضين والأعداء الذين يصطادون في الماء العكر، ويصطنعون الفتن والمشاكل.

5- كذلك فإن على الأكثرية أن تعترف للأقليات بخصوصياتها المذهبية، وأن تمنحها الشعور بالأمن والاطمئنان حتى لا تستجيب لأي تحريض داخلي أو خارجي، ولا تفكر في الإستقواء بأي جهة خارج محيطها.

6- والانفتاح والحوار هو السبيل لتجاوز حالات الاحتقان، واحتواء أي مشكلة أو تشنج طائفي مذهبي. ذلك أن التباعد والقطيعة تفسح المجال لسوء الظنون، والإشاعات المغرضة، وتقيم الحواجز بين النفوس.

وانطلاقاً من هذه المبادئ قام بمبادرات عديدة، في الانفتاح على الحكومات، واللقاء مع الزعامات الدينية والسياسية، في العالم العربي والإسلامي، وسارع لاحتواء بعض الأزمات ذات الصبغة المذهبية، كما حدث في مصر حيث أُعتقل مجموعة من الأشخاص المتشيعين، ورافق ذلك ضجة إعلامية، تعزف على الوتر الطائفي، فقام (رحمه الله) بحركة سريعة للالتفاف على هذه المحاولات، وتواصل مع القيادة السياسية والدينية في مصر، وترتب له برنامج لزيارة القاهرة، حيث تحدث مع المسؤولين لمعالجة الموقف بحكمة ونضج، وحقق بذلك نجاحاً باهراً يسرّ قلب كل مسلم غيور على وحدة الأمة، مهتم بمصلحة الإسلام والمسلمين.

وضمن هذا السياق كانت له زيارات متكررة لدول الخليج، كما بذل مجهوداً فكرياً وإعلامياً ضخماً، لتوعية جماهير الأمة من السنة والشيعة بأضرار الفتن الطائفية، وضرورة الالتزام بمبادئ الدين وتعاليمه في أخلاقيات التعامل داخل المجتمع الإسلامي، لحماية وحدة المجتمع، وضمان أمنه واستقراره، وحماية مستقبله ومصالحه.

وأهم ما يميز طروحات الشيخ شمس الدين ومواقفه السياسية، تأصيله لها من الناحية الشرعية الفقهية، فهو لا يطرحها انطلاقاً من تكتيك سياسي، أو مصلحة مرحلية، بل يستنبطها من نصوص الكتاب والسنة، وضمن مناهج الاستدلال العلمي وحسب ضوابطه، ويطالب الفقهاء المسلمين بإمعان النظر في استنباط الأحكام الشرعية المرتبطة بالمواقف السياسية، حتى لا تكون متأثرة بأجواء انفعالية، أو آراء متوارثة من عهود التخلف والصراعات التاريخية. يقول (رحمه الله): (والتمس من ساداتي وأخواني العلماء، ومن المشتغلين بعلم الحديث، ومن المفكرين، أن يعيدوا النظر في النصوص التاريخية والتشريعية، الواردة في المسألة السياسية، ليروا كما رأيت وأرجو أن أكون قد أصبت..)[8] .

هكذا كان نهجه في الجهاد والحركة السياسية، والذي يجب أن يتحول إلى مدرسة في الرؤية والتحليل، وتأصيل المواقف حسب فقه الشريعة المقدسة.

وكان (رحمه الله) حركة دائبة، لجمع الشمل، ورأب الصدع، ورغم اصابته بالمرض الخطير في الاشهر الاخيرة من حياته، الا انه كان يرهق نفسه بالاتصال والتواصل، والاستقبالات وعقد القاءات، مخالفاً نصائح الاطباء، حتى اليوم الاخير، حيث دخل في غيبوبة نقلته الى الرفيق الاعلى.

رحم الله الشيخ الفقيد، وجزاه خير الجزاء على جهوده وأتعابه، ووفق الأمة للاستفادة من تجربته الثرية الناضجة والحمد لله رب العالمين