شمس الدين الكيلاني
لم يكن بمقدور المثقف السوري أن يتنبأ بمدى التبدل الذي سيصيب الجغرافية السياسية لبلاد الشام بعد الحرب الكونية الأولى، انجذب هذا المثقف للجمعيات العربية وانشد إلى ثورة الشريف حسين، كان يأمل على الأقل بدولة تضم بلاد الشام، أو بلاد آسيا العربية تحت راية الهاشميين. منذ تأسيس الكيانات: عندما ألَّف فيصل حكومته الأولى، ضمت في صفوفها رياض الصلح اللبناني وزيراً للداخلية، إلى جانب ذلك أجمعت أحزاب العهد الفيصلي في سورية على رفع شعار وحدة "سورية الطبيعية"، وحافظت حتى نهاية الثلاثينيات على هذا الهدف، دون إغفالها الهدف الأبعد: الوحدة العربية. ينطبق الأمر نفسه على الكتلة الوطنية، التي تأسست بعد الثورة السورية الكبرى، وانضم إليها الكثير من شخصيات حزب الشعب والاستقلال، والوطني السوري. عقدت شخصياتها مؤتمراً لها في بيروت في 27 تشرين الأول 1927م، برئاسة هاشم الأتاسي، حضره من الجانب اللبناني كلاً من عبد الحميد كرامي، وعبد الله اليافي، وعبد الرحمن بيهم، ومظهر أرسلان قرر فيه المؤتمرون خوض الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب جمعية تأسيسية باسم الكتلة الوطنية في تموز عام 1928م، وعند فوزها بأكثرية مقاعد الجمعية التأسيسية صاغت دستوراً نص على وحدة البلاد السورية، فحذف منه الفرنسيون ست مواد بداعي تعارضها مع أوضاع قامت في لبنان وفلسطين وشرقي الأردن. لكن نتيجة لما أفرزه الانتداب من وقائع، وانخراط النخب السياسية المدنية ممثلة بـ"حزب الكتلة الوطنية" في عمليات التفاوض للوصول إلى معاهدة تعاقدية، انصرفت النخب النافذة في سورية للبحث عن أقصر السبيل لنيل الاستقلال، مع اقترانه بشعار الوحدة العربية، دون المرور بوحدة سورية الطبيعية، أو بالوحدة بلبنان. أما المثقف القومي الراديكالي، أو المثقف الإسلامي التقليدي والإصلاحي، فقد حافظ على نظريته إنكاره للحدود القائمة باعتبارها زائلة بزوال الاحتلال، فبرز في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، مثقفون قوميون راديكاليون، أبرزوا قضية الوحدة العربية في مقدمة عملهم. فظهرت (عصبة العمل القومي)، في 1933م، خرجت ببرنامج قومي راديكالي، كان بمثابة التربة التي استقت منها الأحزاب القومية (القوميين العرب، والبعث) بعض توجهاتها، شدَّد برنامج العصبة على تأليف دولة العرب الكبرى دون احترام للتنوعات والخصوصيات القطرية والثقافية والمذهبية. وفي بداية الأربعينيات، على إثر التصدعات التي أصابت (العصبة)، ظهرت النواة المؤسسة لحزب البعث، الذي دمج بين مسألتي الوحدة والاشتراكية، والطريقة الانقلابية للوصول إلى بعث الأمة عبر استعادة وحدتها، ثم ظهرت حركة القوميين العرب في مناخ النكبة بنواتها الفلسطينية - السورية الصلبة، وضعت الوحدة العربية في سلم أولوياتها، وإلى جوار هذا التوجه اختار جماعة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس في 16 تشرين الثاني 1932م) وحدة سورية الطبيعية. فتضاءل في برامج تلك الأحزاب العقائدية الاهتمام الملموس والبرامجي، بمصير العلاقة اللبنانية - السورية، بعد أن وضعوا تلك العلاقة في سياق رابطة أشمل: الوحدة العربية، أو وحدة البلاد الشامية. وبموازاة ذلك، اتجهت النخب النافذة المعبر عنها بالكتلة الوطنية، إلى الإفلات من البحث الشائك عن المصير المشترك: اللبناني السوري، لمصلحة التعاضد بين البلدين للوصول إلى معاهدات منفردة لنيل الاستقلال، واكتفت بالطرح النظري لمسألة الوحدة العربية. الانتقال من التكامل إلى التباعد: عندما دخلت جيوش فرنسا إلى لبنان، كان يربط المشرق العربي نوع من وحدة اقتصادية، تشمل متصرفية جبل لبنان، فأبقت السلطات الفرنسية الوضع الاقتصادي على ما كان عليه، وكرَّست التعامل بالليرة السورية في البلدين، وأبقت دائرة الجمارك واحدة، والتشريع الجمركي والاقتصادي واحد. لكن ما أبقاه الانتداب من وحدة اقتصادية بين البلدين، فرقته نخب الطبقة الوسطى الليبرالية، منذ إمساكها مقاليد الأمور بعد الاستقلال، فعندما التقى ممثلو الحكومتين: الجانب السوري (سعد الله الجابري وجميل مروم)، واللبناني (رياض الصلح)، في عام 1943م، قرَّروا فصل سائر المصالح التي كانت موحدة تحت الإدارة الفرنسية، وعقدوا بدلاً من ذلك الوحدة الجمركية، ثم تولى خالد العظم إلغاء هذه الوحدة الجمركية، في آذار 1951م. بموازاة هذا الانتقال إلى التباعد الاقتصادي، جرى انتقال مماثل على الصعيد السياسي، فقد تماثلت مدوناتهما التاريخية السياسية، فمن ثورة العشرينيات إلى معاهدة 36، إلى العهد الوطني 1943م، إلى الجلاء عام 1946م، ثم مع بداية العهد الوطني، انجذبت النخب الليبرالية السورية نحو المجال العربي دون المرور بالعلاقة اللبنانية. تجلى ذلك في برامج الأحزاب التي نشأت عن تفكك الكتلة الوطنية، اتجهت النخب السورية في أغلبها باتجاه المحيط العربي الأكبر، ونظرت إلى العلاقة مع لبنان على أنها مجرد جزء من العمل الوحدوي العربي الشامل. من تماثل الحياة السياسية إلى انقطاعها 1949م ـ 1954م: رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجددان دائماً ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري .ما لبث الوضع أن انقلب برمته مع الإطلالة الأولى لحكم العسكر في ما بين 1949م ـ 1954م ، عندها حدث نوع من الانقطاع بين الحياة السياسية لكلا البلدين، دخلت سوريا حينها في حقبة حكم الثكنة للمدينة. ولكن في هذا العهد بدأت تزهو صورة لبنان وبيروت في نظر النخب السورية، ولا سيما المعارضة منها، إذ بدأ يُنظر إلى بيروت على أنها الملجأ من اضطهاد العسكر، وتزايدت قيمة الحرية البيروتية في كل انقلاب، والتجأ إلى بيروت وجوه كثيرة من المعارضة السورية عندما كان للديموقراطية قيمتها الكبرى في أذهان أغلب النخب السورية، قبل أن ينزلها الزمن التقدمي إلى أسفل سافلين! كل الدروب تمر بالقاهرة: تخلصت سوريا من حكمها العسكري عام 1954م، واستعادت حياتها الديموقراطية، في مناخ عربي جديد، افتتحته حركة 23 يوليو بقيادة ناصر، وفي عام 1956م خرج عبد الناصر من اختبار العدوان الثلاثي زعيماً بدون منازع للعرب، تحولت بعدها القاهرة إلى مركزٍ للعمل الوحدوي والقومي. فتجاذبت النخب السورية ما بين 1954 ـ 1958م خيارات عدة للوحدة العربية لم تمر أي منها في بيروت، كان هناك الخيار العراقي: حزب الشعب، وخيار الهلال الخصيب (مع الأردن)، إلى أن استقر الخيار الحاسم على مصر الناصرية، التي خاضت مع سوريا جنباً إلى جنب المعركة ضد الأحلاف، وفي غمار هذه المعمعة تقارب هذان المركزان، وإنقادا إلى وحدة1958. لقد استقطبت زعامة عبد الناصر أغلبية الشعب السوري، بما فيها قواعد أحزاب: الشعب والوطني والبعث، والإخوان والشيوعيين. وساندت هذا الخيار الكتل المختلفة في الجيش التي أثخنتها الانقلابات، والكتلة الشعبية الأساسية، وانحنى للعاصفة الشعبية قادة الأحزاب المختلفة، أما العلاقة مع لبنان فلم تعد سوى تفصيل ضئيل أمام الطريق إلى الوحدة العربية، وبالمقابل غلبت على القوى الوحدوية اللبنانية، والكتلة الإسلامية نزعة الولاء للقاهرة، وليس دمشق، وظل هذا الحال حتى وفاة عبد الناصر وتحول السادات. راقبت النخب القومية في سوريا تداعيات أحداث الوحدة، فشهدت حوادث 1958 في لبنان بتشجيع من السراج، غير أنها عقب دروس هذه الحوادث المؤلمة، أخذت موقفاً إيجابياً من الرئيس شهاب، ولم تعد تتوقع أن يكون لبنان رافداً إضافياً للوحدة، بل اتجهت أنظارها نحو العراق، بعد أن اندلعت حركة 14 تموز في العراق، إلا أن العراق أخذ وجهة أخرى تحت قيادة قاسم. وحدها النخب البرجوازية الليبرالية بعد أن تضررت من تأميمات 1961م، وجدت في لبنان متنفساً لها أمام ضيق سبل التعبير لديها، وحرية الاستثمار، أما الكتلة الشعبية الأساسية، فكان ولاؤها لعبد الناصر وللوحدة حاسماً، هانت دونها مسألة الحريات العامة، وهو ما يؤشر إلى بداية تضاؤل قيمة الديموقراطية في عيون النخب القومية السورية. وهنا ظهر بعض التباين في موقف البرجوازية اللبنانية الإسلامية عن زميلتها السورية من عبد الناصر، وزاد شعور النخب السورية بكل تلويناتها بتوطد الدولة اللبنانيةوالاعتراف العملي باستقلالها. أما في في فترة الانفصال 1961 -1963 فقد عادت النخب الليبرالية السورية، المألوفة لدى النخب الحاكمة في لبنان، إلى الحكم، وعادت الحياة البرلمانية والحريات العامة، في مناخ سياسي مضطرب متقلب مُهدَّداً من العسكر، ومن الحركة الناصرية الوازنة، أما العلاقة بلبنان فلم تكن (موضوعاً) للنقاش والاختلاف، في ظل هيمنة الجدل الصاخب حول العلاقة مع مصر عبد الناصر! صعود نخب جديدة مع انقطاع لغة التخاطب1963م ـ 1971م: تدهور حال النخب الليبرالية السورية، التي عرفتها النخبة اللبنانية واعتادت التعامل معها، وطال هذا التدهور للنخب قادة الحزب الوطني، وحزب الشعب، وإلى جوارهم الشيوعيون، لتأييدهم الانفصال، لم يسلم منه أبرز قادة البعث أكرم حوراني، وصلاح البيطار، وهذا ما أحدث فراغاً هائلاً في الزعامة، فبدأت دورة تجديد النخب فاجترح الشارع قيادات جديدة للتعبير عن توجهاته الناصرية الوحدوية، وتقدَّم الجيش في 8 آذار 1963م، للمشاركة في ملء ذلك الفراغ، وليعلن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، وتاريخ علاقات نخبها الجديدة بملامحها الراديكالية المتجهمة بلبنان. سيطرت (الثقافة التقدمية) لتلك النخب بوجوهها المتصلبة، وجملها القاطعة ويقينها الثابت بطلائعيتها للأمة! ونظرت النخب المضطهدة إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، في وقت ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق، فأقامت فيها روحاً وأحياناً جسداً. وبقي البعث الممسك بالسلطة حذراً من المناخ الحر للجار اللبناني اللدود، لا يجد اللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها مع نخبه الحاكمة، فهي ليست عنده سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعبد الناصر، وهو المنافس الأخطر له، كما وجد الأبواب موصدة أمام علاقاته مع ما سُمِّي القوى الوطنية والإسلامية التي رأت في القاهرة المرجع للعروبة، من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبد الناصر لتوقيع اتفاقية القاهرة وليس إلى دمشق. إلا أن خبرة الأيام علمت المثقف السوري، في صوره المختلفة، قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وطرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم. التدخُّل في (الساحة اللبنانية): استلم الأسد السلطة عام1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت سقف قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين 1973م، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، إثر غياب دور مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لنهوض العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يساند (للجبهة اللبنانية)، لضرب المقاومة الفلسطينية، ولـ(لحركة الوطنية اللبنانية). فكان لهذا الحدث وقعه الكبير على السوريين انتهت به مرحلة التوافق الوطني النسبي الممتدة منذ عام 1970م، انقسمت بدلالاته البلاد، وقفت السلطة وحلفاؤها في (الجبهة الوطنية التقدمية)، في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبر المثقفون السوريون آنئذ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضا لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرع صغير من اهتمام هذه النخبة. وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره هذا بقوله: "أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل إلي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة، جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت تستهدفه بلا شك". أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم أن ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلا تكراراً أكثر مأساوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام، وفضل بعضهم، مثال خالد العظم، أن يدفن في لبنان، اعترافاً بالجميل للبلد الذي رقد فيه حتى نهاية العمر، في زمن خفت فيه صوت الحرية والقيم الديموقراطية. تحولات في النظرة: بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السوري، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت لافتة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، الذي "كان أفضل حالاً من كل الإمبراطوريات العربية، وكان عليه بسبب ذلك أن يدفع الثمن غالياً، فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات". على الرغم مما واجه الحياة السياسية السورية حالة من الانطفاء، في ظل محنة الثمانينبات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان عافيته وحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، ولا في شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان. مع العهد الجديد: تجدد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في كلا البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبددت، مع استعادة هيمنة دورة الدولة الأمنية الأوامرية آلية عملها. في الداخل وفي العلاقة بلبنان، وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة بالحرية وبخروج القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، ولقد راقبت النخب السورية المعارضة بالإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم. وإذا كان المثقفون السوريون المعارضون لم يستطيعوا تغيير أداء السلطة تجاه لبنان، فإنهم نأوا بأنفسهم عنها، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، ودعوا السلطة إلى سحب قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه " إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية -السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة, دون تدخل في الشؤون الداخلية، ثم دعا "إلى الاستجابة لإرادة الشعب اللبناني". بينما شجَّع أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين ناكري الجميل! وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في اكتوبر 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه بشأن لبنان إلى "تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين". ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت - دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم المعتقل! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج التسلطي الأوامري للسطة السورية.