شهدت البلاد العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين تطوراً خطيراً تمثل في انحراف مفهوم الحزب وتحوله من مجرد أداة سياسية للعمل ضمن النظام السياسي القائم (أو خارجه) وفي خدمة الوطن والشعب والمواطن، تحوله إلى جهاز سلطوي مركزي يسعى لوضع يده على الدولة والمجتمع في آن معاً...حصل هذا مع أغلب الأحزاب العربية الثورية، القومية منها كما اليسارية والإسلامية.. وحين وصلت هذه الأحزاب إلى السلطة حكمت متفردة وحيدة وتسلطت وقمعت وأذاقت الشعب الذي ناصرها شتى الويلات والمحن... وصارت الدولة العربية الحديثة وكأنها ملك للحزب الواحد الأحد وللقائد الفرد الصمد..والعياذ بالله. لا بل تحول الحزب إلى عشيرة تعمل بمبدأ "الأقربون أولى بالمعروف"..لا بل ضاقت رقعة "الأقربون" هذه لتختزل الشعب والوطن والمجتمع والأمة في القبيلة أو الطائفة أولاً ثم في العشيرة فالفخذ فالقرية ثانياً ثم في البيت الواحد فالأسرة الصغيرة والأصهار، فالفرد القائد ومن يلوذ بملاذه ويتملق له أو يضرب بسيفه...وأصبح الحزب والانتماء اليه وكأنه الوظيفة الذي يرتب بالضرورة حقوقاً وامتيازات مقصورة على كبار الحزبيين ممنوعة على الناس... وصار الحزب القائد هو المدخل الطبيعي الوحيد للمال والجاه والشهرة..(حتى حيث هو لا يحكم رسمياً بل يشكل حالة سلطوية قوية كما في حالة بعض أحزاب لبنان)..وقديماً قال ابن خلدون بأن الدولة (وهو يقصد السلطة والقوة) عندنا سابقة على الجاه والغنى... وهكذا أُغلقت كل الأبواب والمنافذ أمام المواطنين الذين لا علاقة لهم بالحزب الحاكم أو بوجهاء الحزب على الأغلب...وبدل قيام ديموقراطيات شعبية حقيقية كما وعدونا، قامت في بلادنا دول أمنية بوليسية لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل..لا في الشرق ولا في الغرب..ضاعت حقوق الناس لا بل سلبت حياتهم وقيدت حريتهم وامتهنت كرامتهم، في أقبية المخابرات وزنازين الرعب والموت..
لم يعد الحزب العربي صاحب مشروع أخلاقي نابع من إيمان بالوطن وبحقوق المواطن وبالمساواة في المواطنة وبتأمين لقمة العيش الحلال والتعليم والطبابة والماء والكهرباء مع الحرية والكرامة واستعادة الشعور بإنسانيتنا كبشر وكمواطنين...لم يعد الحزب العربي صاحب الحلم الثوري بالتغيير والاصلاح وبالتنمية والتحرر، بل صار وكأنه ينهش من لحم الناس..وحين يصل السلطة تراه ينسى من أين جاء وكيف ولماذا؟ نعم الأحزاب ضرورة في كل نظام..لكنها ضرورة في مكانها الذي يجب أن لا يتجاوز حدوده، فيعتدي على حقوق المواطنة والمجتمع. المواطن هو الأولوية وهو صاحب الحق في مواقع الدولة والمجتمع، حسب شروط وإجراءات تحددها الدساتير والتشريعات والتنظيمات السارية، بعد منح الجميع، بعناوين حزبية أو بدونها، فرصاً متساوية بدون تمييز أو محاباة..
وصف جمال الدين الأفغاني (ت: 1897) الأحزاب السياسية ، على أنها "في الشرق نعم الدواء، ولكنها مع الأسف لا تلبث حتى تنقلب الى بئس الداء . نحسن نحن الشرقيين تأليف الأحزاب السياسية، لطلب الحرية والإستقلال، وكل العالم لنا أصدقاء، ونضطر لتركها والكل لنا أعداء، والسبب العامل في ذلك عدم التكافؤ في القوى بين الأمة وأحزابها السياسية ، فاذا ما تمّ للحزب ما طلبه من الأمة ، واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية، ومد حب الذات عنقه...وتحصل بالنتيجة النفرة العامة".
ولكنه مع هذا الوصف السلبي استدرك في مكان آخر قائلاً :"لا ينبغي أن يؤخذ من قولي هذا، أن لا فائدة من الأحزاب على مطلق الرأي والمعنى، فإن الشرق بعد أن أخنى عليه الدهر بكلكله، ومرت عليه زلازل العسف والجور، وأشكال الاستعباد...هذا الشرق وهذا الشرقي لا يلبث طويلاً حتى يهب من رقاده..ولا مانع يمنع الشرقي من الانخراط في الحزب بعد الحزب، ويقبل من المواعيد ما يصدق وما لا يصدق، حتى يظهر في الشرق ما ظهر في الغرب"...ولذلك قلنا ونقول إن الأحزاب ضرورة.. ولكن... للحديث بقية..