الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

نظرية ولاية الفقيه السياسية ضحية تناقضاتها

همايون كتيرائي
عن موقع ايران امروز
من المؤكد أن آية الله الخميني عندما كتب مؤلفه "الجهاد الأكبر" المكرّس لنقد المشاكل
الأخلاقية وسلوك رجال الدين، لم يفكر باحتمال أن تتعرض نظريته السياسة إلى موجة من النقد في هذه النقطة بالذات. والآن وبعد مرور ثلاثة عقود على تأسيس نظام ولاية الفقيه، فلم يعد هناك حاجة إلى إثبات اجراءات ولاية الفقيه المتمثلة بالتصفية الجسدية وغير القانونية لمنتقديه ولكل النشطاء السياسيين، وتعذيب السجناء والتجاوز على النساء والرجال السجناء، وفبركة الملفات الأخلاقية والمالية والسياسية للمنافسين والمخالفين، واللجوء إلى أساليب الكذب وتوجيه التهم وبث الاشاعات، وانكار الحقائق وتقديم احصائيات غير صحيحة للشعب، والتصرف بالموارد العامة، وكل الخروق التي لها مساس مباشر بالأخلاق السياسية، وهي تصرفات أضحت بادية للعيان ولا يمكن انكارها.
عند نقد وتحليل مثل هذه العملية، فمن الممكن الرجوع إلى سياق بعض الاصلاحيين والمنتقدين، وتحليل مواقف الحكام، وفي نهاية المطاف التطرق إلى عدم الالتزام بالقانون الأساسي والقوانين والقرارات الجارية. ولكن عندما نواجه بالسؤال التالي عن سبب عدم تطبيق القوانين بعد ثلاثة عقود والتي أصبحت المشكلة الأساسية في نظام ولاية الفقيه، فإننا سوف لا نحصل على جواب شاف ومقنع. من الممكن أن نستذكر قول آية الله الخميني بعد عدة سنوات من عدم تطبيق القوانين، حيث عبّر عن أمله بأن يعود الجميع إلى الالتزام بالقوانين، هذا الالتزام الذي لم يتمسك به آية الله الخميني واستمر الأمر على هذه الشاكلة طوال العقود الماضية.
ولكننا ندقق في هذا المقال ، قبل تناول فعل وسياسة الحكام، في الأسس النظرية لمبدأ ولاية الفقيه الذي مهد الطريق لممارسة هذه الأفعال وما تبعها من خروق قانونية. وبعبارة أخرى فإننا لا يمكن أن نعزو استمرار مثل هذه العملية طوال ثلاثة عقود إلى سوء الإدارة، بل يجب النظر إلى البناء الذي احتضن مثل هذا الانهيار الاخلاقي، والذي مهد له نظام ولاية الفقيه والذي يتطلب تقييمه. وحتى إذا تمتعنا بأعلى حالات حسن النية وافترضنا أن لولي الفقيه بعداً أخلاقياً، ونفترض تولي شخص مثل محمد خاتمي منصب ولاية الفقيه، فإننا لا نستطيع أن نتجنب إعادة انتاج الأساليب والسلوك غير الأخلاقي في نظام ولاية الفقيه.
التناقضات العملية في نظرية ولاية الفقيه
إن من اطلع على كتاب ولاية الفقيه وقرأ واستمع إلى خطابات ورسائل آية الله الخميني قبل عام 1978، فسوف لا يتردد بالقول إن رؤيته للنظام كان مبنياً على الفقه الشيعي، والذي يؤكد على أن من يتولى هذا المنصب هو فقيه يجمع كل الشروط. وكانت مجمل خطاباته تدور حول هذا المحور القائل بأن الفقه الشيعي يتمتع بإمكانية بناء نظام سياسي اجتماعي، وإذا ما توفرت الفرصة لرجال الدين، فإن هذه الإمكانية الكامنة ستبرز للعيان. إن هذا الادعاء كان سارياً حتى ثورة عام 1978. ولكن ما إن بدأ تشكيل نظام ولاية الفقيه، واجه آية الله الخميني عملياً المشاكل الصغيرة والكبيرة التي يعاني منها المجتمع الإيراني. ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى برز إلى العلن مأزق الفقه الشيعي في إدارة النظام السياسي والاجتماعي.
إن أكبر عقدة واجهت هذا المشروع هي أن الأحكام الفقهية طوال قرون عديدة لم تعالج الحياة الاجتماعية، بل كانت تعالج حياة الفرد. فهذا الفقه لم يطرح حلولاً لإدارة المجتمع، وذلك لأن أهم عامل في إدارة المجتمع لم يجد له مكاناً في الفكر الفقهي. هذه المشكلة التي حاول آية الله النائيني أيجاد حل خاص لها في مرحلة ثورة المشروطة.
ففي الفكر الكلاسيكي والتاريخي للشيعة حُدد تشكيل الدولة كلياً ضمن اطار خيارات الإمام المعصوم. وبالنظر للاعتقاد السائد بغيبة الإمام، فإن الفقهاء قرروا عدم الخوض في هذا الموضوع لحين ظهور الإمام، لاعتقادهم بأن أية حكومة تتسلم زمام الأمور في عصر الغيبة، تعتبر حكومة غاصبة لحق الإمام المعصوم.
وبالاستناد إلى هذه الجذور، فإن نظام ولاية الفقيه محروم من أي سند نظري وتاريخي، وإن الحديث عن الفكر الفقهي في هذا المجال لا يتمتع بالجدية.
وهذا ما انعكس في مقاومة التيار التقليدي والكلاسيكي للحوزة لقرارات نظام ولاية الفقيه، ومعارضة مجلس الحراسة لقرارات أصدرتها الحكومة والمجلس. ولذا وقع الإمام الخميني في مأزق متزايد، مما دفعه في أكثر من خطاب وبوضوح إلى الاعتراف بعدم قدرة الفقه التقليدي على إدارة نظام الحكم والنظام الاجتماعي، وسعى عن طريق اللجوء إلى بعض التكتيكات للخروج من هذا المأزق. فعلى سبيل المثال أفتى الخميني في حالة أن اتخذ مجلس الحراسة قراراً شرعياً بعدم شرعية قرارات مجلس الشورى، بأن يتم الموافقة على هذه القرارات في حالة موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشورى عليه. وعندها يصبح من غير الممكن لمجلس الحراسة التصويت بنقض هذه القرارات.
نظرية حفظ النظام، تحريفية كبيرة
بعد أن بان التعارض بين نظام ولاية الفقيه وبين الفقه التقليدي، وأصبح واضحاً أنه من غير الممكن حل مشاكل النظام بالنظريات الفقهية، لم يبق أمام آية الله الخميني سوى طريقين. الطريق الأول التراجع أمام المرجعية التقليدية للحوزة واشراكها في الحكم، والثاني الاعتراف بصدق أمام الرأي العام بفشل نظرية ولاية الفقيه.
إن الطريق الأول، في ظل المواجهات التاريخية لآية الله الخميني مع النسيج التقليدي للحوزة، أي طريق الشراكة مع المنافس والعدو الداخلي في مشاريع بُذلت من أجلها السنوات لتحقيقها وتحملوا جهوداً كبيرة، فهو لم يكن مقبولاً من قبل آية الله الخميني. فإن صراعه العنيف مع المرجعيات المنافسة ومن ضمنهم آية الله شريعتمداري وآية الله الخوئي وآية الله القمي وآخرهم آية الله منتظري يدل على أنه من غير الممكن تحمله حضور هذه المراجع على رأس هرم الحكم.
أما الطريق الثاني وهو التراجع عن نظرية ولاية الفقيه فهو خيار كبير، بمعنى أن يتخلي عن دعواته التي طرحها منذ شبابه وحتى السنوات الأخيرة حول نهجه الأصلي.
ويبدو أنه لو اعترف بخطأ نظريته، ونظراً لتعلق المجتمع به في تلك الفترة، فإنه فسوف لا يحذف على الإطلاق من الميدان السياسي، بل وبفعل الظروف في تلك الفترة أن يظل الخميني يمارس دوره السياسي كزعيم وطني.
ولكن آية الله الخميني رجّح عدم اختيار أي من الطريقين، بل وسعى عن طريق الالتفاف الكبير على رؤياه النظرية كخيار للخروج من هذا المأزق. وفي الواقع فقد أخذ على عاتقه اعادة النظر في اساسيات تفكيره، ولم يوكل ذلك إلى من يخلفه على غرار ما قام به الايديولوجيون المعاصرون.
وبعبارة أخرى فقد جرى ما يصطلح عليه في ثقافة اليسار منحى "التحريفية" على يد مؤسس النظرية وليس على يد من خلفه في إدارة المجتمع، كمثال خروشوف مقابل ستالين ودنغ زياو بينغ مقابل ماو. إن آية الله الخميني بتحريفه للبناء النظري لولاية الفقيه قد تراجع عن ما ورد في كتابه ولاية الفقيه. فهو عندما يطرح مسألة حماية النظام بمثابة المهمة الأولى، فذلك يعني تخلي حكومة ولاية الفقيه عن مهمتها الأصلية كخادمة ومنفذة للفقه. كما يبرز تناقض كبير يتمثل في أنه لو لم يكن بالامكان تحقيق الفقه بشكله التقليدي، فما هو الامتياز الذي يتمتع به حامل الفقه أي الفقيه مقارنة بالآخرين بحيث يصبح ماسكاً بزمام أمور الحكم؟
لقد جرى تجاهل هذا السؤال ولم يطرح في المجتمع، فظروف الحرب التي سادت على المجتمع المأزوم، من قبيل الدفاع عن السيادة وتجنب الانهيار السياسي قد طغى على الأمور الأخرى ولم تسمح بمناقشة مثل هذه الأمور. ويضاف إلى ذلك فإن جزءاً كبيراً من المثقفين، وخاصة من ذوي الاتجاهات الدينية، استقبلوا هذه التحريفية، بقدر ماهي قد تحد من دور رجال الدين التقليديين في الحكم.
مصلحة النظام والتوجه
نحو البرغماتية
بعد أن أعاد آية الله الخميني النظر جذرياً في موقفه السابق من ولاية الفقيه، بادر إلى تكييفه مع معيار حفظ النظام، واللجوء إلى كل الوسائل للحفاظ على الحكم بذريعة مصلحة النظام، واعتبر ذلك أمراً مباحاً. ولذا أقترح تغييراً في القانون الأساسي المتعلق بالمؤسسات، وقدم اقتراحاً بتشكيل ما سمي بـ"مجمع تشخيص المصلحة". وطبقاً لثقافة ولاية الفقيه ففي أي وقت تطرح مسألة المصلحة فذلك يعني أنه لا يوجد حل أصولي وله ما هو مشترك مع القواعد الفقهية. وعندها ينبغي اللجوء إلى حاجات النظام. وهذه الحاجات هي من الكثرة بحيث تبرز الحاجة إلى تأسيس مؤسسات لذلك.
وبعبارة أخرى فإن نظام ولاية الفقيه لم يستطع أن يبدو وكأنه على غرار حكومات صدر الإسلام يعمل على أساس معايير الكتاب والسنة النبوية، لأنه راح مضطراً وضمن احتياجات حكمه إلى اختيار المعايير التي يعمل على ضوئها. لإن هذه البراغماتية بحد ذاتها يمكن أن تشكل تحولاً منطقياً لحل المشاكل التي يواجهها النظام. ولكن بما أنها ارتبطت بالبراغماتية فإنها راحت ترسي تدريجياً الأرضية كي يضع نظام ولاية الفقيه رجليه على جادة الانهيار.
وفي الواقع إن التيار الحاكم لم يكن مستعداً لتسليم الحكومة إلى الآخرين، وعلى الرغم من المأزق النظري والعملي لولاية الفقيه، فإنه مازال يرى نفسه الأحق بالجلوس على كرسي الحكم. وبعبارة أخرى، فبعد إعادة النظر بشكل كبير بنظرية ولاية الفقيه من قبل آية الله الخميني، فقد فَقَد موضوعيته في كل شيء اسمه تطبيق الفقه التقليدي وحل محله مصلحة النظام. ولذا فإن التيار الحاكم لم يعد يستطيع انطلاقاً من الأحقية الأيديولوجية أن يصف الآخرين بعدم صلاحيتهم لتولي الحكم.
ومن هنا بدأت الاستنسابية في نظام ولاية الفقيه بالنمو، أي أن الحكام تلبسوا بلباس يدركون جيداً أنه غير مناسب لهم. وبتعبير آخر اذا كانت كلمة الفقيه تعني الايمان بالفقه والعمل به، ولكن بعد أن وضُعت مصلحة النظام في المقدمة ووضِع النظام الفقهي جانباً، فعندها أصبحت البراغماتية وشهوة الحكم هي السائدة.
إن من ارتبطت أرواحهم بعجين الثقافة التقليدية والمذهبية يدركون جيداً عواقب تقديم حماية النظام على بعض اركان الدين. وفي الواقع اذا كان حفظ النظام يتخطى الصلاة والصوم والحج، فيمكن تجاهل العديد من المقولات الأخرى. وهذه بداية لما أشير في بداية المقالة إلى "الانهيار النظري السياسي لولاية الفقيه".
وهنا وقبل أن نتابع مصداقية الانهيار لهذا النظام في أمثلة ملموسة، نود أن نشير إلى أن إعادة النظر ووضع الأولوية لموضوعة السلطة، لا تعني إلاّ تخطي الحدود الأخلاقية.إن تقديم الأولوية لحفظ النظام يفتح كل الطرق بوجه القيام بأي عمل من أجل تحقيق هذا الهدف. وأصبحت المصلحة وحفظ النظام بمثابة باب يولج من خلاله كل شيء دون أن يتقيد ويتحدد بأي فقه وقواعد وأصول حقوق الإنسان والقوانين المدنية.
إن آية الله الخميني في طرحه للولاية المطلقة في مقابل الولاية المحدودة (المحدودة بالإطار الفقهي )، أجاز للنظام السياسي أن يعبر كل الحدود العرفية والشرعية من أجل الحفاظ على بقائه. وهذا ما جرى طوال العقود الثلاثة الماضية حيث لم يتردد اركان النظام عن اللجوء إلى كل الأساليب بذريعة حفظ النظام. وراوحت ممارسات هؤلاء من تقديم الإحصائيات الكاذبة إلى التستر على الوقائع بدعوى أن ذلك يتعارض مع مصلحة النظام. ومارس هؤلاء أساليب تراوح بين التدخل في الشؤون الشخصية للشعب إلى التلصص على الحياة الخاصة تحت ذريعة مكافحة المنكرات. هذه الاتهامات التي طالت حتى شخصية مثل آية الله منتظري وبدون أدلة سوى ذريعة عدم استيعابه لنظرية ولاية الفقيه التي تحتاج إلى اتخاذ تكتيكات وأساليب حتى ولو كانت غير مألوفة من أجل حفظ النظام. أي، وحسب تعبيرهم ، أن لا يُصب الماء في طاحونة الأعداء والمنتقدين.
إن كل محتوى المقالة يدور حول ذلك الكم الهائل من الأساليب غير المألوفة في ستراتيجية النظام الحالي وتكتيكاته، وقبل الحديث عن سوء الإدارة لدى فرد أو أفراد في النظام. فالحديث يدور حول الأساس النظري الذي بني عليه نظام ولاية الفقيه المطلق. وما دام هذا البناء قائماً وبدون نقد، فسيجري إعادة توليد الأساليب السابقة. وسوف لا يؤدي التغيير في أقطاب الحكم إلى حل مشكلة النظام السياسي لولاية الفقيه المطلقة.