الرسالة مقتطعة من كتاب «صور المثقف» (دار النهار)
ان ما أسعى إليه، هو وجوب بقاء المثقف أمينا لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد، رغم انتسابه الحزبي، وخلفيته القومية، وولاءاته الفطرية... على المثقف المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيات السهلة التي توفرها خلفيتنا، ولغتنا، وقوميتنا، كما تعني البحث عن معيار واحد للسلوك البشري ومحاولة الحفاظ عليه، عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل السياسة الخارجية والاجتماعية. ويتحتم علينا بالتالي، إن كنا ندين عملاً عدوانيا يقوم به عدو، دونما مبرر، ان نقدر أيضاً على اتخاذ الموقف عينه عندما تنتهك حكومتنا حرمة فريق أضعف.
إن المثقف وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، لجمهور ما، وايضاً نيابة عنه. ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء (المثقف) بأنه إنسان، مهمته أن يطرح علنا للمناقشة أسئلة محرجة، ويكون شخصاً ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى وتُغفل قضاياها بشكل روتيني... ان الانتهاكات المتعمدة أو الناجمة عن إهمال هذه المعايير يجب ان يشهد ضدها وان تحارب بشجاعة.
إن أقل ما يجدر المثقف عمله ان يكون همه إرضاء جمهوره: فالعبرة الأساسية برمتها ان يكون محرجاً، ومناقضا، بل حتى مكدراً للصفو العام
... وجوهر الأمر ان المثقف، حسب مفهومي للكلمة، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق اجماع، وإنما هو إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة لما يريد الأقوياء التقليديون قوله، ولما يفعلونه. ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل ان يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علنا... ولا يعني هذا الأمر دوما ان يكون المثقف ناقداً لسياسة الحكومة، بل ان يرى المهنة الفكرية حفاظاً على حالة اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسيِّر المرء معها.
يقول اورويل: «ان اللغة السياسية، مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، والإجرام يبدو جديراً بالاحترام، ولكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت.
إن مشكلة الولاء محدقة دائما بالمثقف وتتحداه بدون رحمة. وكلنا بلا استثناء منتمون إلى جماعة قومية، أو دينية، أو عرقية ما: فما من أحد، مهما كان مقدار الإصرار على عكس ذلك، يعلو فوق الروابط العضوية التي تشد المرء إلى العائلة والجماعة، وبالتأكيد إلى الجنسية... ان الشعور بأن شعبك مهدد بالانقراض السياسي، بل بالانقراض الفعلي أحياناً، يلزمك بالدفاع عنه، وببذل أقصى طاقتك لحمايته، أو لمقاتلة أعداء الأمة. (كالحالة الفلسطينية مثلاً).
الخطر الهام الذي يتهدد المثقف هذه الأيام، لا يكمن في الأكاديميا، أو الضواحي، أو الروح التجارية المروعة للصحافة ودور النشر، وإنما في مسلك سوف أسميه الاحترافية... وهو اعتبار وظيفتك كمثقف تؤديها كسباً للرزق.
ان تخدم السلطة وتكسب منها المكافآت، لا يساعد اطلاقاً على ممارسة الروح النقدية والمستقلة نسبياً للتحليل وإصدار الأحكام، التي يتحتم أن تكون، من وجهة نظري، إسهام المثقف. المثقف الحقيقي الحق، ليس موظفاً أو مستخدماً منقطعاً كليا لأهداف سياسة حكومة أو شركة كبرى... في مثل هذه الحالات، فإن الإغراءات التي يواجهها المرء لإخماد حسه الأخلاقي، أو لإجباره على التفكير ملياً من داخل حقل اختصاصه، أو لكبحِ الشك داخله لمصلحة الخضوع للأعراف، هي فعلا كثيرة، ولذلك ينبغي الحذر الدائم.
... إن حرية الرأي والتعبير المتصلبة هي المعقل الرئيس للمثقف العلماني، فالتخلي عن حمايته أو تحمل العبث بأي من أساساته، هو في الواقع خيانة لرسالة المثقف... فحرية التعبير، لا يمكن نشدانها اجحافيا في منطقة ما وإغفالها في أخرى... ومن أكثر المناورات الفكرية خسة، التحدث بعجرفة عن انتهاكات في مجتمع الغير، وتبرير الممارسات ذاتها في مجتمع المرء نفسه (يمكن تعميم ذلك على السلطات والأنظمة)... إذا رغبت في دعم العدالة الإنسانية الأساسية فعليك أن تدعمها للجميع، وليس فقط انتقائيا لمن تصنفهم جماعتك، أو حضارتك، أو أمنك، أهلاً لها.
هل من الجائز للمثقف المعاصر، الذي يعيش في زمن مرتبك فعلاً نتيجة اختفاء ما يبدو انها كانت معايير أخلاقية موضوعية وسلطة واعية، ان يكتفي، ببساطة، إما بتقديم الدعم الأعمى لسلوك بلاده (أو نظامه) والتغاضي عن جرائمها وإما القول بدون مبالاة مثلا: «أعتقد أنهم كلهم يفعلون ذلك، وأن هذه هي حال الدنيا». ما يجب ان نكون قادرين على قوله، بدل ذلك، هو ان المثقفين ليسوا محترفين مسختهم خدمتهم المتزلفة لسلطة فائقة العيوب، بل هم، مثقفون في موقع يتيح المجال للاختيار، ويقوم أكثر من غيره على المبادئ، بحيث يمكنهم قول الحق في وجه السلطة..
إذا أردت أن تراعي ولي نعمتك، فلن تستطيع ان تفكر كمثقف، انما فقط كمريد، أو كتابع، لا تغيب عن ذهنك فكرة ان عليك أن تُعجب لا تُغضب... ان التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم، هي أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية أخلاقية نشطة.