نهلة الشهال
يبدو الإمعان في القمع الفظيع في سوريا وكأنه مفتكر، مخطط له بمعنى استراتيجي محسوب النتائج السياسية، وليس فحسب كممارسة للأسلوب الوحيد الذي يجيده نظام استبدادي. فكأنه يتعمد استدراج ردتي فعل: واحدة تدفع الناس دفعاً الى استخدام السلاح على نطاق واسع وشعبي، فلا يعود مقتصراً على مجموعات مسلحة متفرقة، كما هو الحال اليوم. ويمكن الخشية من انزلاق بعض المناطق ذات الطابع العشائري الى هذه الممـارسة، كـدير الزور المتداخلة مع العراق جغرافياً وقبلياً. وردة الفـعل الثانيـة تبحث عن دفع الدول الغربية الى التفكير بعـمل عســكري ما، أو التهديد به، رغم الصعوبات الجمة التي تقف في وجه مثل هذا الاحتمال.
لو حصل انتشار للمواجهات المسلحة ضد القوات السورية، فإن ذلك يبيح للسلطة الانتقال الى المرحلة الثانية من العنف. وهو ما يبدو أنها تسعى إليه طالما القمع الممارس حتى الآن لم يتمكن من إخافة الناس الى الحد الذي يدفعهم للاحجام عن المشاركة في التظاهرات، بل أدى الى نتيجة عكسية على العموم، رغم الثمن الباهظ الذي يدفعـونه. تلك المرحـلة الثانية من العنف لا تبتغي إخافة النـاس بل هزيمتـهم، بالمعنى العسكري للكلمة. ولكي تُعتمد، فهي تحتاج الى عنف مقابل، يتجاوز هو الآخر ما تدعيه السلـطة السـورية وأجهزتها الاعلامية (البائسة!) من ممارسات وحشية لعصابات تقطع أوصال الجنود بالبلطات بعد أن تتمكن من قتلهم. والسلطة بذا تكون بصدد تقبّل، بل اعتماد فكرة أن البلاد دخلت مرحلة الحرب الاهلية، حتى لو أسمتها «تمرد» بعض المناطق أو المدن. ورغم أن في ذلك إقراراً بالفشل التام وبفقدان الشرعية، لأن النظام يتحول حينها الى ميليشيا (ولو بالغة القوة) من ضمن ميليشيات. إلا أن أهل السلطة قد يفعلون أي شيء للحفاظ عليها في يدهم، ولو كان ذلك الـ«أي شيء» هو دمار البلد وخرابه. وربما يمكن القول إن الامور لم تصل بعد الى هذا المستوى في سوريا، ولكنها تبدو متجهة إليه!
وأما استدراج التدخل الغربي أياً كانت أشكاله، فيلعب على معادلات متعددة. أولاها يقصد إظهار عجز الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الاميركية، عن تجاوز الادانات في مجلس الامن، أو تلك التي تنطق بها بلسانها هي حين تضطر الى تخطي ما يمكن الاتفاق عليه في الاطار الدولي، كما حدث بُعيد البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الامن فيما كان يجري اقتحام مدينة حماه. كما يقصد إظهار عجز العقوبات الاقتصادية، حتى وإن وصلت الى حالاتها القصوى: لم يسبق أن أطاحت عقوبات نظام حكم. وكلما كان هذا الاخير تعسفياً، كلما تمكن من تحميل الناس كلفة العقوبات بل الحصار الاقتصادي، دون أن يرف له جفن. ومن المعلوم أنه لم يعد وارداً لدى واشنطن كما لدى سواها من العواصم الغربية الدخول في مغامرات عسكرية، لا احتلالية على طريقة العراق وأفغانستان، ولا حربية على طريقة ليبيا. وهذا الاستدراج يسجل في باب التحدي وتبيان حدود الضغوط الغربية. وفي حال انتقال القمع الى مستوى آخر من العنف، قد يمكن لحلف الاطلسي اتخاذ قرار بعمل ما، على صعوبة ذلك الشديدة. ولكنه سيكون من قبيل انقلاب السحر على الساحر، فتحتل السلطة السورية موقع الضحية المعتدى عليها من قبل غرب تحركه أطماعه. وعلى أية حال، فالتدخل الغربي على العموم، وبالاخص مكبلاً بكل هذه القيود والحدود، قليل الفعالية لجهة تمكنه من التعجيل بإسقاط النظام.
ليس إذاً من وصفة سحرية! ولا صيغ سريعة يمكن بموجبها التخلص من نظام مبني على القمع بمعناه الواسع والعميق، أي ذاك الذي يستبق في الاحوال العادية تململ المجتمع، أي مجتمع، وجنوحه الطبيعي الى التعبير عن نفسه، وعن مطالبه الاجتماعية والمعيشية والسياسية المحددة، أو كإبداع حر وفي كل الميادين. يستبقه بتأطير هذا المجتمع وحصي أنفاسه و«هندسته» بما لا يتيح له الافلات من الرقابة والوشاية والاستزلام والخوف... ثم يتدخل ليضــبط استمرار هذا الايقاع بواسطة الاعتقالات، وأغلبها يجري لأسباب واهية، وبطريقة اعتباطية ـ مدروسة (وليس في تلازم التعبيرين أي تناقض، بل ذلك هو جوهر نظام الترويع) لتكــون سيفاً إضافياً مسلطاً على رؤوس العباد. وأخيراً لا يتوانى نظام القمع عن ممارسة المجازر الجماعية حين يلزمه ذلك، كوسيلة لحماية النفس من السقوط، وكطريقة لتحقيق الغلبة الحاسمة.
لا وصفة سحرية مع الأسف، ولا مجال أمام السوريين سوى الاشتغال على تحررهم. وهذه مهمة شاقة وعالية الكلفة، تفترض امتلاك خيال سياسي خصب وفعال، واستعداداً لممارسة التفاهم الاجتماعي الذي يناقض الاستئثار والغلبة والانتقام، ويُعلي ويسيِّد مفهوم المواطنة بوصفه تقاسماً للحق في البلد، وليس في السلطة فحسب. هذا علاوة على طول النفَس والقدرة على تجنب منزلقات خطرة، على رأسها استسهال طلب التدخل العسكري الغربي، لأنه لن يحصل، ولأنه لو حصل فلا يحقق شيئاً غير الإضرار بشكل لا شفاء منه ببنية البلد ومستقبله.
قد يبدو فظيعاً الطلب من الممثلين المدنيين لمجتمع يتعرض للقصف والتقتيل أن يعملوا على بلورة تصورهم عما يطمحون إليه، وعن نواياهم بخصوص كيفية تنظيم مجتمعهم لو تخلصوا من الوضع الحالي، وذلك على كل الصعد: بما في ذلك المسائل المتعلقة بالاقليات الكثيرة التي تتقاسم المواطنة في سوريا، بما في ذلك مصير العلويين الذين حكم النظام باسمهم، وأحياناً بواسطة توظيف لحمة عصبية تعززها مكاسب ومناصب متاحة، والذين يلعب بعضهم دوراً بشعاً في آلة القمع، كما حدث في الماضي ويحدث في الحاضر، وعلى الارجح في المستقبل. وليس المطلوب طمأنة الناس لفظياً أو عاطفياً، أو تكتيكياً فحسب، لتعطيل انحيازاتهم الضارة بالتغيير، والتي قد يحفزها الخوف من المجهول. بل انه لا يمكن موازنة البطش الفظيع للنظام إلا بالارتقاء الى الوفاء بهذه المهمة.