الجمعة، 6 مارس 2009

أي نظام سياسي وأية صيغة للبنان؟

أي نظام سياسي وأية صيغة للبنان؟
مداخلة ضمن أعمال المؤتمر السنوي الثالث لمركز دراسات جامعة الحكمة:أي قانون انتخابي للبنان،،بيروت،27-28 شباط 2003
د. سعود المولى
الحديث عن الصيغة اللبنانية هو حديث عن النظام السياسي الأصلح والأفضل ( أو الأنسب) لبلد هو لبنان . وهذا يعني إعترافا" أولا" بالخصوصية ، أي بما أفرزته التجربة العيانية الملموسة خلال القرن العشرين ، ودعوة ثانيا" الى إجتراح إطار نظري مرجعي لقراءة وفهم وتحليل وتطوير النظام اللبناني. والحقيقة التي ينبغي الانطلاق منها هنا هي انه ليس هناك معرفة علمية مسبقة ناجزة تفسيرية واستنتاجية حول النظام السياسي اللبناني .. وبالتالي فإن هذا النظام لا يخضع او لا يمكن أن يُدرج ضمن أي تصنيف علموي شائع عزيز على قلوب المثقفين اللبنانيين المتبعين للتقاليد الغربية في علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي.
لقد حاول هؤلاء المثقفين ولعقود وعقود إسقاط الوصفات والتحاليل الجاهزة ، القَبلية ، والمجرَّبة ، وفق نماذج معيارية يبقى المثال الفرنسي اليعقوبي Jacobin ملهمها ، وتبقى العلوم الاجتماعية والسياسية الغربية للنصف الاول من القرن العشرين إطارها المرجعي .. ولم ينتبه المثقفون المشتغلون على هذه المسألة الى التطورات الفكرية والنظرية والى ما قدمته التجربة نفسها من دروس في الغرب والشرق على السواء ، فجمدوا عند مقولات ومنقولات ومقبولات تنتمي الى مدارس غربية عفى عليها الزمن في بلد المنشأ نفسه..
وقد لاحظ عدد من علماء الاجتماع والسياسة ومن المفكرين المجددين في لبنان والعالم العربي، ممن بحثوا وحللوا هذا الموضوع بأن العلوم الاجتماعية والسياسية التي نشأت في مجتمعات غربية متجانسة نسبياً عملت على تعميم مفهوم الدولة – الامة كإطار معياري ناظم للرؤية العامة ويحظى بتوافق شامل .. هذا الى جانب تركيزها في مرحلة معينة على ” المسألة الاجتماعية “ كمشكلة مجتمعية رئيسية ( ربما بتأثير الفكر الماركسي المتعاظم القوة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي) . وأدى الامر بالتالي الى تهميش الاهتمام الغربي لمشكلات الدول التعددية في اوروبا نفسها ( الشرقية ، والوسطى والجنوبية الشرقية ) ولمشكلات الدول الوطنية حديثة الولادة في آسيا وافريقيا وخصوصا" في المجال العربي والاسلامي .
وأذكر هنا ان المثقفين العرب لم يهتموا ( الا في النادر) لكتابات بنغسين وكلكجاي 1 حول الاسلام في الاتحاد السوفياتي ، ولا لكتابات هيلين كاريردنكوس2 حول الامبراطورية السوفياتية، الى ان انهار المارد السوفياتي وتفككت المنظومة الاشتراكية. هذا في حين ان الاهتمام الغربي ( والاميركي منه تحديدا") بدول شرق اوروبا كان من طبيعة أمنية مخابراتية أكثر منه بحثا" عن معرفة علمية . وأذكر أيضا" ان المثقفين العرب تعاملوا مع انتاج معرفة علمية حول مجتمعاتهم ودولهم ( الا في النادر) على أساس معيارية النموذج الغربي الشائع )وهو بالطبع لم يكن الوحيد) وعلى قاعدة إسقاطه ومحاولة إيجاد شروطه من خلال مفاهيم التحديث والتنمية والاندماج السياسي ( ناهيك عن شعارات الاشتراكية والوحدة والحرية) وتقديسا" طوطميا" لفاعلية الافكار والمفاهيم المسقَطة .. ويقول الباحث الالماني ثيودور هانف ” بأنه كثر الكلام في تلك المرحلة فيما يتعلق باوروبا عن الشعوب والامم والجنسيات والاقليات القومية ، وبالنسبة لافريقيا او آسيا تركزّ الحديث على القبائل وخصائصها . ولكن من ناحية اخرى استُخدمت بعض التعابير على نحو محقّر. فالتضامن الاثني أصبح قبلية ، والتكاتف الاقليمي او المحلي انعزالا"، والتماثل مع جماعة دينية اعتبر نزعة طائفية او تعصبية ... فقد أشاراختيار مثل هذه التعابير الى مفاهيم معيارية. فبين الدولة والامة من جهة وقد أعطيا مفهوما" واحدا" ، والفرد من جهة اخرى ، لم يبق أي مكان للوحدة الاجتماعية الوسيطة“3.
لا بل ان الاتجاه الشائع والسائد حتى العام 1975 كان يُصنّف الوحدات الاجتماعية الوسيطة (العائلة، العشيرة، القرية، المحلة، الطائفة... ) كعقبات في وجه التنمية والتحديث ينبغي القضاء عليها.. وأذكر اننا لم نكتشف مقولة العصبية ومقدمة ابن خلدون الا بعد انتقالها الينا مترجمة عبر إيف لاكوست وفنسان مونتاي4 وغيرهما، وتحت وطأة أتون الحرب الاهلية في لبنان . فلقد كان الفكر السياسي العربي واللبناني مستقيلا" من جهة ومقتنعا" من جهة اخرى بشمولية نموذج التنمية والتحديث الغربي فكان يكرر بالتالي مقولات ماركس وانجلز5 حول المسألة الشرقية وحول الهند والجزائر ، حين قررا بأن التجمعات (المجتمعات) التقليدية هي عائق أمام تطور الرأسمالية ينبغي إزالتها بالقوة (العنف قابلة التاريخ) وان تيار الثورة البروليتارية العالمية لا بد ان يكتسح كل المعوقات.. ولم يكن الماركسيون وحدهم من حمل هكذا افكار . فقد تأثر الليبراليون العرب واللبنانيون بنموذج الثورة الفرنسية والجمهورية الثالثة تحديدا" ، ناهيك عن التاثر بتيارات الفلسفة الالمانية القومية الرومانسية .. والبعض حمل فكرة ماكس فيبر عن تطور المجتمعات التقليدية نحو العصرنة عبر عملية ”عقلنة“ ، وصفها فرديناند تونينس بالانتقال من الجماعة الى المجتمع وعلى اعتبارها الطريق لنشوء دولة قومية موحّدة 6 .. هذا بالاضافة الى مجمل تراث الفكر الوضعي اليميني في العلوم الاجتماعية منذ اوغست كونت واميل دوركهايم 7 .
وهكذا وجدنا أنفسنا في لبنان نتحدث عن الانصهار والدمج ، وعن الدولة القوية الواحدة الموحّدة ، وعن العلمنة ، هذا في حين اننا كنا نقول في الآن نفسه بأن لبنان هو كيان اصطنعه الاستعمار الغربي بعد سايس- بيكو وانه لا يمكن ان يكون امة ، ولا يكوّن شعبا" ، وانه ينبغي بالتالي إزالته أو نقض سيادته واستقلاله كخطوة تقدمية على طريق الدولة القومية الواحدة الموحّدة مهما كان لونها او نوعها ( سورية ، عربية ، أم إسلامية) .. وكان بعضنا من جهة اخرى يقول بأن الطوائف هي كيانات إثنية تامة الوجود الامر الذي يعني بالتالي تحقيق ذاتها عبر الاستقلال أكان استقلالا" سياسيا" ، كما في الدعوة الى وطن قومي مسيحي ، أم
استقلالا" ثقافيا" كما في دولة حزب الله على حد وصف وضّاح شرارة 8 . وهكذا استقامت تحت سقف واحد دعوات الى الصهر والدمج في دولة قوية ، والى التفكيك والتذويب في وحدة أوسع وأشمل ، والى الخصوصية الثقافية الدينية في جماعات مستقلة في مناطق تواجدها .. وهذا طبعا" من عجائب الزمان .. ولبنان ..
والحقيقة ان ما حكم الفكر السياسي اللبناني والعربي هو واقع تصوّري أصبح مقياسا" للعمل والسلوك ، على حد تعبير هانف 9 ، أو هو انسلاب ثقافي وهَوَس بالتصنيف العلموي الشائع على حد تشخيص مسرّة10 ، وفي الحالتين فقد نتج عن ذلك مأزق كبير في محاولة تكييف النظام السياسي اللبناني مع الأصناف المعروفة عالميا" لكي يصبح حديثا" وفعالا".. وأصبح التصّور المسقَط من خارج مكاني وزماني ، ومن خارج نظري ومعرفي ، هو المبدأ السائد بحيث انه صار يجسّد ” فهما" علمانيا" تقدميا"“ دون ان يؤمّن بالضرورة ( بل ولعل العكس كان هو الصحيح) معرفة علمية أكيدة أو تشخيصا" دقيقا" او تصنيفا" استنتاجيا" واقعيا" ، يسمح بعد المعرفة بابتداع شروط التغيير والتطوير 11 .
أما نحن ، فاننا كنا وما زلنا ، مع غيرنا ، نقول بأن أية صيغة لنظام سياسي ينبغي ان تكون تعبيرا" عن حاجات المجتمع وعن ضرورات اشتغال النظام وتأمينه الحد المطلوب من الوحدة والتوازن ومن العدالة والكرامة ومن الحرية والديمقراطية ، للجميع وبين الجميع . اننا هنا نقول بعبارة علمانية بأن السبت خلق لأجل الانسان وليس الانسان لخدمة السبت .. وبالتالي فانه لم يعد جائزا" في مطلع الالفية الثالثة ، وبعد كل ما شهدناه وشهده العالم من تطورات وتحوّلات ، تحليل وتفسير النظام السياسي اللبناني استنادا" الى النظام الفرنسي للجمهورية الثالثة ، أو بصورة أعمّ الى الانظمة البرلمانية على الطراز البريطاني.. ولم يعد جائزا" أيضا" ذمّ النظام اللبناني كونه لا ينتمي الى فئات او أصناف من التصنيف شائعة ومتداولة، او اعتباره شاذا" ينطوي على مغالطة تاريخية، او غير حديث 12 .. في الوقت الذي يتجه فيه المجتمع العلمي أكثر فأكثر ” نحو الاكتشاف من جديد ولو في وقت متأخر لدولة متعددة الفئات او الشعوب عبر علم الاجتماع الحديث“ 13.... ولا ينبغي ان نخضع للارهاب الفكري الذي يمنع الخوض في هكذا نقاش خوفا" من استخدام كلمة فدرالية.. فالمطلوب بالضبط هنا هو الاعتراف اولا" بأنه ليس صحيحا" ان لبنان هو مثل أي بلد آخر ، وان طريقة بناء نظامه السياسي هي نفسها طريقة بناء أي نظام سياسي عالمي او عربي آخر .. والاعتراف ثانيا" بانه ليس عيبا" ولا محرما" القول والقبول بالتنوع الثقافي والتعدد الطائفي لا بل ان المطلوب اكثر من ذلك اي الاعتراف بان هذا التنوع والتعدد هو ثروة انسانية ونوافذ حضارية على العالم، على حد تعبير الامام موسى الصدر.. والمطلوب ثالثا" الاعتراف بانه ليس عيبا" او محرما" القول والقبول بالتسوية، كمعطى انساني حضاري للاوطان والدول...
بين التعددية والمركزية
وهنا تعود بي الذاكرة الى السجال الذي اُثير عقب صدور” النداء الاخير“ للسينودوس( كانون الاول 1995) والذي تضمن دعوة الى الديمقراطية التوافقية وكلاما" عن التعددية الثقافية.. ففي حمأة السجال الحامي الذي استهدف تكفير وتخوين فئة من اللبنانيين ، ضاع الحوار الهادئ الرصين حول هذه القضايا وتحولت بالتالي الى تابو- محرم لا يقاربه أحد خوف التشهير فالتكفير.. والحقيقة التي ينبغي قولها هنا هي ان الامام شمس الدين رفض معنى التقسيم في فكرة التعددية الثقافية ، ومعنى شلل الدولة في فكرة التوافقية ، تماما" كما رفض معنى المجانسة والاحادية والصهر في دعوات الوحدة والتوحيد والدولة القوية ، دون ان يعني ذلك رفضه للتعددية الثقافية أو للديمقراطية التوافقية في لبنان وهو ما دلت عليه كتاباته وخطبه وتصريحاته 14 . وينبغي إعادة الحوار حول المسألة عبر إعادة وضعها في إطارها السليم والصحيح . ذلك ان عبارة ” ثقافية “ واستخدامها في ” تعددية ثقافية “ ، قد تكون محمّلة بالشحنة الرومانسية الالمانية الهردرية ( نسبة الى هردر) والتي انتقلت الى الانتروبولوجيا المعاصرة (وخصوصا" الانكلوساكسونية) التي اعتبرت” الثقافة كشكل أو نمط للحياة، وككل متكامل يجسّده كل شعب“ . فاعتبرت بالتالي الحدود الثقافية حدودا" إثنية ، الامر الذي سمح بالقول بوجود إثنيات متعددة في لبنان بناء على اعتبار الطوائف وحدات ثقافية انثروبولوجيا .

وقد ماهى الاب سليم عبو في محاضرة له بتاريخ 8 آذار 1985 بين الطوائف والاثنيات ودعا الى الفدرالية على هذا الاساس (15).. وفي مقالة له في العام 1978 وصف مايكل هدسون الطوائف اللبنانية بانها جماعات إثنية-دينية (16).. وقد ناقش نواف سلام هذه الادعاءات ( في مقالته حول مفهوم الطائفة والإثنية )17.....
ان التفسير الثقافوي- الانتروبولوجي للتعددية كان مصدره على الدوام الاقليات الدينية في الشرق ، ومن هنا خطورته وبالتالي خطورة تحوله الى دعوة سياسية – انفصالية معادية للمحيط العربي والاسلامي
(( في مطلع القرن العشرين راجت الدعوة الى وطن قومي مسيحي في لبنان أو وطن قومي قبطي في صعيد مصر أو الى انفصال البربر في الجزائر أو المغرب)) . والحقيقة ان الخطر الآخر جاء ويأتي من اولئك الذين يرفضون وينكرون واقع التعدد الثقافي والديني وضرورة الحل الديمقراطي التوافقي ، فيوصلون مجتمعاتهم تحت شعار الوحدة والقومية الى التمزق والصراعات الدموية ويفتحون الباب للتدخل الاجنبي وللتقسيم.. والاختلاف في النظرة الى الوحدة والانصهار ينبع أيضا" من مفهوم المجانسة ، أو تحويل الآخر وتطبيعه وفرض نمط محدد احادي واحدي نقول عنه انه موحِّد وموحَّد في حين انه بذرة التفتيت وغطاء لأبشع أنواع الاستئثار الفئوي.. وإضافة الى الجذر القومي الالماني (هردر وفخته وحتى هيغل) فان الماركسية هي أيضا" ساهمت في تقديس تلك الدعوة الى المجانسة أو الصهر عبر تعريفها للتعدد الثقافي أو اللغوي أو الديني على انه ظاهرة انتقالية عارضة أو ظاهرة غير أولية وغير ثابتة إطلاقا"، وتأكيدها على ان هذه الظواهر معرّضة سريعا" وبقوة للتغيير.. فهي بنية فوقية تكون انعكاسا" للبنية التحتية وبالتالي فان مصيرها هو التطور الحتمي والتغيير الثوري مع حصول التطور والتغيير في البنية التحتية (الاقتصادية الاجتماعية) التي تحملها. وقد ذهب الكثير من الماركسيين الى اعتبار الخصائص الثقافية (الدين مثالا") وسيلة تستخدمها الطبقات المستَغَّلة لإخفاء التناقض وتمويه الصراع الطبقي في المجتمع، أو كإدراك خاطئ ومشوّه (وعي زائف) يمنع البشر من فهم مصالحهم الاقتصادية ومن التوحّد بالتالي ضد الرأسمالية.. ولم نعدم في لبنان أمثلة على هذا التفسير لعل أبرزها ما كان يقدّمه الكاتب الشيوعي حسن حمدان ( مهدي عامل) 18 وفي مقابل المدرسة الماركسية اكّدت المدرسة الانتروبولوجية ( مالينوفسكي- بنديكت- هيلز- غيرتز) على أولوية الروابط الدينية والإثنية والقرابية التي تتميّز بحال من التضامن المكثف والمتكامل والتأثير الفاعل في سلوك الناس وذلك عبر القوة الإكراهية، والمحرّمات، وايضا" عبر التجذّر في التاريخ والتوارث عبر التربية العائلية والتثبيت عبر المفاهيم العقدية والدينية. وبهذا المعنى فان تلك الروابط تصير ثوابت واقعية قائمة بحد ذاتها في التاريخ أو متكوّنة عبر التاريخ، أي انها تصير جواهر ثابتة. وهذا ما حدا بكليفورد غيرتزClifford Geertz للحديث عن ”الهوية الاساسية“ للمجموعة19، ووالكر كونرWalker Conner للقول برابط حدسي اكثر قوة وعمقا" من الروابط التي تشّد المجموعة الى بنية دولة قائمة وشرعية يجد الناس ذواتهم فيها20 .
أما بيّار فان دن برغ Pierre L.Van Den Berghe فقد قال بان هذه المجموعات ”هي امتداد لعبارة القرابة وتتميّز اكثر بأولويتها وشموليتها عن كل التجمعات القائمة على المصالح المجزأة مثل الجمعيات المهنية والاتحادات العمالية والاحزاب السياسية أو بشكل اوسع الطبقية . فالعلاقة بين الطبقة من جهة والاثنية والعرق من جهة اخرى معقّدة لأن درجة الترابط بين خطوط التباعد والانشقاق المختلفة أساسا" تتنوع من حالة الى اخرى . ولكن وبصورة عامة يستطيع الناس ان ينتظموا بسهولة عبر الروابط الإثنية والعرقية اكثر بكثير من الاعتماد على الروابط الطبقية“ 21 .
وكان راج في مطلع الحرب الاهلية اللبنانية مصطلح” الطبقة/الطائفة“ التي استخدمها الشيوعي اللبناني جورج حاوي كما الماركسي الفلسطيني منير شفيق في إشارة الى ما أسماه القومي العربي اليساري منح الصلح ”المارونية السياسية“ ، في محاولة تنظيرية دمّجت بين مفهوم الجماعة الدينية- الثقافية ( او الإثنية) وبين مفهوم الطبقة. ورغم ان الإثنية او الجماعة الخصوصية (الدينية-الثقافية) تُلازم وتُحتّم جزئيا" موقع الطبقة ، الا ان الطبقة تتكون حتما" من عدد من العوامل غير الإثنية- الدينية- الثقافية.. وبالمقابل فانه توجد عوامل او جوانب عديدة للجماعات الثقافية – الدينية- الإثنية مستقلة عن علاقتها بالسلطة والانتاج الذي يشكل نظام الطبقة .
وفي التسعينات من القرن العشرين حاول الماركسيون تناول موضوع العلاقة بين مفهوم الإثنية، او الجماعة الدينية-الثقافية من جهة، ومفهوم الطبقة من جهة أخرى ، من خلال استعادة وتداول مفهوم وفكرة المجتمع المدني، كإطار لتحديد العلاقة بين المجتمع والدولة، باعتبار المجتمع المدني هو الهيئات الاجتماعية الوسيطة التي تحمل رموز ومعاني تنوع الانتماءات الدينية والثقافية والإثنية وغيرها، لدى الفرد والجماعة. ولن ندخل هنا في شرح ظاهرة إعادة نبش فكرة ومفهوم المجتمع المدني على يد المثقفين الاميركيين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وكيفية تلقفها لدى المثقفين الماركسيين العرب الخارجين من السياسة22. الا ان ما نوّد تأكيده هنا هو عدم قدرة فكرة ومفهوم المجتمع المدني على تقديم إطار مرجعي لتفسير وتحليل النظام السياسي في الدول التعددية اذ ان المفهوم والفكرة هما نتاج الفكرالقومي السياسي المرتبط بنموذج الدولة- الامة في الغرب وذلك منذ هوبز وروسو وحتى هيغل وماركس.. أما قيمة المحاولات الماركسية الجديدة فتعود الى جهدها في ربط نفسها بتراث غرامشي في هذا المجال. الأمر الذي سمح بإعادة الاعتبار الى غرامشي نفسه بعد ان كان التيار السوفياتي السائد في الاحزاب الشيوعية يحرّم مجرد ذكر اسمه، تماما" كما نشهد اليوم عودة الماركسيين السوفيات العرب الى الاشادة بالتجربة الصينية وبالماوية بعد ان كانوا ولعقود يعتبرونها حليفة الامبريالية الاميركية..
وبالعودة الى موضوعة استعادة فكرة ومفهوم المجتمع المدني بناء" على تراث غرامشي (الايطالي قلبا" وقالبا") فان ما ينبغي توكيده هنا هو ان غرامشي حاول مبكرا" الخلاص من النظرة الماركسية الضيّقة التي لم تكن ترى في المجتمع المدني سوى ”البنية الاجتماعية“ التي هي مسرح الصراع الطبقي أولا" والاساس الذي يرتكز عليه كل تطوّر اجتماعي ثانيا".. وحاول أيضا" عدم الوقوع في النظرة الهيغلية المتعالية هي الاخرى على المجتمع ومكوّناته والتي جعلت المجتمع المدني هو الحيّز الاجتماعي والاخلاقي الواقع بين الاسرة والدولة ووجوده يفترض طبعا" الدولة المعبّرة عن إرادة عليا والمجسِّدة سياسيا" وتاريخيا" لمعقولية الفكرة المطلقة.. فالمجتمع المدني عند هيغل يصبح وسيطا" بين الفرد والدولة كمؤسسات وتجمعات يفرزها المجتمع ويتم من خلالها تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع.. وقد رأى غرامشي بأن المجتمع المدني هو من جهة بناء فوقي (الى جانب المجتمع السياسي أو الدولة) ينطوي على وظيفة الهيمنة hégémonie ، وهو من جهة اخرى فضاء للتنافس الايديولوجي (باعتباره يحتوي على العلاقات الثقافية- الايديولوجية ويضم كل النشاط الروحي- العقلي) في حين يكون المجتمع السياسي فضاء للسيطرة السياسية بواسطة القوة Pouvoir. ووظيفة الهيمنة التي للمجتمع المدني هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي انها خاصة مثل دور العبادة والنقابات والمدارس23.. وقد دعا غرامشي فيما دعا اليه الى انشاء كتلة تاريخية ، سياسية اقتصادية ، متناسقة ، جديدة ، بدون تناقضات داخلية موضحا" ان سيادة أية طبقة اجتماعية او تحالف طبقي تستوجب هيمنتها أي الارادة الثقافية- الاخلاقية والقيادة لإيجاد سياسة ثقافية تنسّق وتوحّد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة السياسية 24 .غير ان الفصل المنهجي عند غرامشي بين مجتمع مدني ومجتمع سياسي لا يشير الى انقسام وظيفي في كلا المجتمعين . فالواقع الفعلي هو ان المجتمع السياسي والمدني متطابقان وما يفعله غرامشي هو التمييز داخل الدولة- الامة بين لحظة القوة / السلطة التي تمتلكها الدولة ( المجتمع السياسي) وبين لحظة التسوية التي هي لحظة المجتمع المدني .
فالدولة/ المجتمع السياسي ليست فقط أداة عنف وسيطرة بالقوة وانما هي من خلال لحظة التسوية/ المجتمع المدني أداة الهيمنة الايديولوجية الخفية على المجتمع عبر تحكّمها بكل المؤسسات ( المدرسة، الجامعة، النقابة، الاحزاب، الكنيسة والدين..).. وحسب غرامشي فان الكنيسة لعبت دور الفئة المثقفة للطبقة الحاكمة فكانت هي ”المثقف العضوي“ على حد تعبيره قبل ان تنحدر وظيفتها هذه وتعود الى ايديولوجية جديدة للطبقة الحاكمة . والنقطة المثيرة في تشخيص غرامشي لوظيفة الهيمنة الايديولوجية تركيزه على لحظة التسوية باعتبارها لحظة المجتمع المدني وهذا ما يمكن الافادة منه في مقاربة مختلفة لمعنى التسوية في النظام التوافقي على النمط اللبناني .
ولعل النقطة الاساسية في تبني الماركسيين الجدد لفكرة المجتمع المدني تتعلق بكون المجتمع المدني يظهر باعتباره رابطة طوعية اختيارية يدخلها الافراد بمحض إرادتهم ايمانا" منهم بانها قادرة على تلبية مصالحهم والتعبير عنهم. ويتكوّن المجتمع المدني بهذا المعنى من المؤسسات الانتاجية والطبقات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية والدينية والنقابات العمالية والروابط والاحزاب السياسية والنوادي الثقافية والاجتماعية..
ولقد التقط الليبرالي الجديد آبنر كوهن Abner Cohen هذا المعنى للحديث عن عامل أو عنصر التنافس بين ”المجموعات“ في سبيل السيطرة على، أو مراقبة الموارد 25 ، خاصة تلك التي تشرف عليها الهيئات الرسمية. وهو اعتبر ان هذه المجموعات الاقتصادية أو الثقافية لا تتكوّن وفق معايير موضوعية وانما وفق إرادات ذاتية اذ يستطيع الاشخاص الاختيار بين أشكال الهوية الاقتصادية والثقافية كما تستطيع أكثر مجموعات المصالح المختلفة العمل في مجال المنافسة السياسية .. ويكفي ان يُحدد اُناس ما ان الجماعات الثقافية او الاقتصادية (او الدينية اوغيرها) هي هنا وحسب هذا الفهم ذات طابع طوعي محض ، وهذا عكس النظرة الماركسية او الاقتصادية حول اولوية العناصر الاقتصادية الموضوعية ودور الحتمية التاريخية في تكوّن الجماعات وتطورها..
وكان فان دان بيرغ اكّد على وجوب تضافرعوامل ذاتية وموضوعية لقيام جماعات أثنية
( ثقافية) . فالعنصر الذاتي هو مفهوم وادراك للتمييز بين ( هم ) و ( نحن ) ، وهو ضروري لتكوين الجماعة . لكن هذه المفاهيم الذاتية لا تنمو عشوائيا" بل هي تتبلور حول مجموعة من الخصائص الموضوعية التي تتحول الى مؤشرات للانصهار او للرفض . وحسب فان دان بيرغ فان الميزة الدائمة والمشتركة بين الجماعات الإثنية- الثقافية هو اصلها الطبيعي : إذ يولد المرء فيها وينمو بين افرادها ويتزوج داخلها ويعيش ضمن عائلاتها . وهذا ما يميّز الجماعة المحددة عن غيرها من الجماعات التي تشارك في عملية التنافس السياسي ذاتها . فالاصل المشترك الواقعي أو الصوَري يساهم في توسيع دائرة العائلة وفي بث شعور الاخوة بين الجماعة بكاملها26 .. وقد خالف فان دان بيرغ هنا مقولة ماكس فيبر الذي شدّد على معنى ان ”معيارا" مميزا" يؤدي طبيعيا" الى تحديد جماعة أو طائفة ، فقط عندما تشعر ذاتيا" بأن لها معالم مشتركة . وحسب فيبر فان الجماعات القائمة على الاصل هي غالبا" ذات طبيعة خيالية ، وان الادراك الحسيّ بالانتماء الى جماعة يتأتى عادة بصورة اولية عبر مصير سياسي مشترك وليس بصورة اولية بفعل الاصل“ 27 .
وهكذا فان التمييز الذي أقامه كارل ماركس بين الطبقة بذاتها والطبقة لذاتها28، وذلك الذي أقامه ابن خلدون بين النسب كأمر وهمي ، وبين العصبية 29 ، أو التمييز بين الامة الموضوعية - الثقافية والامة السياسية- الذاتية 30، هو ما يُشير اليه ماكس فيبر بادخاله عامل الشعور الذاتي بالمعالم المشتركة والمصير السياسي المشترك لتحديد جماعة أو طائفة ما .. وهو بالتالي تمييز بين جماعات ثقافية بذاتها وجماعات ثقافية لذاتها .. الاولى موضوعية والثانية تنبعث من الشعور بالوعي الذاتي ..
ولعل عبارة جماعات او مجموعات إثنية العزيزة على قلوب الدراسات الانتروبولوجية (وخصوصا" الانكلوساكسونية) لا تكفي للتعبير عن ”الجماعات لذاتها“ ، أكانت دينية ام ثفافية ام إثنية .. وعبارة طائفة أوضح وأفصح وهي تعني جماعة شعبية أو دينية أو ثفافية أو لغوية تتمتع بوعي وبادراك ذاتي بانها جماعة لذاتها (فؤاد اسحق الخوري ، أحمد بيضون ، نواف سلام ، ثيودور هانف ، وغيرهم) 31 ... وحسب بيار روندو فقد حددت محكمة العدل الدولية بتاريخ 31 تموز 1930 الطائفة بما يلي : ” معيار مفهوم الطائفة وجود مجموعة من الاشخاص تعيش في بلد أو في منطقة معينة تتميز بعامل العرق او الدين او اللغة او التقاليد الخاصة بها ، والتي تتّحد بشعور من التضامن بهدف الخفاظ على تقاليدها وصيانة طقوسها وتأمين التعليم والتربية لأولادها وفقا" لخصائص عرقها وللتعاون والتضامن المتبادلين“ 32 .
بين التعدد والتوافق :
وفي بلد متعدد الطوائف كلبنان ، يكون السؤال الدائم حول النظام السياسي الأمثل أو الأنسب الذي يحقق الاستقرار والاستمرار ويضمن الامن والامان ويكفل تحقيق الذات والازدهار للجميع .
وفي الدول التعددية هذه غالبا" ما يدور الحوار والصراع حول ماهية المجتمع والدولة والكيان ، وحول الانتماء والهوية ، وحول المعنى والدور . وقد عرف التاريخ السياسي الحديث بروز ثلاثة اتجاهات إيديولوجية 33 :
الاتجاه اليعقوبي الراديكالي الداعي الى ”المساواة الثقافية“ أي الى القضاء على الاختلافات والتنوّعات تحقيقا" لمبدأ وحدة الجمهورية وسلطتها المركزية .. والمثال الفرنسي اليعقوبي حاضر أمامنا حيث وضع اليعاقبة لغة واحدة محررة من أية خصوصية ونظاما" تعليميا" موحدا" يقضي على لغات الاقليات او لهجاتها وعملوا على القضاء على كل ما يقف في طريق الوحدة السياسية والثقافية عبر الارهاب الثوري لبناء جمهورية واحدة موحّدة وعبر العمل الارادوي ونشاط الدولة.. وقد استوحى العالم الثالث هذه الايديولوجيا تحت شعار بناء الامة والحقيقة القومية الاجتماعية ومحاربة القبلية والعشائرية والطائفية ..
ومقابل ذلك تنشأ ايديولوجيا تعبئة الهويات استنادا" الى الأصل الاثني- الاقوامي أو الى اللغة أو الدين أو التاريخ أو الثقافة والدعوة الى الخصوصية والتمايز والى الانفصال أو الاستقلال الذاتي داخل الدولة الواحدة .. ومن الغريب ان نجد في لبنان قوى سياسة تجمع بين الايديولوجيتين اي بين جمهورية اليعاقبة وبين خصوصية وتمايز من موقع طائفي او فئوي يؤسس لخطابه وسلطته تحت سقف الدولة الواحدة التي يريدها مركزية موحَّدة صاهرة تقمع المخالفين والمختلفين .. ويكفينا نموذج حزب الله الشيعي أو الحزب الاشتراكي الدرزي أو الحزب القومي السوري أو حركة أمل أو حزب البعث ، أو حزب الكتائب أو الكتلة الوطنية أو غيرها..
أما الاتجاه الثالث فهو المسمى بالوطنية التوفيقية 34 اذ يدعو الى التوافق ضمن دولة- أمة- وطن أي على التعددية على أساس التجمعات القائمة والنامية وذلك لعدم واقعية أو امكانية القضاء على التجمعات وثانيا" بسبب العيش المشترك بينها(وهذا ما تؤكده التجربة اللبنانية كما تجارب عالمية اخرى) .
وفي الاطار السياسي الدستوري برز الكلام على الديمقراطية التوافقية أو ديمقراطية التوافق Konkordanzdemokratie وخصوصا" لدى جرهارد لاهمبروخ Gerhard Lahenbruch 35 وكان أسماها أولا" ديمقراطية التناسب Proporzdemokratie وقد صاغ العالم النيذرلندي آريند ليجبهارت Arend Lijbhart مفهوم الديمقراطية التوافقية باسلوب واضح وشامل 36.
وهو أخذ مفهوم التشارك في المصير Consociation عن العالم السياسي المبدع والمجهول للأسف37 Johannes Althusius وفي حين ان لاهمبروغ قد ركّز على معنى المفهوم السياسي الذي نشأ تاريخيا" بالنسبة التعايش الديمقراطي التوافقي ، فان ليجبهارت قد ركّز على الآليات الدستورية الملائمة لذلك ..
والخلاصة انه في المجتمعات التعددية لا يوجد واقعيا" سوى خيار وحيد وهو ديمقراطية التشارك والتوافق أو لا ديمقراطية..
وقد برز الى الوجود مؤخرا" تيار فكري كبير يُعيد النظر في صيغة النظام السياسي الأنسب في المجتمعات غير المتجانسة ، وحتى في المجتمعات شبه المتجانسة ، وفي نموذج تسوية النزاعات في الدول ذات الطوائف او الفئات او المجموعات المختلفة وذلك على أساس ان قرار الاكثرية (الديمقراطية العددية) في مثل هذه المجتمعات لن يكون الا قرارا" انحيازيا" لمصلحة المجموعة الاكثر عددا" وان صيغة التوافق بين المجموعات وتشاركها في السلطة هي الصيغة الانسب وهي صيغة لا تقوم الا على التسويات الدائمة.. وفي هذا الاطار نشير الى مدرسة مجلة Telos في أميركا 38 والى مدرسة مجلة Krisis 39 في فرنسا ، كما نشير الى وثائق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني 40 والى مجمل الحوار والصراع والتجديد الفكري الذي يرفض الاكتفاء بمدرسة النموذج المركزي الناجم مباشرة عن الثورة الفرنسية وعن تيارها الجمهوري اليعقوبي ، والذي يدعو الى اعادة الاعتبار لمدرسة النموذج الفدرالي الذي كان في أساس تجربة الولايات المتحدة الاميركية وغيرها . وتجدر الاشارة هنا الى ان النموذج الفدرالي التوافقي التشاركي هو الذي يلتقي مع الفقه السياسي الاسلامي كما عبّر عنه الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين وخصوصا" في كتابيه : ” نظام الحكم والادارة في الاسلام “ 41 ، وفي ” الاجتماع السياسي الاسلامي “42، كما في وصيته الاخيرة... 43 ..
نحو إطار مرجعي جامع
هل يمكن بناء وطن ودولة استنادا" الى أُطر مرجعية اُصولية لا تلتقي إلا على نقض الوطن وتهديم الدولة وتوزيع مغانمها؟ وأقصد بالاصولية هنا شتى أنواع الايديولوجيات القصوى ، التي تعتبر نفسها هي الحقيقة وهي الحل ( من قومية لبنانية أو سورية أو عربية أو اسلامية... إذ لا فرق بينها الا في علاقتها بالسلطة أو في موقعها المرحلي من النظام) !.
ان تحديد إطار مرجعي جامع هو الذي ” يُسهّل التفسير المجمل الذي يجمع بين اللبنانيين كافة“ أي انه يوفّق بين وجهات نظر لبنانية متناقضة او مختلفة ، ويتوافق مع طبيعة تكوين المجتمع اللبناني ، ويكون إطارا" للفهم وللعيش في آن معا". ان ما لا ينجح الاصوليون في فهمه هو ضرورة الفصل والقطع ما بين الايديولوجيا والسياسة، لكي يمكن تفسير وفهم وعيش وتكوين وتطوير مجتمعنا ونظامنا السياسي...
فالاطار المرجعي الجامع لا يمكن ان يكون إسلاميا"، أو مسيحيا"، أو انصهاريا"، أو تقسيميا".. فكل إطار من هذه الاطر المرجعية كاف لوحده لتفجير الصيغة اللبنانية مرارا" وتكرارا".. وهذا ما قصده الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين حين أكّد على” انه لا يمكن قيام مشروع اسلامي او مشروع مسيحي في لبنان، لان ايا" من المشروعين سيفجر لبنان وسيفجّر نفسه“. وقد حدد الامام فهمه للكيان اللبناني بقوله: ان ” تكوين لبنان الحديث لم يُنجز لأن الفرنسيين أرادوا ذلك ، ولا لأن المسيحيين أرادوا ذلك وأجبروا المسلمين عليه ، أو لأن المسلمين أجبروا المسيحيين على ذلك، ولكن لأن المسلمين والمسيحيين معا" أرادوا ذلك. لذا أمكن إيجاد لبنان“ . وحسب الامام فانه ” في أول الامر كان هناك كيان مسيحي خالص، والمناطق الاسلامية في لبنان الفعلي كان يمكن ان تكون الآن جزءا" من سوريا “ الا ان اللبنانيين توافقوا على تكوين هذا الوطن.. وهو اعتبر ان فشل صيغة 1920 وصيغة 1943 ، كان ” لأن القيّمين عليها فشلوا في إدارتها" .. لقد فشل المسيحيون، والموارنة منهم بوجه خاص ، في جعل تلك الصيغة قابلة للتطور ومسايرة التغيّرات التي طرأت على لبنان ومحيطه وعلى العالم.. الآن نحن نصنع صيغة جديدة فيها الكثير من صيغة 1943 وفيها بعض التغيير الذي يستجيب للحقائق الجديدة أو للحقائق القديمة في لبنان ومحيطه. والذي يتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل- لا قدّرَ الله – في هذه الصيغة الجديدة هم المسلمون . نجاح هذه الصيغة الجديدة هو مسؤولية المسلمين وليس مسؤولية المسيحيين.. من هنا قلنا ونكرر وسنظل نكرر بأن طريقة المسلمين في المشاركة في عملية الحكم والادارة وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي يجب ان تأخذ في الاعتبار هذا الامتحان. لا نريد ابدا" ولا نرضى أبدا" ان يكون هناك أي خطاب سياسي أو تعبوي يجعل المسيحيين يندمون أو يترددون في خيارهم الذي اختاروه في هذه الصيغة الجديدة. يجب أن تتوفر لها جميع عناصر النجاح ، لأنها إذا لم تنجح فسيكون المسلمون هذه المرة مسؤولين عن فشلها كما كان المسيحيون مسؤولين عن فشل الصيغة الأولى .من هنا ندعو السياسيين والقياديين الى أن يباشروا الأمور برفق ، وألا يدفعوا الأمور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شأن الدولة والمجتمع ، وا ن تكون روح الحوار والانفتاح والإخلاص لهذا البلد ولشعبه الذي يستحق كل التكريم .. أن تكون هذه الروح هي الروح الحاكمة .
لن يكون لبنان مسيحيا" ذا وجه عربي أو إسلامي ، ولن يكون إسلاميا" ذا وجه مسيحي أو أوروبي . لبنان هو لبنان . هويته تتكوَّن من تنوعه.. من هنا أقول : إذا كان الخطاب السياسي الإسلامي يعاني من خلل ما ، فعلى القيّمين على هذا الخطاب في الحكم وفي المجتمع أن يعيدوا النظر في عناصره لكي نخرج نهائيا" من عقلية الفتنة ، وندخل بصورة نهائية في آفاق الوحدة والتعاون لتثبيت وترسيخ صيغة العيش المشترك التي ينفرد بها لبنان في العالم .توجد مجتمعات متنوعة غير لبنان ، ولكنها حتى الآن فشلت في أن تصل الى هذا المستوى من النضج الروحي والإنساني والسياسي بحيث تخترع صيغة العيش المشترك ” المقوننة “ والمبرمجة(...)...
ان هذه الصيغة التي ينفرد بها لبنان (صيغة العيش المشترك المقوننة والمبرمجة) تطرح حسب قول الامام في صميمها مسألة المساواة : ” هناك في لبنان نوع من سوء الفهم او الخلل في طرح إشكالية التعايش إذ لا بد ان يوجد الاطار التشريعي والقانوني والقاعدة الحقوقية الانسانية للتعايش . لا توجد مشكلة في أن يكوّن المسلمون والمسيحيون في لبنان أو في أي مكان آخر مجتمعا" سياسيا" واحدا" وان ينخرطوا في عالم ثقافي واحد ذي قيم مشتركة مع الاحتفاظ بالتنوّع الخاص لدى كل منهم . ان في التنوّع فرادة الانسان وخصوصية الآدمي وهذا سر من أسرار الله في البشر، والتدخل في هذه الخصوصية يحطّم قداسة الانسان . ان التنوع لا يتنافى أبدا" مع وجود مجتمع سياسي معافى بل لعله أحد شروطه“44 .
ان هذا هو ما يُعبّر عنه في علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي بالنظام التوافقي Consociatif الذي تُرجم لبنانيا" في الآونة الاخيرة الى ” الديمقراطية التوافقية“démocratie consensuelle
والحقيقة انه ينبغي التمسك بالمفهوم العلمي للنموذج التوافقي والذي يقوم حسب انطوان مسرة 45 على خصائص رئيسية أربع :
حكومة إئتلاف واسع ، بما يضمن حماية المجموعة الاقلوية .
نسبية في التمثيل بدلا" من قاعدة الاكثرية العددية .
الفيتو المتبادل كوسيلة لحماية الاقلية ضد القرار الاكثري .
إدارة ذاتية في الميادين التي تخص الطوائف مباشرة .

ان هذا النظام التوافقي هو المعمول به فعليا" في لبنان على قاعدة ميثاق 1943 ووثيقة الطائف 1989وهو يعني ديمقراطية من نوع آخر . اذ انه في الديمقراطيات المتجانسة هناك احتمال تحوّل الاقلية الى أكثرية بفضل تغيّر الرأي العام ومن خلال صناديق الاقتراع. أما في المجتمعات المتعددة فان الاقلية محكوم عليها سياسيا" بالبقاء أقلوية وبالعزل.. ومن هنا حاجتها الى ضمانات تشريعية وقانونية .. فالمشاركة في الائتلاف الحكومي لا تكفي لحمايتها ان لم يكن لديها حق النقض في الميادين ذات الاهمية الحيوية.. وهذا ما نراه في النظام اللبناني وفق اتفاق الطائف الذي أرسى قاعدة المناصفة في البرلمان والوزارة .. ولقد أساء البعض فهم معنى الادارة الذاتية في الميادين التي تخص الطوائف مباشرة“ . فلم ينتبهوا الى ان هذه الادارة الذاتية تأخذ الشكل الاقليمي territorial عندما تتطابق الانقسامات الرئيسية مع الحدود الجغرافية ، وهي تأخذ الشكل الشخصي عندما لا تلتقي الانقسامات مع الحدود الجغرافية..ومن هنا فان الحوار النظري والعملي ينبغي ان يكون هنا حول معنى اللامركزية الادارية في لبنان من جهة، وحول معنى قانون الاحوال الشخصية من جهة اخرى .. فالادارة الذاتية هنا في لبنان هي فدرالية على أساس شخصي في دولة موحدة، وهذا غير الفدرالية القائمة على أساس إقليمي..
وبعد ، فان ما هو أساسي أخيرا" يتمثّل في إغناء الحوار الهادف الى بلورة وتطوير الصيغة اللبنانية الانسب على مستوى الحكم والادارة وكذلك على مستوى القانون الانتخابي الأفضل .




هوامــش
1- اشارة الى الكتابين الشهيرين :
المسلمون في الاتحاد السوفياتي- تأليف الكسندر بينغسن ، وشانتال لو ميرييه كلكجاي ، ترجمة احسان حقي – مؤسسة الرسالة – بيروت 1977 .
المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفياتي- ترجمة عبد القادر ضللي- دار الفكر المعاصر- بيروت 1989.
2- اشارة الى أعمال الاستاذة هيلين كارير دانكوس حول الاتحاد السوفياتي وهي كثيرة ومعظمها ترجم الى العربية – (دار الحقيقة، دار الطليعة، والمؤسسة الجامعية للدراسات) .
3- ثيودور هانف : لبنان تعايش في زمن الحرب ، ترجمه عن الالمانية موريس صليبا ، مركز الدراسات العربي- الاوروبي ، باريس 1993- ص 30 .
4- اشارة الى ترجمات لاكوست ومونتاي لمقدمة ابن خلدون وكتاباتهما عنه وخصوصا" كتاب ايف لاكوست الذي ترجمته ونشرته دار ابن خلدون ، بيروت ،1975.
5- كارل ماركس : - حول الهند والجزائر: دار ابن خلدون ، بيروت 1980
وحول المسألة الشرقية: كتاب بريان تيرنر: ماركس ونهاية الاستشراق ، مؤسسة الابحاث العربية ، بيروت 1981.
وكتاب ادوارد سعيد: الاستشراق ، مؤسسة الابحاث العربية ، بيروت 1981.
6- حول علم الاجتماع الغربي ، انظر القراءة الرائعة والمنهجية التي قدمها حسن الضيقة وهيام المولى:مقدمة في علم الاجتماع، نصوص ودراسات مختارة – الجامعة اللبنانية – معهد العلوم الاجتماعية ، بيروت 2000.وهي دراسات حول أعمال كونت ودوركهايم وفيبر وتونينس وغيرهم.
7- نفس المصدر... وانظر ايضا: هانف ،م.س.، ص:30-35
8- وضاح شرارة : دولة حزب الله – دار النهار، بيروت 1996.
9- هانف ، مصدر سابق ، ص31 .
10- انطوان مسرّة : النموذج السياسي اللبناني واستمراريته- منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت 1983، ص6 .
11- راجع بهذا الصدد كتابات : حسن الضيقة ، عادل حسين ، عبد الوهاب المسيري ، طارق البشري، عادل عبد المهدي، جلال امين ،هبة رؤوف عزت…
12- انطوان مسرّة : م .س. ، ص 7- 8 .
13- ثيودور هانف :م.س.، ص 33- 34 .
14- انظر كتابنا : العدل في العيش المشترك:منشورات معهد الدراسات الاسلامية المسيحية في جامعة القديس يوسف ، بيروت،2003 .
15-Abou,S. "le pluralisme libanais:perspectives d'avenir",in: Les conferences de l'ALDEC,la guerre du Liban au regard des Sciences Humaines,Beyrouth,1985,pp23-29.
16- Hudson,M. "The Ethnoreligious Dimension of the Lebanese Civil War", in Journal of South Asian and Middle eastern studies,vol.1,n:3,Spring 1978,pp34-45.
17- نواف سلام : الوضع اللبناني – الطوائف ، المواطن والدولة.
Salam,N. La condition libanaise:Communaute,citoyen,Etat..Dar Annahar,Beyrouth 1998ٍ
18- راجع خصوصا" الكتاب الذي صدر له بعد وفاته وهو بعنوان : نقد الفكر اليومي- دار الفارابي ، بيروت 1987 .
19- كليفورد غيرتز Clifford Geertz: The integrate revolution:

Primordial sentiments and civil politics in the new state, in: Old societies and new states. The quest for modernity in Asia and Africa, London 1963.
20- والكر كونر: Walker Conner: A Nation is a nation , is a State ,is an Ethnic Group , is a... , in : Ehtnic and Racial studies, 1(1978) 4, pp 377- 400.

Pierre L. Van Den Berghe:21- بيار فان دن بيرغ
The present state of comparative Race and Ethnic Studies , in Jan Berting et al (eds), Problems in International Comparative Research in the Social Sciences, Oxford 1979, pp 23- 36.
22- انظر كتاب عزمي بشارة: المجتمع المدني، دراسة نقدية . مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت1998
23- Norberta Bobio , Gramsci and the Concept of Civil Society, 1988,p 82-84 وانظر ايضا:جان مارك بيوتي: فكر غرامشي السياسي- ترجمة جورج طرابيشي ، بيروت 1975، ص 10-16
24- المصدر السابق .
25- آبنر كوهن Abner Cohen,
Two dimensional man: an essay on anthropology of power and symbolism in complex society , Berkeley 1974.
26- فان بيرغ – م . س .
27- هانف ، م . س ، ص 42 .
28- انظر : كارل ماركس وفريدريك انجلز:البيان الشيوعي،في عشرات الطبعات..
29-انظر : مقدمة ابن خلدون، في عشرات الطبعات، ولكن خصوصاً مقالة محمد الطالبي:
Talbi,M."Ibn khaldun et le sens de l'Histoire",in Studia islamica,XXVI,1976,p 89
30- وهو التمييز القومي الشهير بين الامة كوجود تاريخي موضوعي أزلي (الحقيقة الاجتماعية الكلية ) وبين الوعي الذاتي بهذا الوجود والشعور العاطفي بقوته وهما أساس القومية.
31- راجع : فؤاد اسحق الخوري : امامة الشهيد وامامة البطل ، بيروت 1988.
أحمد بيضون : شبكات التضامن التقليدية في المجتمع اللبناني ، مجلة النور، العدد 258 آذار ، 1966 ، لندن .
نواف سلام : م . س .، ص19-32
ثيودور هانف ، م . س ، ص 43- 45.
32- بيار روندو : Pierre Rondot, institutions politiques au Liban, Paris 1947,p22
33- انظر :هانف ، م . س ، ص 51- 56. وقارن مع كتابنا :العدل في العيش المشترك، م.س.
34- ميلتون إسمان: Milton Esman, The management of communal conflict , in: Public Policy,21(1973)pp 49-78
35- جرهارد لاهمبروخ: Gerhard Lehmbruch, لنظرة حول مؤلفاته الكثيرة راجع انطوان مسرّة ، مصدر سابق .
36- آرينت ليجبهارت: الديمقراطية في المجتمع المتعدد، دراسة مقارنة ، ترجمة إفلين مسرّة ، بيروت 1984 ( والكتاب صدر بالانكليزية عام 1975).
37- يوهانس التوسيوس: Johannes Althusius,
راجع العدد الخاص عنه في مجلة كرايزيس Krisis – العدد 22 ، مارس 1999، باريس .
38- مجلة تيلوس : تصدر في نيوروك منذ ربع قرن، أبرز محرريها روبيرتو داميكو وبول بيكوني .
39- مجلة كرايزيس : تصدر في باريس ومحررها الرئيسي آلان دو بنوا.
40- المؤتمر الدائم للحوار اللبناني : نشرة قضايا الاسبوع، وقضايا لبنانية، وقضايا الحوار ووثائق مختلفة معلنة 1993- 1996- 1999 و 2003.
41- الامام محمد مهدي شمس الدين:نظام الحكم والادارة في الاسلام ،بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر ، الطبعة السابعة 2000...
42-في الاجتماع السياسي الاسلامي،بيروت،المؤسسة الدولية للدراسات والنشر،بيروت 1999

43- الوصايا، دار النهار للنشر،بيروت الطبعة الاولى 200
44- تم جمع هذه الاقوال والاحاديث والنصوص في كتاب :"لبنان الكيان والمعنى"، صدر عن مؤسسة الامام شمس الدين للحوار ،بيروت،2005
45- أرنت ليبهارت:الديمقراطية في مجتمع متعدد"،ترجمة افلين أبومتري مسرة،بيروت 1984،انظر مقدمة انطوان مسرة، ص. 5-12