محمود حسين-مصر
بالنسبة لمحمود حسين، وهو اسم واحد لكاتبين هما بهجت الندي وعادل رفعت، استطاع التونسيون والمصريون ان يخرجوا من الفخ التاريخي القائل "إما ديكتاتورية وإما اصولية". صحيفة "ليبراسيون" (2 شباط 2011) التقت الثنائي محمود حسين وأجرت حوارا حول الحدث، هنا أهم مقتطفاته:
- من طهران وحتى الرباط مرورا بعمان ودمشق، الجميع عينه على مصر بعد تونس. لماذا؟
- هاتان الثورتان تعلنان للعالم العربي نبأ سارا: هناك مخرج للخلاص من الفخ الذي وجدت فيه هذه الشعوب منذ عقود. كان الخيار الوحيد المتاح امام هذه الشعوب، إما تكبّد الديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما القبول بمجيء أحزاب اصولية هي وحدها القادرة، كما كنا نعتقد، على اسقاط هذه الديكتاتوريات. تونس قطعت مع هذه اللعنة، ومصر نسفتها من اساسها، بفضل ثقلها السياسي والديموغرافي. كلاهما بيّنتا ان هذه اللعنة انما هي خدعة، وان خيار الحرية والكرامة والقانون متوفر، واننا لسنا امام سراب من صنع مثقفين مهلوسين، بل اننا على العكس، امام رغبة عميقة ومشتركة. ان شجاعة ودأب ونضج الشعب التونسي، سمحت له بأن يؤكد على هذه الرغبة ومواصلة المناداة بتحقيقها على الرغم من القمع الوحشي، وذلك حتى بلوغ النصر الحاسم، اي سقوط بن علي. من هنا تحول الحدث التونسي إلى مثال ونموذج؛ فهو وضع حدا نهائيا لنغمة "العجز". هنا الشعب ربح، خلافا لما حصل في ايران اثر الانتخابات الاخيرة حيث خسر الشعب. وفي الخيال العربي... هذا يغير كل شيء... الآن الكلمة هي للشعب المصري. حتى هذه اللحظة اعترف الجيش بشرعية مطالب الشعب وأكد على انه هنا لحمايته وحماية الحرية.
- هل هناك فروقات بين مختلف حركات الاحتجاج هذه؟
- طبعا هناك فروقات. ولكن مصر بيّنت انه بصرف النظر عن هذه الاختلافات، فان هناك جانب من الوضعية مشترك بين كل الانظمة العربية غير الدينية. وهذا المشترك هو درجة الخطورة الذي بلغوها: أزمة سياسية واخلاقية بقدر ما هي أزمة سوسيولوجية واقتصادية. انهم يكرهون قادتهم الذين فقدوا الاحترام ولا يحكمون الا بالخوف. وجاء الشعب التونسي ليقول بأنه يكفي التغلب على هذا الخوف... ومصر اليوم تبذل جهدها لتعيد تأكيد انتصارها هي ايضا على الخوف.
- كيف تخلق الثورة؟
- منذ شهر لم يكن احد ليراهن على سقوط بن علي أو حسني مبارك. لا يكفي ان تلاحظ بأن في هذا البلد او ذاك، هناك عوامل لإشعال ثورة. هناك كيمياء خاصة، مرتبطة جوهريا بمجريات الاحداث؛ وهذه الكيمياء هي التي تحول كل عوامل الثورة إلى مجرى واحد، يفجر الثورة. لا يكفي ان يكون عندك يورانيوم مخصّب لتفجر قنبلة ذرية؛ بل عليك ايضا ان تجد الصيغة التي تسمح باطلاق انفجارات متسلسلة. في السياسة هذه الصيغة غامضة، لا تستطيع توقعها. تونس اكتشفتها في طريقها، وها هي مصر تلتقطها. ويمكننا الاشارة إلى أمر، فيه شيء من العمومية: ان شعبا بأسره لا يواجه المخاطر الرهيبة لأية ثورة فقط لأن المجتمع ظالم. بل عليه ان يصل إلى قناعة بأن هذا الظلم غير شرعي، غير مسموح به. بورقيبة وعبد الناصر كانا بالنسبة لشعبيهما آباء الاستقلال. اما بن علي ومبارك فليسا سوى عرابين محاطين بزمر مافياوية.
- هل هناك أيضا عوامل سوسيولوجية؟
- التعبير عن الحاجة إلى الفردية يقترن بولادة الوجه الحديث للفرد. الفرد، من هو؟ انه الموظف والاستاذ الجامعي والطبيب والمهندس. انه ايضا، شيئا فشيئا، العامل في المصنع. انه فاعل اجتماعي جديد، ولد بمبضع الجراح، وتحت الضغط الكولونيالي، وانطلاقا من تفجّر البنى التقليدية، القبلية منها والمدينية والقروية على حدّ سواء. قبل بزوغ هذا الفرد، لا معنى للمطالبة بالحرية الفردية، فالزعيم التقليدي يتكلم من أجل اهله ويقول كل شيء. ومع بزوغ الفرد، بدأت تظهر تطلعات جديدة، وتعبر عن نفسها. في العالم العربي، هذه التطلعات خرقت الأوساط الدينية، وقد أدت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر، إلى قيادة العالم العربي نحو الاصلاح الديني، الذي بدوره سوف يلهم القادة الأول للحركة الوطنية في بداية القرن العشرين. آنذاك ساد السؤال: كيف يمكننا طرد المحتل؟ فكان الجواب: بسرقة سرّ تفوقه، أي بالانفتاح على فكر التنوير، أو برفض هذا السر والتقوقع على الأصولية الدينية. الحركة الوطنية هل ستكون على قاعدة علمانية ام اصولية دينية؟ التاريخ حسم الأمر وربح الوطنيون العلمانيون الجولة. في تلك الفترة، قام المثقف المصري الكبير عبد الله النديم بصياغة هذه الجملة الشهيرة: "المستعمِر هو في الآن عينه عدونا واستاذنا". واثناءها ايضا ولد حزب "الوفد" في مصر، وحزب الدستوري الجديد في تونس، وحزب الاستقلال في المغرب، وحزب البعث في سوريا والعراق، وجميعهم دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، وفصل المجال العام عن المجال الخاص، والمساواة بين المواطنين، مهما كان دينهم، والتقدم الحثيث لوضع المرأة.
- ان آباء الاستقلال نشأوا كلهم وسط هذا المناخ. فهل عزّزوا الفرد أم حجروا عليه؟
- خلال فترة صعود الدولة الوطنية كانت التطلعات الفردية للحرية والتطلعات الجماعية نحو الاستقلال تتشابك في ما بينها. كان الفرد فيها يكتسب شعورا اضافيا بالكينونة، نوعا من الكرامة الباعثة على الغبطة، وهو يتقاسمها مع مجمل مواطنيه. ولكنه، بالمقابل، يقوم بذلك باسم الوحدة الوطنية، ووصاية الزعيم، البطل الكاريزماتي. اما الخطأ التاريخي الذي لا يغتفر، والذي ارتكبه مجمل هؤلاء القادة، فهو مصادرتهم هذا السند الشعبي لصالحهم، واحتكارهم لكل المبادرات السياسية وقمع النوايا الديموقراطية الصاعدة للطبقات المتوسطة والشعبية. هكذا تمكنت جدلية الفساد والبؤس من الاستقرار، لتجرّ من بعدها خيبات متلاحقة. ومع رحيل الآباء المؤسسين، أدت هذه الجدلية إلى نزع الشرعية عن ورثتهم. لحق ذلك مرحلة طويلة من اليأس والعجز، ازدهرت اثناءها الاحزاب الاصولية الداعية إلى عودة الدولة الدينية. الثورتان التونسية والمصرية أنهتا هذا العهد بالتحديد (...)