أحمد بيضون
لا يملك أدونيس أن يسمي مدينة أو قرية مشّطتها المدافع أو ديس أهلها بالنعال. لا يملك أن يقول: درعا، بانياس، حماه، جسر الشغور، إلخ. لا يجد سبيلاً إلى ذكر ضحية بالاسم أو تعيين حادثة جرت في الشهور الثلاثة المنصرمة، وهي عمر الحركة الديمقراطية الجارية في سوريا، ولا في الأعوام الأربعين الماضية وهي عمر استبداد آل الأسد ورهطهم بالبلاد والعباد... ليس في هذه الرسالة غير الاسم النظيف الأنيق لما يجري: "الحل الأمني" وليس فيها فاعلون غير الحزب والعشائر والدين... وهذه كلها مثل أفلاطونية تنتهي إلى الاندراج في جهة واحدة. في الجهة الأخرى، يظهر مثقفون وشبان وشابات وتسمع "أصوات" تستحق ثناء أدونيس لتمثيلها "المواطنة" ولكن هذه الجماعة ضعيفة الحول، موعودة بالسحق على أيدي العتاة المنظمين...
يبقى "السيد الرئيس" الذي يبدو وكأنه جهة ثالثة يسعها الخروج من الجهة الأولى وعليها، وتسعها الاستجابة الحرّة لمطالب الجهة الأخرى: لا لأن في هذه الجهة تصميماً أو عزماً يملي الاستجابة ولكن لأن "السيد الرئيس" معني (من تلقاء ضميره، على ما يتراءى من منطق الرسالة) بمصير البلاد ولا يهون عليه أن يراها تتمزّق. الرئيس، على ما يبدو، هو القادر على تحييد ما يبدو أن أدونيس يخشاه في الحركة الشعبية: أي غلبة المتدينين والطائفيين والعشائر. والرئيس قادر على ذلك بعد أن ينحّي الحزب الذي فات أوان إصلاحه وبعد أن يسمو فوق العشائر والطوائف التي يبدو هذا الرئيس، عند أدونيس، بريئاً منها جميعاً. يصبح الرئيس كلي القدرة إذن حالما يتخفف من كل ما جعله رئيساً وأدامه وأدام أباه قبله في دست الحكم. وهو يصبح فارس الديمقراطية ينشرها على سوريا من هذه السماء السابعة وفي مواجهة لغليان في البلاد كنا قد علمنا من أدونيس أن الظلاميين والطائفيين والعشائر أقوى أطرافه وأوثقها إمساكاً بزمام المستقبل.ا
ينكر أدونيس أن تكون للحركة الجارية مطالب متوافق عليها. وحجته أن الحركة لم تنشر وثيقة وقّعها جميع أطرافها. لا صحّة لهذا فالحركة قالت الكلام السياسي نفسه، من حيث الأساس، بمائة لسان. وأدونيس لا يعدو أن يكرر هذا الكلام نفسه تقريبا، بلغته المعلومة، حالما يصل من رسالته إلى باب الاقتراحات. هذه واحدة. الثانية أن أدونيس يغلق الأفق كليا، في واقع أمره، أمام فرسيه المدللين: المواطنة المقرونة بالفردية والديمقراطية المتولدة منها أو المبنية عليها. هو يغلق هذا الباب لا في وجه السوريين وحدهم بل في وجه العرب والمسلمين أجمعين، على الظاهر. يغلق هذا الباب حين يأبى أن يرى في الحركة الجارية، على اتساعها، طورا مفتوحا على الاحتمال الديمقراطي، أي على احتمال الالتحاق بالعالم المعاصر، لا أكثر ولا أقل. وهذا التحاق لا حظ له في التحقق إلا في مساق متعدد الأطراف ومتناقض: مساق لا يملك أدونيس ولا غيره أن يجزم بمصيره بجرة قلم. ولا كان المثال الديمقراطي يجيز لأدونيس أن يستجير من حركة شعبية لها هذه السعة وهذا البأس برئيس كامل المسؤولية، لا عن القمع الجاري اليوم وحسب، بل عن كل ما نهضت هذه الحركة في وجهه، أصلاً. بل أيضاً عن جانب من عورات هذه الحركة نفسها أي عن بعض عشائريتها السياسية وعن بعض طائفيتها السياسية أيضاً
في المنطق العميق لرسالة أدونيس أنه كان على الحركة الجارية أن تقودها جهة واحدة تقول كلاماً واحداً: تقوله وتفرضه حالما تقوله. فلا يكون طمس لملامح الديمقراطية (وهي المفترضة جلية سلفاً) في لغو الأفرقاء المتداخل. ولا يكون رهن للديمقراطية بصراع ومخاض يستغرقان زمناً ويحتملان التردد والتقدّم والنكوص. وذاك أن أدونيس لا يقرّ بأهمّية الزمن إلا بعد أن يفترض للثقافة حدوداً مغلقة، غير مميّز في ذلك بين حال وحال ولا بين زمن وزمن. وهو لا يبقي للتغيير من مناط يعتدّ به، من بعد، غير القبول والرضى من جانب "السيد الرئيس": الرئيس الذي يزيد طينه وطين السوريين قبله بلة أنه "رئيس منتخب".
الطوائف والعشائر غالبة في المجتمع، والدين والعصبية مستوليان على العقول ولا أمل والحالة هذه في حركة أية كانت. إذ كيف ترانا نخرج، وبفعل أية استحالة داروينية من هذه الاستحالة التاريخية؟ أم ترانا، بخلاف ذلك، محتاجين إلى قرون من التربية الديمقراطية ونحن من لم تنفع في تربيتنا قرون تصرّمت؟ ومن يدخلنا في الزمن الجديد ومن يربي لنا من يجب عليهم تربيتنا ومن يجزم في يوم مشهود أننا بلغنا من التطور المنشود الغاية؟ وما دام أدونيس لم يفلح في ذلك ولا أفلح أضرابه من أضرابنا أفيبقى من يعوّل عليه، في هذه الأمة المنكودة الطالع، غير "سيد رئيس" ما؟
تحتاج الديمقراطية إلى تجريد. تحتاج إلى حديث الفرد المواطن وهذا كائن مجرّد وإلى حديث "سلطة الشعب" و"الفضاء العامّ" و"المصلحة العامّة"، إلخ. وهذه كلها مجرّدات. تحتاج الديمقراطية إلى ما سمّيناه، قبل سنين: "عمل التجريد السياسي". ولكن هذا العمل الذي يمنح النظرية الديمقراطية لغتها، يفتح على الفور أفقا مقابلاً له يتسع للأسماء الشخصية ولأشياء العالم ولتفاصيل الحياة وعلاقاتها ولوجوه السلوك بما فيها تلك الحسيّة والمفردة للغاية. عليه كان العالم الديمقراطي هو العالم الذي تزدهر فيه، لا النظرية السياسية وحدها، بل الرواية أيضاً وخصوصاً. أو أن هذه الأخيرة تبشر بولادته وتسهم في حدوثها إن هي لم تجده قائماً لتزدهر فيه.
ليس أدونيس روائياً. هو، من حيث الأساس، شاعر العناصر الأربعة. قدرته على توليد الشعر من أسماء هذه العناصر قدرة معجزة. ولكن عالمه مردود، في مبدإ مطافه ومنتهاه، إلى بساطة مبالغ فيها جدّاً. والمبالغة هذه (وهي قد تكون لازمته من مصادر شبابه الفكرية ) تظهر حين يخوض في حديث السياسة، شأنه في رسالته اليوم إلى "السيد الرئيس". ولأن هذه البساطة لا ترى المجتمع أهلاً لتولي أموره وللسير في مجرى تاريخه وتاريخ العالم المعاصر بإسهامٍ مختلف المشارب والمجالي من سائر مكوّناته وقواه، فهي ليست، على ما تزين لنا قراءتنا لـ"سياسة" أدونيس، بساطة ديمقراطية.ا