محمد حسين شمس الدين
المراد بالمصلحة ههنا ثلاثة مستويات: الشيعي الخاص، فاللبناني العام، فالعربي الأعمّ. أو قُل هي مصلحة الشيعة اللبنانيين في إطار حاضنيتَهم، أو دائرتي انتمائهم، اللبنانية والعربية. هذا من دون الوقوع في شرك التناقض المفتعل بين المستويات الثلاثة. والمقاربة تجنبت الاستناد الى "معيار المصلحة الإسلامية العامة"، لأن هذا المعيار، بالمعنى الجيوبوليتيكي، لم يعد قائماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وخروج مصطلح "دار الإسلام" من التداول. وحتى من خارج الاعتبارات الجيوبوليتيكية، يبقى هذا المعيار خلافياً جداً اليوم بين المسلمين أنفسهم، فيكاد يكون في منزلة "الافتراضي"، على الرغم من وجود رابطة شكلية للعالم الإسلامي. ذلك بسبب الانشطار السني - الشيعي الذاهب الى مزيد من الشيء نفسه، فضلاً عن اصطفافَي التطرف والاعتدال داخل كل من التيارين المذهبيَين، وبسبب الانشطارات القومية المتجسدة في دول نهائية أو شبه نهائية، ناهيك عن أفول عصر الإمبراطوريات القائمة على الدين أو العرق. وبما هي مقاربة من منظور "المصلحة"، فالإيديولوجيا ليست إذن من بضاعتها؛ فلا هي تُهوّل بها، ولا هي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ لابتزازها.
[ 1ـ ثلاث وقائع شيعية
ثمة في المشهد العربي الراهن ثلاث وقائع شيعية يصعب تجاهلها، كما لا يحسن تناولها بمنطق المكابرة.
[ هنالك أولاً ما يصحّ أن يسمى بـ"مسألة شيعية" باتت مطروحة بقوة في الواقع العربي غير المعزول عن جواره الإقليمي وأجندات الدول الكبرى. من تجليات هذه المسألة أن صار يُحكى، وبأصوات حكومية مرتفعة تجاوزت لغة الديبلوماسية الهادئة، عن اهتزاز ولاء بعض الشيعة العرب لدولهم الوطنية، جرّاء تأثرهم بمركزية إيرانية تسعى جاهدة لمدّ نفوذها في المنطقة العربية، مستغلة وجود ثغرات ومُحدثة أخرى في بنيان تلك الدول. ومن تجلياتها أيضاً توجيه اتهام الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تقود حركة دعوتية لنشر التشيّع الإمامي الإثني عشري، بنسخته الفارسية الجديدة، أي النسخة الخمينية، في البيئات السنية العربية. هذا في زمن أصبح "التقريب" هو قاعدة التعامل المقبولة بين المذاهب الإسلامية، وفيما اتفق العقلاء من مختلف الأديان والمذاهب على أنه لم يعد مسوّغ تاريخي أو أخلاقي أو معرفي لحركتي "الدعوة" و"التبشير" على حد سواء.
ربطاً بهذه الواقعة، يمكن القول أن الحكم الإيراني ـ باستثناء الفترة الخاتمية ـ لم يكلف نفسه عناء دفع التهمة، بل أقدم دائماً على ما يؤكدها. تكفي إشارتان بليغتان في هذا الصدد: فالإمام الخميني نفسه كان قد صرّح غداة انتصار ثورته بأنه "قد آن الأوان كي يقود الفرس العالم الإسلامي، بعدما قاده العرب فالكرد فالمماليك فالأتراك خلال حقب سالفة"؛ وها هو الرئيس الحالي أحمدي نجاد يطالعنا يومياً بمواعيد "صادقة" لقيام "الشرق الأوسط الإسلامي"، بقيادته الرشيدة وبعناية "صاحب العصر والزمان"!. مشكلتنا مع هذه النزعة الإيرانية التوسعية مزدوجة. فهي، بتطبيقاتها العملية، إنما تتم حكماً وبالضرورة على حساب المصالح الحيوية للإقليم العربي. وهي، بانعكاساتها على الشيعة العرب، تُظهرهم وكأنهم "طابور خامس" في مجتمعاتهم الوطنية. هذا بمعزل من حقيقة اختياراتهم، أو اختيارات سوادهم الأعظم. ولنا عودة الى هذه النقطة الأخيرة.
[ ثانية الوقائع أن لـ"حزب الله ـ لبنان"، ذي الارتباط العضوي بمرجعية السلطة في إيران على قاعدة "ولاية الفقيه العامة"، دوراً نشطاً في تأجيج تلك المسألة ـ المشكلة، وهو دور قد تعدى بيئته اللبنانية الى أقطار عربية أخرى، من العراق الى فلسطين والأردن، الى بعض دول الخليج، وصولاً الى مصر والمغرب. علماً أن هذا الدور لا يعفي أطرافاً مناوئة للنفود الإيراني من مسؤولية المساهمة في عملية التأجيج تلك.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وحزب الله لتظهّر المشكلة بصورة دراماتيكية تبدو حتى الآن عصيّة على الاحتواء، ولتجعل الحزب وجمهوره في وضع شديد الحرج، إذا شئنا عدم المكابرة. فذريعة مساندة "حماس" في غزة، عبر الحدود المصرية ومن دون إذن سلطاتها، لم تقنع إلا صاحب الذريعة وأنصاره الأقربين. أما القول بأن الرد المصري الشديد على حزب الله لم ينل من معنويات هذا الأخير ومكانته في المنطقة العربية فهو قول ـ إن صحّ ـ لا ينفي أن ما حصل قد "نال فعلاً" من مصالح الشيعة اللبنانيين العاملين في البلدان العربية. وإذا كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تلك الازمة "قد وضع المنظمة الدولية في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة" ـ بحسب تصريح السيد نصرالله ـ أفلا يمكن القول من زاوية نظر أخرى بأن مداخلات حزب الله غير العابئة بالقانون الدولي "قد تضع الشيعة اللبنانيين في مواجهة الشرعية الدولية"؟! أخيراً وليس آخراً، فإن تصريح السيد نصرالله بأن مقاومته "قادرة على أن تحكم بلداً أكبر من لبنان بمائة مرة" إنما كان تصريحاً يفتقر الى الرويّة والدراية. وإذا أردنا أن نُحسن الظن فيه نقول إنه كان "فلتة" نسأل الله أن يقينا شرّها. فقد أجاب وزير الخارجية المصري على الفور ـ بعدما فهم الرسالة ـ بأن مصر أقوى وأعزّ من أن يؤثّر فيها مائة حزب من وزن "حزب الله"!
[ الواقعة الثالثة أن حزب الله، بدعوته ونشاطه العابرين للوطنية اللبنانية، وبالوسائل المادية الاستثنائية المتوفرة له من المصدر الإيراني ذاته، بالإضافة الى تضحياته المعروفة في مجال المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وفق استراتيجيته الخاصة وعقيدته الأكثر خصوصية.. هذا الحزب قد حقق لنفسه في العقد الأخير حضوراً طاغياً داخل الجماعة الشيعية اللبنانية، فبدا مختصراً هذه الجماعة بذاته، محتكراً النطق باسمها في المواقف المفصلية. ولقد كان لهذا الحضور الطاغي أن حجب، أو طمس، الخيارات التاريخية للجماعة على الصعيدين الوطني اللبناني والفقهي الشيعي، ما أثار شبهة التزاحم بين الولاء الوطني للشيعة اللبنانيين وبين وفائهم لرابطة التشيّع العامة، كما أظهرهم في عين اللبنانيين الآخرين عقبة أمام الاستقرار وعبئاً على "الصيغة" (نعتقد بقوة، لا بل نعرف، أن موقف العماد ميشال عون، غير المتحفظ حالياً عن توجهات حزب الله، لا يعبّر عن اطمئنان مسيحي فعلي لتلك التوجهات، وهو في تقديرنا موقف عابر، يصدر عن انتهازية وكيدية مكشوفتين، على قاعدة "ليس حباً بمعاوية بل كراهيةً بعليّ".. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا الى تبيان الخشية السنية والدرزية من تلك التوجهات).
تلك الوقائع الثلاث باتت تشكل عبئاً مستجداً على الجماعات الشيعية في بيئاتها الوطنية العربية، بعدما كانت هذه الجماعات قد سعت، بشق النفس وعلى مدى قرن كامل، الى تجاوز مفاعيل الحقبة العثمانية بمحمولها التمييزي المذهبي. قد لا يكون ذاك التجاوز تاماً وناجزاً، ولكنه كان مُرضياً وقابلاً للتطور في الاتجاه السليم، بفضل مفاعيل الحداثة التي رفعت الكثير من مظالم القرون الخالية، وبفضل الخيارات العاقلة للشيعة العرب في دولهم الوطنية التي نشأت على أنقاض الحقبة العثمانية والكولونياليات الغربية.
[ 2 ـ الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين
لا جدال في أن الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين على الصعيد الوطني إنما كان الاندراج فالاندماج في الكيان السياسي اللبناني وعقيدته الوطنية، منذ تأسيس الكيان 1920 ثم الاستقلال 1943. وبهذا المعنى اعتُبرت الجماعة الشيعية، في نظر مؤرخي الحالة اللبنانية، "طائفة كيانية". هذا الخيار لم يكن ليتنافى مع سعيهم الدائم لتحسين شروط اندماجهم في الدولة، أي تحديداً لرفع الغبن السياسي والإداري والتنموي الذي كان قد لحق بهم ابتداء (جوهر حركة الإمام موسى الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى). علماً أن ذاك السعي قد نأى بنفسه دائماً عن السير في أي مشروع سياسي خاص، واستطراداً عن الارتباط بأي خارج إقليمي أو دولي.
لا جدال في ما تقدم، بوجه عام. نعم كان هنالك شيء من القلق صاحب اندماجهم في الكيان اللبناني لفترة نراها وجيزة ـ وقد يراها آخرون طويلة ـ نتيجة واقع الغبن من جهة، وانشداد كثرة منهم، من جهة ثانية، الى "تمامية عروبية" ظلت حتى عهد قريب تعتبر الكيانيات القطرية، الناجمة عن تقسيمات سايكس ـ بيكو، نشوزاً ينبغي "تصحيحه". بيد أن ذلك القلق تبدّد تدريجاً بفعل عوامل ثلاثة:
أ ـ التزام البيوت السياسية الشيعية التقليدية الفكرة اللبنانية على مدى عقود من تعاطيها السياسة (الأسعدية، الحمادية، العسيرانية، الخليلية، الزينية، البزّية، البيضونية، الفوّازية، التامِرية.. إلخ ـ الى بعض البيوت الدينية التي تعاطت السياسة). هذا بمعزل من تقييمنا لأداء تلك "الشيعية السياسية" على المستويات الأخرى، من اجتماعية وديموقراطية وما الى ذلك مما يدخل في نطاق "الحداثة".
ب ـ إحراز الجماعة الشيعية اللبنانية ترقياً ملحوظاً على الصعد الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والتنموية، بفضل مجهودات ذاتية بالدرجة الأولى، وبحكم صيرورة التطور العام، من دون أن نهمل تقديمات الدولة تحت مسمّى "مجلس الجنوب"، ولا إشباع إداراتها بالموظفين الشيعة في العقدين الأخيرين، ومن دون أن نهمل ـ قبل ذلك ـ ثمرات الحقبة الشهابية على صعيدي التنمية الشاملة وتحديث مؤسسات الدولة. كل ذلك، الى ما سيأتي في الفقرة التالية، جعل مقولة "الحرمان الشيعي"، المعوّقة للاندماج الوطني، غير ذات موضوع Caduc (الملاحظ أن حزب الله يجتهد بصورة منهجية لإحلال "أسطورة المقاومة" مكان "أسطورة الحرمان"، كرافعة للحراك الشيعي السياسي ـ الاجتماعي. في المقابل بدت حركة "أمل" الشيعية مجرّدة من "أسطورتها" الأثيرة!).
ج ـ اتفاق الطائف الذي منح المسلمين اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، توازناً جديداً في السلطة، أكثر إنصافاً من ذي قبل، لقاء إقرارهم بنهائية الوطن اللبناني وباعتبار المسيحيين "نصف لبنان" في العقد الوطني ومترتباته الدولتيّة، بقطع النظر عن متغيرات الديموغرافيا. هذا الى محافظته على رمزية رأس الدولة، بصفته المسيحية المارونية.
وفي ذلك السياق التاريخي الاندماجي، كان هنالك دورٌ مشهود للمطالعات الفقهية والسياسية الشجاعة التي قدمها أعلامٌ من أئمة الشيعة اللبنانيين وقادة الرأي فيهم، لا سيما الأئمة محمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وقد أوصى هذا الأخير أبناءه وإخوانه الشيعة العرب "أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وفي أوطانهم (...) وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، مقدماً تجربة الاندماج الشيعي في الوطن اللبناني، خصوصاً بما آلت إليه مع اتفاق الطائف، باعتبارها "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" (الوصايا، ص 27 و31).
إن هذا الموقف/ الخيار، معطوفاً على توجيهات المراجع الشيعية العليا ما بين النجف وجبل عامل على مدى عقود، لا سيما رفضهم القول بـ"ولاية الفقيه العامة"، يؤكد من دون لبس أن مشروع الشيعة في أي بلد تعددي ينبغي أن يكون مشروع الدولة الوطنية ذاته في هذا البلد، بتعاقد مع سائر مكونات المجتمع ومن دون استقواء بالخارج. وعليه فإن الشيعة العرب، بمن فيهم الشيعة اللبنانيون، ينبغي أن يلتزموا نظامين للمصلحة غير متناقضين: نظام المصلحة الوطنية المؤسس على العقد الوطني، ونظام المصلحة العربية المتحصل من العمل العربي المشترك، في سياق التكامل الحر والديموقراطي، بعيداً عن أي نزعة وصائية أو إسقاطات ايديولوجية... ومن نافل القول أن التزامهم المصلحة العربية انما يمر، حتماً، بالشرعيات الدستورية في دولهم الوطنية (مع التشديد على هذا المعنى الأخير).
[ 3 ـ تأثير الخيار الفقهي على مسألة الاندماج الوطني
لدى سماعنا عبارة "ولاية الفقيه" يذهب تفكير الغالبية العظمى من السامعين الى إيران الخمينية على وجه الحصر، لكأن سائر الشيعة في العالم لا يأخذون بهذه النظرية. والحال أنه لا خلاف بين الشيعة الإمامية، ولا حتى بين أهل السنة والجماعة، على "ولاية" الفقيه، من حيث المبدأ ("العلماء ورثة الأنبياء")، بل الخلاف كل الخلاف هو على "حدود" هذه الولاية: بين أن تكون "ولاية عامة"، وهي ما يقول به الإمام الخميني ومقلّدوه في العالم ـ وبين أن تكون "ولاية خاصة" محدودة النطاق، وهي ما يقول به سائر الشيعة الإمامية منذ نحو ألف عام، من مقلدي المراجع الشيعية في النجف وجبل عامل، وحتى غالبية الشيعة في إيران نفسها ما قبل استتباب الأمر للجمهورية الإسلامية بقيادتها الخمينية (ثمة معارضة متنامية لفكرة "الولاية العامة" في إيران اليوم).
بين "عامة" و"خاصة" ثمة فارق جوهري هو كل المسألة في موضوعنا (الاندماج الوطني)، كما سنحاول أن نبين باختصار وتبسيط لا يخلاّن بالمصطلح.
[ بحسب نظرية "ولاية الفقيه العامة" فإن الولي الفقيه هو "نائب الإمام الغائب ـ نائب المهدي المنتظر"، وهو يتمتع بصلاحيات هذا الأخير في الولاية على دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية على صعيد نظام الدولة.
هذه النظرية، كما بسطها الإمام الخميني، تدعو الى إقامة حكومة إسلامية في "عصر الغيبة" تمهد لقيام دولة المهدي المنتظر في "عصر الظهور" الذي بات وشيكاً وتوترات "علاماته". وبحسب هذه الأطروحة فإن الفقيه الذي ينجح في إقامة الحكومة الإسلامية في بلد ما، وفقاً لمعايير السلطة الإمامية، كما حصل في إيران منذ 1979، يكون ولي أمر المسلمين ونائب الإمام. وبالتالي ينبغي على سائر مراجع التقليد الشيعة في العالم أن يوالوه سياسياً، تحقيقاً لمصلحة المشروع المهدوي.
[ أما بحسب "ولاية الفقيه الخاصة" فإن سلطة الولي الفقيه ليس من شأنها أن تطاول دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية (فهذه كلها من صلاحيات المعصوم وحده، أو المأذون من قبله.. ولا مأذون من قبل المعصوم الغائب)، بل تبقى محصورة في أمور محددة، من قبيل الزواج والطلاق والإرث والأوقاف والمعاملات الجارية، وعلى من لا ولي له، وما الى ذلك مما يدخل في باب "المسائل الحسبية" و"الأحوال الشخصية".
فإذا نجح فقيه في إقامة حكومة إسلامية في بلد ما، فإن سلطته لا تتجاوز حدود ذلك البلد، كما أن سلطته هذه إنما تستمد شرعيتها من رضى المحكومين لا من أصل تشريعي ديني. وعليه فإن العمل بولاية الفقيه العامة من شأنه ـ بحسب هذا الرأي ـ أن "يستجر مفاسد عظيمة"، فضلاً عن كونه لا يملك سنداً فقهياً معتبراً، بل يقوم على مسوّغات سياسية ـ سلطوية لا غير.
غايتنا من المقارنة السريعة أعلاه هي القول بأن التقليد الفقهي الذي درج عليه الشيعة اللبنانيون منذ مئات السنين، أي "ولاية الفقيه الخاصة"، قد شجع اندماجهم في الدولة الوطنية اللبنانية، لأنه بكل بساطة لا يربطهم بأية مرجعية سياسية خارجية ولا يشكل قيداً على تعاقدهم مع سائر مكونات المجتمع. أما "الولاية العامة" التي يأخذ بها حزب الله، و"يحتجز" لها قسماً من الشيعة اللبنانيين، فتشكل عائقاً أمام اندماجهم الوطني، لأنها بكل بساطة أيضاً تربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية.
[ 4 ـ المقاومة.. من رافعة الى مشكلة!
كان يمكن للاختلاف المشار إليه في القسم III أن يبقى في حيز التعبير الديموقراطي، عن اجتهادين فقهيين وعن تعددية سياسية داخل الطائفة الشيعية، لولا أن حزب الله قد نشأ وبنى كل حيثيته على مشروع مقاومة مسلحة أتاحت له تضخماً وفائض قوة غير عاديين، في بلد قليل المساحة والسكان، شديد التنوع، مفتوح بتكوينه على المؤثرات الخارجية. وقد حصل التضخم وفائض القوة بفضل دعم ثابت على مدى عقدين حتى الآن من قبل دولتين إقليميتين هما إيران وسوريا. صحيح أن هذا الدعم الإقليمي وفّر للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل زخماً غير مسبوق في تاريخ المقاومات اللبنانية، ومنحها صورة باهرة، ولكنه "فخّخها" بخطر ومأزق.
خطورة هذا الدعم تأتت من أهدافه وتوظيفاته وفق خطة من أربع نقاط أساسية بينتها وقائع التجربة ومآلات الأمور:
1 ـ أن ينفرد حزب الله، رغم تكوينه الأحادي المذهب، بالمقاومة المسلحة، وهو ما حصل بعد العام 1990 بضغط سوري شديد. وقد اقتضى الأمر إلغاء المقاومات المسلحة الأخرى، وبالقوة أحياناً، لا سيما "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بحيث أصبحت المقاومة شيعية صافية، بمسمّى إسلامي لا يطابق واقعها الفعلي.
2 ـ أن تبقى هذه المقاومة مستقلة عن الدولة. وإذ تكفلت الوصاية السورية بإبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة وفاقدة القرار السيادي، فقد غدت مقاومة حزب الله أقوى من الدولة اللبنانية.
3 ـ أن تلبي استراتيجية هذه المقاومة متطلبات الدولتين الداعمتين (إيران وسوريا) أولاً. أي أن يأتي لبنان "أخيراً" في أجندتها.
4 ـ وفي ذلك السياق استطاع حزب الله أن يتصدّر تمثيل الشيعة اللبنانيين، وأن ينفرد بقرارهم في القضايا المصيرية، بعد استتباعه حركة "أمل".
ظاهرُ القوة و"الأمتياز" لصالح حزب الله في هذه المعادلة ينطوي على "مأزق شيعي": فاستقلال حزب الله عن الدولة، واحتجازه الطائفة الشيعية في مخيمه، وتصديه لمهمات إقليمية عظمى دون استشارة أحد في لبنان... كل ذلك وضع الشيعة اللبنانيين ويضعهم في دائرة مجازفة كبرى، من حيث تكليفهم أعباء بطولة استثنائية، غير ممكنة وغير مطلوبة أصلاً.
يمكن التعبير عن هذا المأزق نفسه بطريقة أخرى: لما كان حزب الله مصمماً على التمادي في مراكمة القوة الذاتية، ومصمماً على رفض الاندراج في الدولة، ولما كان أفق المقاومة المسلحة قد بات مسدوداً على الصعيد الاستراتيجي القريب والبعيد (بسبب ترتيبات القرار 1701، بالإضافة الى نُضج القرارين الدولي والعربي لإنجاز التسوية السلمية في المنطقة)، فإن "تصريف" قوة الحزب العسكرية لم يعد يجد من سبيل أمامه سوى الداخل اللبناني، إن باستخدام العنف المسلح لحماية خياراته (نموذج 7 أيار 2008)، أو بتوظيف تلك القوة، ضغطاً وتهويلاً، لفرض صيغة "المثالثة" بدلاً من "المناصفة". ولا ضرورة لأن يكون الفرض دستورياً، بل يكفي أن يطبّق عملياً وبحكم الأمر الواقع. ومن هنا تمسك حزب الله باتفاق الدوحة و"الثلث المعطل" كصيغة للحكم مستمرة بعد الانتخابات النيابية المقبلة. بذلك يستطيع قرار الحزب أن يشكل قيداً على الدولة والمجتمع معاً.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا المأزق، بحسب قراءتنا، هو الذي حوّل المقاومة من "رافعة" الى "مشكلة": مشكلة للدولة وللمجتمع وللشيعة ولحزب الله نفسه! والمنطق السليم يقول بأن الخروج من المأزق لا يكون بالهروب الى الأمام.
[ 5 ـ سبيل الخروج من المأزق
إن طبيعة الاجتماع اللبناني ومصلحة العيش المشترك ـ في ضوء التجربة التاريخية ودورها، لا سيما تجربة المقاومات المسلحة على أرض لبنان منذ العام 1969 حتى الآن ـ تحتمان أن تتولى الدولة اللبنانية وحدها، دون شريك في القيادة والقرار، مهمات الدفاع الوطني، وأن تقوم باحتكار القوة المسلحة لنفسها.
لا يستند هذا الرأي الى مسلّمات القانون الدستوري فحسب، بل يستند أيضاً الى خصوصية في الحالة اللبنانية نراها كما يلي: إن مقاومةً بالحد الأدنى، تقوم بها الدولة بوسائلها المتعددة، لهي أكثر جدوى وأماناً من مقاومة بالحد الأقصى تغرّد خارج الدولة.
هذا الأمر كان ينبغي أن يكون موضع تطبيق صارم منذ العام 1990 (عودة الدولة بموجب اتفاق الطائف)، فكيف بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والانسحاب السوري عام 2005، ومع وجود قناعة قوية بأن تحرير مزارع شبعا متيسّر بالوسائل السياسية والديبلوماسية، خصوصاً إذا ما تعاونت الحكومة السورية في موضوع ترسيم الحدود بين البلدين؟!
الى ذلك جاء القرار الدولي 1701، على أثر حرب تموز 2006 التدميرية، ليشكل، بما يتوفر لديه من وسائل فعّالة، الحل العملي الأمثل لمعالجة "ضعف" الدولة اللبنانية إزاء العدوانية الإسرائيلية من جهة و"الغلوّ المقاومتي" من جهة ثانية.
ما تقدم يحملنا على القول بأن القرار الدولي 1701، بمندرجاته كافة ومجتمعة، يشكل أساساً صلباً لاستراتيجية دفاعية ناجعة في الحالة اللبنانية، لا تعرّض الاجتماع اللبناني لمجازفات (على نحو ما يعرّضه اقتراح "تعميم المقاومة الشعبية المسلحة" أو استمرار المقاومة حكراً على حزب طائفي)، كما ويحملنا على دعوة حزب الله الى المبادرة لحل مؤسسة "المقاومة الإسلامية" وتقديم سلاحه، عن رضى، الى الدولة اللبنانية، على غرار ما فعلت سابقاً أحزاب المقاومات الأخرى في لبنان.
إن الربط الضمني أو المعلن بين حيثية الطائفة الشيعية في المتحد اللبناني وبين سلاح "مقاومتها"، فضلاً عن كونه ربطاً تعسفياً، لهو مغامرة طائشة تُفضي الى تعميم المغامرة ذاتها على سائر الطوائف اللبنانية والى إسقاط مشروع الدولة الواحدة. ففي مثل هذا المضمار، كما علمتنا التجارب، ما من طائفة لبنانية أقل "شطارة" من أخواتها.. ولو بعد حين!