العصيان المدني فعل إيجابي يلتزم عدم العنف ويهدف لنزع الشرعية عن حاكم فقد شرعيته
في 2006، أصدرت دار "الشروق" المصرية للنشر كتاب "مصر بين العصيان والتفكك" لمؤلفه المستشار والمؤرخ طارق البشرى، ثم لم تلبث أن أصدرت طبعته الثانية في يونيو 2010. والكتاب مجموعة مقالات (مقدمة وأحد عشر مقالا على وجه التحديد) كان المستشار البشري قد كتبها قبل صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 2006.
وفي "مصر بين العصيان والتفكك" تناول المستشار البشري عدة موضوعات منها "تعديل للدستور"، وما يسبق تعديل الدستور.. أو ما يصاحب المطالبة به، و"شخصنة الدولة"، و"أدعوكم إلي العصيان"، و"من الإصلاح السياسي إلي الإصلاح الدستوري.. والعكس"، و"الإصلاح صناعة محلية"، و"الهدف الغائب في حركتنا السياسية"، و"علم الاستبداد والطغيان"، و"النظام الدستوري بين السياسة والقانون"، و"المسألة القضائية وتفكك نظام الحكم". وتحت عنوان "هذه إمارة شرم الشيخ، فأين دولة مصر" اختتم البشري كتابه مؤكداً على أن القيادات السياسية صارت تهتم بنسبة 10 % فقط من إجمالي "سكان مصر"، وأنها تركت بقية المصريين بغير رعاية؛ لأن " السكان" أنجبوا كثيرا، وأصبح المصريين سكانا، فيما صارت صفة المواطنة تنطبق على 10 % فقط منهم.
أعمدة لجمع الشمل وترسيخ الحركة
يشير البشري في كتابه إلى أن ثمة أعمدة ثلاث علينا أن نبني الإجماع عليها. وأول هذه الأعمدة هو التحقق الديمقراطي بوصفه أسلوباً وتنظيمات لإدارة الدولة ولإدارة المجتمع بتشكيلاته كلها. ويرى أن افتقادنا هذا العماد قد كبدنا خسائر باهظة خلال العقود الأخيرة.
وثاني هذه الأعمدة يتمثل في "الخط الوطني". ويرى المستشار البشري أن هذا العماد كان يشار إليه في بداية مقاومتنا للنفوذ الأجنبي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عبر شعار "مصر للمصريين". ويرى البشر أن هذا الشعار تاريخي، وأن المتغيرات المعاصرة تدفع هذا العماد الوطني لصير تعبيراً عن تحرير الإرادة السياسية الرسمية من ضغوط الخارج عليها، أو تحريرها من احتلال الإرادة الخارجية لها؛ وتحديدا الإرادة الأمريكية. ويضع المستشار البشري هذا العماد في إطار سياق تاريخي تعلو فيه الهيمنة الأمريكية علي السياسات الرسمية، ويتعاظم فيه الخطر الصهيوني الحال بالأمة المصرية، فضلا عن التهديدات غير المباشرة من خلال إصابة السودان وتذويب الهوية العربية تحت مسمى إقليم الشرق الأوسط الكبير.. إلخ.
ويضيف المستشار البشري عمادا ثالثا يقوم على اتخاذ سياسات اقتصادية تكفل للمصريين الإشباع الكافي للحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية في المعيشة، وهو ما من شأنه أن يقلل الاعتماد علي الخارج في شأن الضروريات إلي حد معقول، مما يسهم في تخفيف العبء الأمني القومي.
الدستور.. بين الفاعلية وانعدامها
ومن بين الفصول ذات الأهمية البالغة في كتاب البشري، الفصل الأول منه، والذي يرى فيه المستشار البشري أن عقودا من الحكم الفردي المستبد في مصر قد حطمت الكيانات المعبرة عن المجتمع، حيث جمدت الإدارة الحاكمة كل أشكال العمل الأهلي والسياسي، فلم تعد توجد في مصر نقابات أو جمعيات أو أحزاب تتسم بقدر من الفاعلية ولو محدود. وعليه، فهو يرى أن مطلب تعديل الدستور مطلب صوري، وأن الرؤية التي ترى هذا المطلب محورا لنشاطها تقع في خطأ كبير. ويوضح المستشار البشري أن الدستور نص، وأن هذا النص يفقد قيمته في إطار يتحداه ويهمشه.
ويلفت البشري النظر إلى أن الدستور كبنية قانونية محضة لا ينشئ واقعا سياسيا. وأن المطالبة بتغييره لن تخلق الحركية السياسية أو القوى الاجتماعية والسياسية المنشودة. بل على العكس، يرى أن تغيير الدستور في ظل الفراغ القائم سيصب في مصلحة الإدارة الحاكمة؛ لأنه سيعطيها الفرصة لتظهر بمظهر الديمقراطية، في الوقت الذي لا يحدث فيه تغيير جوهري على أرض الواقع.
ما يطرحه المستشار البشري هنا أن القانون إطار شكلي للحياة السياسية، تتوقف فاعليته ضمن هذا الإطار على توفر إرادة الانصياع له وتسييده. وما لم تتوفر هذه الإرادة، فإن وجود الدستور أو تغييبه؛ فضلا عن تعديله لن يصنع فارقا. فهو مغيب في كل الأحوال. ويوجه البشري النظر لضرورة بناء الحركة الاجتماعية السياسية القادرة على فرض احترام هذا الدستور.
دعوة الأمة للعصيان
كانت المقالة الرابعة في كتاب "مصر بين العيان والتفكك" صريحة في دلالتها على بلوغ شرعية الإدارة الحاكمة المستبدة في مصر حدا بعيدا من التآكل والانهيار، حيث حملت عنوان: "أدعوكم إلى العصيان".وفي هذا المقال، يرى المستشار طارق البشري أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد تضييقهم على خصومهم السياسيين، ويزيد احتمال استخدام آلة الدولة الأمنية لقمع أي حركة مخالفة في مهدها، وهو ما تستخدمه الإدارة الحاكمة المستبدة في مصر لمواجهة أي فعل حركي بصورة تلقائية، وهو أيضًا ما يتوقعه أي فعل حركي منها. في هذا الإطار يرى البشري أن الفعل المنتج يستوجب صبرا على الشدائد التي ستواجهه حتما، وطول النفس، واستبقاء السلمية في التعبير رغم الصعاب. فذلك النهج يزيد من فاعلية ومن اتساع جامعة الحركة الشعبية ونمو شمولها.
فالعصيان المدني وفق هذه الرؤية "فعل إيجابي" يلتزم تماما "عدم العنف" ويقوم على تصميم المحكومين أن "ينزعوا غطاء الشرعية تماما" عن "حاكم فقد شرعيته فعلا" منذ زمن.
ويضرب المستشار البشري مثالا من تجربة الهند، لافتا إلى أن الانجليز ما كانوا يستطيعون أن يحكموها بغير تعاون الهنود وخضوعهم، وأشار إلى أن هذا ما أدركه الزعيم الهندي غاندي، وعمل على إنهاء هذا التعاون، فما لبث الحكم الإنجليزي أن انتهى، رغم أنه كان يعتمد على جيوش وأساطيل إنجليزية، كما كان جهاز الدولة الهندي يتشكل في قياداته من الإنجليز. ومعقد الاستشهاد بتجربة الهند في نظر البشري أن هذا الأسلوب نجح ضد حكام أجانب وضد آلة حرب أجنبية وضد جهاز دولة يشكله ويشرف عليه ويشترك في أنشطته الوسطى أجانب لا يبالون بمدى تضرر الطرف الهندي، فمن باب أولى أن ينتج أثره الكبير إذا لم يوجد أجنبي في حكم أو في آلة حرب أو في أجهزة الدولة.
الإصلاح صناعة محلية
يضاف إلى المقال السابق في تميزها ذلك المقال السادس الذي حمل عنوان "الإصلاح صناعة محلية"، والذي يؤكد فيه المستشار طارق البشري على أن أول شرط للديمقراطية هو أن تكون منتجا محليا صرفا في حالة الأوطان القطرية، وصناعة حضارية واقعية في حالة الكيان الأشمل وهو الأمة، تحمل من عبر الماضي ودروسه ومآسي الحاضر ومرارته، دون تدخل أياد أجنبية على الوطن. ويؤمن البشري بضرورة أن تتشكل الديمقراطية المنشودة في ممارساتها وإجراءاتها ثم في تكوينها بعجين وطنية.
ويفسر المستشار البشري رؤيته بتوطين الديمقراطية الإصلاح بالإشارة إلى أن أية استعانة بأية قوة خارجية للاستقواء بها من أجل تحقيق مصلحة داخلية ستفضي بنا أمام أنفسنا لحالة هزيمة معنوية فحواها وهننا وانعدام قدرتنا على إدارة شؤوننا الذاتية، وقصور إمكاناتنا الذاتية عن حماية مصالحنا الوطنية الصرفة في مواجهة نخبة وحراسها تقدر بالمئات، وهو ما قد يطرح أمام أنفسنا السؤال عن حقيقة قدرتنا على حماية مصالحنا وأوطاننا. ويحيل المستشار البشري إلى قاعدة عامة قوامها أن "من لا يقدر لا يستحق". وبهذا المعنى، فإن الحركة الإصلاحية إذا أقررت على نفسها بعدم القدرة على حماية وطنها من المستفيدين الداخليين، فإن قوى العدوان الخارجي تفهم من ذلك أننا لسنا مستحقين لهذه الحماية.ويضيف المستشار البشري بعد آخر قوامه التساؤل النافذ عن مدى مقبولية أن تطلب الحركة الإصلاحية الوطنية العون من أعدائها؛ أعداء الوطن، لافتا إلى أن القوى الخارجية مستفيدة من مواردنا أولا ومن صون الإدارات الحاكمة الفاسدة في أوطاننا لمصالح هذه القوى الأجنبية، وهو ما دفع هذه القوى للوقوف دوما إلى جانب المستبدين، ينصرونهم على شعوبهم المتعطشة للتحرر والكرامة.