الجمعة، 5 يونيو 2009

راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ

راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ

يُبْدِي المفكرُ الإسلامي راشد الغنوشي الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية التونسية يقينًا تامًّا بانتصارِ الحركة الإسلامية بدول المغرب العربي في معركة الهوية الإسلامية، بمواجهة حركة التغريب التي استهدفت شعوب تلك المنطقة. ويَلْفِتُ الغنوشي إلى أن تونس شهدت أعنف فصول تلك المعركة، في ظِلِّ استخدام نظام بورقيبة كافَّةَ أجهزة الدولةِ لِفَرْضِ نموذج تغريب فاشِيّ، ومع ذلك أثبتت الهوية الإسلامية أنها أَعْمَقُ وأرسخ قَدَمًا من تلك المشاريع.

وفيما يتعَلَّقُ بقيادته لحركة النهضة من منفاه الاختياري في لندن، يعتبر الغنوشي أنّ الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر ليست بأمر غريبٍ أو شاذٍّ، ولذا جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مَخْرَجًا.

كما قسم المفكر الإسلامي مواقفَ الحكومات المغاربية من الحركات الإسلامية لصنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِد في النظام استئصاليون، بخاصة في الجزائر والمغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع. أما الصنف الثاني، فهو نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرا بِمُؤَسِّسِه الرئيس بورقيبة، ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجودٌ متنفِّذٌ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، وليس له نفس التراث الذي له في تونس.

هذه التفاصيل وغيرها الكثير جاءت في ثنايا الحوار مع المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فإلى نص الحوار.

ـ في البدء يلفت نظرنا أن حركة النهضة الإسلامية في تونس انطلقت من منحى مقاومة العلمانية، ومحاولة إعادة إحياء لنهج الإسلام في تونس, لماذا بعد ذلك كانت هذه النقلة المغايرة إلى العمل السياسي؟! أم أن لهذه الانتقالية حتميةً تُقَرِّرُها ظروف الحال في البلاد العربية؟

* لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابًا وسُنَّةً وإجماعًا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كُلُّ واحدةٍ منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها، ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، كان الْمُرَجَّحُ أن تكون هموم التحرير هي الغالبةَ عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي، والعلمنة الطاغية على هُوُيَّةِ البلاد الإسلامية، فمن المنتظر أن يكون الهم الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية، ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهةً فكريةً عقديةً وتربويةً، وهو ما كان عليه الأمر في نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم؛ حيث تَبَدَّى المشروع البورقيبي على حقيقته، وأثمرت بذوره محاصيلها بعد عَقْدٍ ونصفٍ من "الاستقلال"، تم فيها استخدامُ أجهزة الدولة الحديثة شديدةِ التمركز، وزَخَمِ معركة التحرير، والزعامة التاريخية الطاغية، الاستخدامَ الْمُفْرِطَ في تفكيك الإسلام؛ عقائدَ وشعائِرَ وقِيمًا ومؤسساتٍ وحضارةً، باعتبارها عوائِقَ في طريق الاستراتيجية العليا للدولة، التي يُلَخِّصُها شعار بورقيبة الأثير: "اللَّحَاق بركب الأمم المتحضرة".

لقد وُلِدَتِ الحركة الإسلامية كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته، ووجوده، واستمراره، عَرَبِيًّا مُسْلِمًا، وامتدادًا للأمة العربية والإسلامية، وليس تابعًا صغيرًا لأمم الغرب. ولأن الطلب كان قويًّا على مقومات هذه الهوية، بسبب تفاقم الشعور بالخطر، فقد نشأت ونمتْ بسرعة ، فأعادتْ بِفَضْلِ الله الحياةَ للمساجد، وللمصاحفِ، وللشَّعَائِرِ، ولقِيَمِ الإسلام ، تُجَسِّرُ العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتد بها تِبَاعًا إلى كل مؤسسات المجتمع ومناشِطِه النَّقَابِيّة والثقافيّة والسياسيّة، انطلاقًا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل، الذي يدعو المؤمنين به إلى أن يعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفِكْرِهِم وجَوَارِحِهم، مُخْلِصِين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك.

ولذلك رغم أن الحركة نشأت حركةً دعويةً ثقافيةً، إلا أنها ما إن حققتْ قدرًا من النمو، حتى تنَبَّهَتْ دولة الاستبداد إليها، فاستدارت لها، ووجهتْ إليها مدافِعَهَا، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها، ممن رفض أن يكون معارضة مدجنة .

ليس في مثل هذا النوع من الأنظمة خيارٌ ولا منزلةٌ وُسْطَى بين الأمرين: التَّدْجِين، أو المواجهة، ولكِ أن تقولي المقاومة بتعبير أخينا الدكتور المرزوقي ، وليس المعارضة؛ لأن هذه مكانها في نظام ديمقراطي يَعْتَرِفُ بالتعدد، وتداوُلِ السلطة عبر صناديق الاقتراع.

أما حيث يسودُ الاستبدادُ فلا مكان للحديث عن مُعَارَضَةٍ، وإنما عن مقاومةٍ لمواجهة احتلال داخلي، هو أَشَدُّ نكالًا من الاحتلال الخارجي، بل هو نائب عنه.

إن الحديث عن مصالحةٍ مع هذا النوع من الاحتلال هو أقرب -إذا كان الداعون إليهِ مخلصين جادِّين وليسوا مخادعين- إلى التَّمَنِّي والافتراض.

ـ شهدتْ حركتكم انفصال بعض الشخصيات القيادة، وانتهاجها نهجًا آخر، منهم زياد كريشان، وصلاح الدين الجورشي، واحميدة النيفر, فما السبب وراء هذا الانفصال؟ وهل هناك جهاتٌ لها ضِلَعٌ في هذا الانفصال؟

* ربما كان ذلك نتيجةً من نتائج مرحلة التَّأَقْلُم مع البيئة التونسية- في نهاية السبعينيات- التي كان قد أخذ يَمُرُّ بها فِكْرُ الحركة، الوافدُ في معظمه من البيئات الشرقية.، وهو لم تتوفر له الرؤية الواضحة، والأدوات الكفيلة باستيعابه داخِلَ نفس الحركة، فحصل افتراق قبل أن تتضح الرؤيا، فلم تتحرَّر مواطن الاختلاف إلا لَاحِقًا، وانصبّت على الموقف من الشريعة، ما هو مُلْزِمٌ لِزَمَاننا وما هو غير ملزم؟

وهي عند التحقيق مسائِلُ لا يَنْبَنِي عليها في الواقع الراهن عَمَلٌ، ذلك أنّ مطالب الحركة السياسية في تونس- وربما في معظم بلاد الإسلام- على اختلاف مرجعياتها الأيدولوجية - تكاد تتمحور حول الحريات السياسية، أي على الهيكل العام للدولة؛ إذْ يلتقي الجميع حول النضال من أجل دولةٍ مَدَنِيَّةٍ ديمقراطية، مهما اختلفَتْ مرجِعِيَّتُها، وذلك في مقابل دولة الاستبداد القائمةِ، بصرف النظر عن مرجعيتها علمانيةً كانتْ أم دينيةً، وبصرف النظر عن نوعية القوانين التي ستَرْتَضِيها المؤسسات الديمقراطية المنتخبةُ عند قيامها، إذ لا وَصَايَةَ لأحدٍ على الشعوب، ولا مَصْدَرَ للإلزام غير ما تلتزم به.

وفي المحصلة، فإن ذلك الاختلاف، وإن تَأَثَّرَ بمرحلة طفولة الحركة من حيث قلة النضج، فقد أسهم في كَسْرِ الجمود، والرأي الواحد، وفي تأهيل الحركة للتفاعل مع بيئتها، وتجاوُزِ مرحلة التتلمُذِ، والتقليد الأعمى للبضاعة المشرقية الوافدة، بما هَيَّأَ لإنتاج ما يُمْكِن أن يُنْعَتَ بخصوصيات تونسية ضِمْنَ المدرسة الإسلامية الوَسَطِيَّة. فليس فيما حدث ما يُمْكِنُ أن يُشْتَمَّ منه رائحةٌ لتآمُرٍ ومكايدة.

ـ رغم التطور الحاصل في العالم إزاء الحريات الشخصية، لا زالت تونس تخضع للقانون الصادر عام 1981، والذي يحظر على المرأة التونسية ارتداء الحجاب في الجامعات، والمدارس، والدوائر الحكومية، بل يَحْظُرُ على التونسية أنْ تضع صورتها وهي مُحَجَّبَةٌ في وثيقة رسمية, هل من أمل في تغيير هذا القانون، أو التخفيف منه بعض الشيء؟

* مسألة حظر الخمار؛ أي غطاء الرأس على المرأة التونسية، فضيحة بجلاجل -كما يقال-، لنظامٍ يتبجح بتجربة تحديثٍ رائدة. فضيحة تكشف عن الطبيعة الجوهرية العميقة لشخصية بورقيبة، ولمدرسته، ودولته :الاستبداد، والغرور، والاحتقار للشعب، والنُّزُوع العارم للتحكم، والاستخدام الْمُنْفَلِت لأدوات الدولة، وللظهير الخارجي في فَرْضِ نموذج التغرب الفاشي، وليس التَغَرُّب الليبرالي الديمقراطي.

ولا عجب؛ فبورقيبة ينتمي لجيلٍ كان شديدَ التَّأَثُّر بالنماذج الفاشية والاشتراكية، التي كانت شديدةَ الإيمان بالقدرات التنموية الخارقة للدولة عبر الحزب الواحد، والزعيم الملهم، باعتبارها الطريقَ الأسرع للتحديث، بمعنى محاكاة النموذج الغربي، وبالخصوص في علاقته بالدين، ونموذَجُهُ الثورة الفرنسية .

والأمر كما يذكر ابن خلدون؛ أن المغلوب يميل إلى تقليد غالبه، في زِيِّهِ ونِحْلَتِهِ فيما يظن أنه سببُ قُوَّتِه؛ فهو تقليدٌ شكْلِيٌّ للغالِبِ، ومنه تَحَلُّلُهُ من الدين، فكانت هجمة دولة الاستقلال في عهد مُؤَسِّسِها، كعهد خلفائه على الإسلام، دينًا وحضارةً ومؤسساتٍ، ومن ذلك استهداف الحجاب باعتباره تَحَدِّيًا شكليًّا صارخًا لتحديثهم الشكلي مناطِ اعتزازهم، وكأنّ المرأةَ الماليزيةَ الحريصةَ جِدًّا على الحجاب أَقَلُّ حداثةً من التونسية، بينما لا وَجْهَ للمقارنة بين أصالة ونجاح الأولى، بالقياس إلى الأخرى، في حين أنهما انطلقتا في نفس الفترة.

ومن قِصَرِ نَظَرِ وغرور القائمين على هذا المشروع الأوتوقراطي، رِهَانُهُم على استبدال هُوُيَّةِ شعب تونس الإسلامية العربية، بِهُوُيَّةِ هَجِينة، لا هي غَرْبِيَّة بحق، ولا هي مَحَلِّيّة، وكأن الهُوُيَّاتِ عُلَبٌ يتم تصنيعها، مع أنّ كل التجارب الحديثة تشهد أنّ هُوُيَّاتِ الشعوب أَعْمَقُ وأرْسَخُ من أن تقتلعها الدول مهما عَتَتْ.

وعَوْدَةُ الشباب أفواجًا إلى بيوت الله بعد حرب ضروس على ظواهر التدين، وكذا العودةُ الكثيفة إلى الحجاب، رغم المقاومة الشرسة من أجهزة الحكم، شاهِدَةٌ على إفلاس مشروعهم للتحديث الفَجِّ، وعلى أصالة الإسلام، وعُمْقِ كسب الحركة الإسلامية، وأنهم مهما استمروا في العناد والغرور والاستبداد، فسيهزمهم الإسلام، وسَيَهْزِمُهُم الحجاب، فلم الإمعانُ في الطريق المسدود؟

ـ كيف تُقَيِّمُون تجربة الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي، وبالتحديد في بلدكم تونس، وكيف تُقَيِّمُون تجربتكم في حركة النهضة الإسلامية، خاصةً بعد مرور أكثرَ من ثلاثين سنةً على انطلاقها؟

* ليس من اليسير في هذا الحيزِ المحدودِ تقييمُ مسيرةِ حوالي أربعة عقودٍ من الكدح الإسلامي في المنطقة المغارِبِيَّة عامةً، وفي تونس خاصة. وبنوعٍ من الإجمال والتَّجَوُّز يمكن أن نُسَجِّلَ بيقينٍ انتصارَ معركة الهُوُيَّةِ الإسلامية العربية في جملةِ هذه الأقطار الثغورِ، المحاطةِ بأمم غربية كبرى ذاتِ أطماع في هذه المنطقة، وحاولتْ أكثرَ من مرة استلحَاقَهَا وابتلاعها.

وقد نجحتْ حركة التغريبِ أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحَصْرِهِ في العالم القديم، بينما قطع العالم الحديث، من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال، شَوْطًا بعيدًا من "التفرنس"، واستكْمَلَ عهدُ الاستقلال في كُلٍّ من المغرب وتونس "فَرْنَسَتَها"، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات، وشطرًا من السبعينيات، يُقَدَّمُ باللغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات، وبدخول الاتجاه الإسلامي القوي، نجح في فرض العربِيَّةِ لغةً للخطاب الطلابي، وتمكَّنَتِ الحركة الإسلامية من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة؛ ليكون الموقف منه هو موضوعَ الحوار الرئيسِ، بينما ظل الحوار حتى نهايةِ السبعينيات دائرًا داخل المعسكر العلماني بين يساريين وليبراليين، ثم تَمَخَّض صراعٌ داخل المعسكر اليساري.

ومنذ الثمانينات عاد الإسلام بقوة، واستمرت عودته تتأكد في قَلْبِ ساحات الحداثة ومعارِكِهَا: الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية.

لقد استُهْدِفَ الإسلام بدرجات مختلفة في هذه المنطقة، وبلغ الاستهداف حَدَّ الاستئصال، ولكننا نقول بكل يقينٍ اليَوْمَ أنّ الإسلام قد كسب معركة الهوية، حتى عاد نظامٌ علمانِيٌّ شَرِسٌ -كالذي يحكم تونس- ينافس على الشَّرْعِيَّةِ الدينيةِ، ساعيًا للحصول على أسهم من الرصيد الإسلامي عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية.

ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمةً بين دعاة التعريب، وحماة التفرنس، على امتداد المنطقة المغاربية عدا ليبيا. لا تكاد تُحْرِزُ تَقَدُّمًا خطوةً، حتى يتِمَّ التراجع عنها.

وبعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدةَ الموقف، حتى في التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين في التشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تَحَقَّقَ. ولعلهم يحتجون بأن التراجع في غياب مشاركتهم سيكون أفدح، ربما.

وفي المستوى السياسي، وهو الحاكم على ما دونه، ظلت المعركة محتدمةً بين التيار الإسلامي، وتيارات التغريب والدكتاتورية، وتأخذ أشكالًا مختلفةً، أشدُّهَا ما يحدث في تونس؛ حيث طبقت سياسةً استئصاليةً على التيار الإسلامي، وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام، حتى تحولت الصلاة لسنوات طويلة إلى علامة تصنيف سياسي، وحُظِرَ الحجاب، ولا يزال، وصُودِرَتِ الكتابات الإسلامية حتى التراثية، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989، التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج، ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.

ولا يزال الوضع التونسي محكومًا بنتائج تلك الانتخابات التي رَجَّتِ النظام بقوة، وهو يتَلَمَّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شَطْبِ النتائج، والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرّر تصفية هذا الخصم الْمُتَعَذَّرِ استيعابُهُ ضمن الأوعية الضيقة المعدّة.

وظلت تلك الصدمة تُمَثِّل كابوسًا مُتَحَكِّمًا في جملة سياسات السلطة؛ لتتحولَ عداوَتُهَا للتيار الإسلامي إلى عقيدة أساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لِتُرَسِّخَ أقدامها على هذا الطريق، بدءًا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر، وصولًا إلى 11سبتمبر، مرورًا بكل أحداث الإرهاب.

أما الجزائر، فهي الأخرى لا تزال محكومةً بكوابيس انتخابات 1992، التي انقلب عليها العسكر، زاجِّين البلاد في أتُّونٍ من الفتن، في مناخات اجتماعية تمور بالغضب، تتحرك على أرضية ثقافية مُشَبَّعَةٍ بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا الجبليَّةُ الشامخة، وأمدّتها بالحماية.

لقد مَرَّ أَزْيَدُ من عَقْدٍ ونِصْفٍ على ذلك الانقلاب المشئوم، تعرَّضَتْ فيها الجزائر إلى كوارِثَ عُظْمَى، بذريعة حِمَايَتِها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكِّمُ في عسكرها المنقلبِ على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.

أما المغرب، فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تَهُزّه، ولم تَسْتَخِفَّه ، وذلك راجعٌ بعد توفيق الله إلى ما تتمتع به الدولة هناك من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدرٍ كبيرٍ من الاعتراف المتبادل، بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتَّعُ بِقَدْرٍ من الديمقراطية، تستوعِبُ معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها، بما فيها المكونات الإسلامية، عدا جماعة العدل والإحسان، وفصيل البديل الحضاري، ومجموعات يسارية راديكالية، وأخرى سلفية جهادية؛ حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايُشٌ قَلِقٌ، ولكِ أن تقولي "علاقة حذرة"، تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أنّ سيف الدولة مسلولٌ على الجماعات السلفية المنتهجةِ سبيلَ العنف.

ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقعًا وسَطًا أحَلَّهُ في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي مشكلَ التفاوت بين طبقة الحكم المحظوظة، المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي.

ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات ، فبعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي، بعضها إخواني، وبعضها تنتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم، وإعادتهم إلى وظائفهم، وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم؛ حيث الحوار جار معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم .

ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء، بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة"، ولا يزال جاريًا في اتجاه تسويةٍ تُنْهِي العمل العنيف، وتُحَرِّرُ بقية المساجين ليبحثوا، مثل غيرهم من المواطنين، عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي، في اتجاه إرساء وَضْعٍ دستوري عادي؛ حيث تَسْهَرُ مجموعةٌ من الخبراء، منهم بعض رجال الحركة الإسلامية، مثل الشيخ علي الصلابي، على إعدادِ وثيقةٍ دستوريةٍ لليبيا الغد . ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجَذْبِ.

يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي:

أنه يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين:

أ- صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِدَ في النظام استئصاليون، وبخاصة في الجزائر وفي المغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي، لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام ، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية -وإن يَكُ له وجه ثقافي- صراعًا بين الإسلام والعلمانية، ولكنه ليس وجهه الأبرز، فوجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تُمَثِّلُه غالبية دول المغرب العربي، من موريتانيا إلى ليبيا .

ب- الصنف الثاني: نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرًا بمؤسسه الرئيس بورقيبة، الذي انتزع قيادةَ الحركة الوطنية، بجهدٍ منه، وبعونٍ من المحتل، استبعادًا لبدائل أسوأ، فأسّس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شَدِيدَ الإعجاب بنموذج أتاتورك، وأُضِيفَ كُلُّ ذلك إلى عُقَدِهِ الشخصية وتَشَيْطُنه.

ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود مُتَنَفِّذٌ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، ولا له نفس التراث الذي له في تونس، باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته، وشن منذ انتصابه حملةً واسِعَةً على الإسلام؛ مؤسساتٍ وعقائِدَ وشرائِعَ وشعائِرَ، ما أورث قطاعًا واسعًا من النخبة التونسية أصوليةً علمانِيَّةً متطرفة ، حملت رسالة تهميش الإسلام، أو إعادةَ صياغته وَفْقَ النموذج الغربي.

ـ برأيكم، هل الحركات والأحزاب الإسلامية اليومَ مُؤَهَّلَةٌ للقيادة السياسية في بلدانها ؟

* رغم أن الحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب والمسلمين قد كسبت معركة الرأي العام كما أسلفتُ بالنسبة للمغرب العربي، بما يُؤَهِّلُها من هذا الجانب لِلْحُكْم، إلا أنّ الرأي العام- وإن كان العنصر الأهم لاكتساب الحق في السلطة في نظام ديمقراطي- فهو شَرْطٌ واجب غيرُ كافٍ كما يقال، إذ التحديات المطروحة، وخاصةً تحدي التجزئة، تقتضي مواجهتها بنجاح قيامِ حكوماتٍ ائتلافيةٍ، يتعاون فيها الجميع على هذه المواجهة، لا سيما وعالم النخبة تَشُقُّهُ تناقضاتٌ شديدةٌ، يقتضي التعامُلُ الناجِحُ معها الكثيرَ من الصَّبْرِ والتدرج والإيثار لا الاستئثار.

والنموذج السوداني ناطِقٌ بضرر التَّعَجُّل والانفراد والإقصاء. وما يعانيه النموذج الإيراني من حصارٍ دَوْلِيّ، ومكائد إقليمية، لا يُغْرِي حركةً إسلاميةً بالمسارعة إلى السلطة منفردةً، ولا الزهد فيها كذلك، وإنما السير إليها ضمن جبهات وائتلافات. والله أعلم.

ـ كيف تنظرون إلى تجاربِ بعضِ الأحزاب والحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي، وانخراطها في العملية السياسية، وأقصد بذلك تجربة حركة حماس في فلسطين، وتجربة الحزب الإسلامي العراقي في العراق، وحزب العدالة في تركيا، وهل هي تجارب ناجحة برأيكم ؟

* أوضح هذه التجارب وأنجحها حزبُ العدالة والتنمية، من حيثُ قُدْرَتُهُ على الجمع بين الواقع والمثال، الواقع المتمثل في إكراهات الواقع العلماني، وإكراهات العسكر، وإكراهات الاندراج ضمن التحالف الأطلسي الأروبي الصهيوني.. وبين المثال الإسلامي، ليس عبر رفع شعارات الإسلام، ولكن عبر المواقف والإنجاز؛ على الصعيد الاقتصادي- وهو التحدي الإسلامي بل الدولي الأول اليوم- والإنجاز على صعيد خدمة الفقراء، وعلى صعيد إرضاء المستثمرين. وكذلك الموقف من قضايا الأمة الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، والموقف الرافض لعبور الجيوش الأمريكية لغزو العراق.

إن العدالة والتنمية قد تَوَفَّقَ من خلال الإنجاز والموقف، أن يقوم بالتبشير بالمشروع الإسلامي والشهادة للإسلام، بما يفوق أبْلَغَ الخطباء، وأعظمَ العلماء.

أما حماس فهي قبل كل شيء حَرَكُة تَحَرُّرٍ وطني، في بلد تحت الاحتلال، ما كان واردًا فيه أصلًا الحديثُ عن صراعٍ على حكم؛ إذ الأصل أن يكون لنا وَطَنٌ، لنا فيه وعليه سيادةٌ لِنَحْكُمَه، وقد نتنازع على حكمه، بينما الذي حصل أنّ وَطَنًا مُحْتَلًّا قام أهله يدفعون عنهم المحتل، فلما اشتدتْ مقاومتهم حتى أرْهَقَتْه، وعَجِز عن إخماد مقاومتهم، لجأ إلى الحيلة والإغراء، فاستدرج الثائرين إلى دهاليز المفاوضات، ولا يزال بهم يضغط ويُغْرِي ويُمَنِّي ويَعِد، حتى نقلهم من ثُوَّارٍ إلى حُرَّاسٍ لِأَمْنِهِ!! يستمدون شرعيتهم من مدى قدرتهم على إجادة تلك الحراسة، وإحباطِ كُلِّ مَسْعًى مقاومٍ، فقام على تمويلِهِم وتسليحِهِم وتدريبِهِم للقيام على تلك المهمة، وفَعَلَوُها، بما فرض على فريق المقاومة الذي حَلَّ مَحَلَّ الفريق السابِقِ أنْ يَتَّجِه إلى مصادر النيران لإسكاتها، فاقتحم ساحَةَ الانتخاباتِ للحَوْلِ دون تلك السلطة الْمُسْتَعْمَلَةِ وما استُعْمِلَتْ له.

إن نجاح "سلطة" مثل هذه، إنما يقاس بمدى نهوض الوسيلة بالمقصد. وكل الضغوط الرهيبة التي سُلِّطَتْ على حماس، وعلى شعب فلسطين، للفصل بينهما، هدفتْ إلى الفصل بين المقاومة والسلطة، ومَنْعِ الأخيرة أن تكون في خدمة الأولى، عن طريق انتزاع السلطة من حماس.

إن ما حقَّقَتْهُ حماس خلال سنتين من صمودٍ أُسْطُورِيّ في وجه الحصار، والمحافظة على السلطة، وحق المقاومة في الآن ذاته، وفَّرَ للمقاومة لأول مرةٍ في تاريخها فُرْصَةً للتخطيط والتدريب، وتطوير وسائلها وهي آمنة من "السلطة"، من ظلم ذوي القربى!! إذِ السُّلْطَةُ والمقاومة في خدمة المقاومة، بل هي ذاتها.

إنّ ما سُمِّيَ الحَسْمَ، والمقصود به تَطْهِيرُ شِبْرٍ من أرض فلسطين غزة من حراس إسرائيل، وهذا الحسم هو الأب الحقيقي لصمود غزة الأسطوري، في وجه أعتى جيوش الأرض بَأْسًا وتَوَحُّشًا، وردَّهُ على أعقابه بعد أزْيَدَ من ثلاثة أسابيع من التدمير الرهيب، ولكنه فَشِلَ في أن يقتحم قلعة غزة.

حماس بهذا الاعتبار قد حقَّقَتْ، ليس مجرد نجاح، بل ما يشبه خوارق العادات؛ إذ صَمَدَتْ في كل المواجهات؛ مواجهة المساومة، والحصار، والاغتيال، والاختراق، والكيد، وأخيرًا الحرب الشاملة، وهي اليوم تَخُوضُ المعركة على الطاولة مع عتاولة السلطة، ومَنْ ورائِهم رومٌ، ومِنْ ورائهِمْ رومٌ- حَسَبَ تَعْبِيرِ الْمُتَنَبِّي- أعانهم الله بمددٍ منه وثبّتهم.

وإذا كان من نُصْحٍ لهم، فهو المزيد من التَّحَامُلِ على أنفسهم ومجاهدتِهَا؛ ليتصرفوا من مَوْقِع أُمِّ الولدِ حامِلِ المشروع الوطني، وليس مُمَثِّلًا لفصيل، فإذا جاز ذلك قبل غزة، فليس جائزًا بعدها.

أما عن السُّنَّة العرب فهم يتامى العراق. لقد تُرِكُوا لأنفسهم في معركةٍ يَخُوضُهَا أقطابٌ دولِيُّونَ وإقلِيمِيُّون كبار، ونُظِرَ إليهم على أنهم جزءٌ من زَمَنٍ وَلَّى، وعهد بائد، فكانوا يخوضون معركةَ بقاءٍ، وقد دارت عليهم الدوائر، فكان مفهومًا أنْ يضطَرِبَ موقفهم، يشاركون ثم يقاطعون، ثم يشاركون. إن دول الخليج ومصر يتحملون مسئوليةً عُظْمَى فيما آلت إليه أوضاع العراق، والسودان، والصومال، وفلسطين، وعموم أوضاع العرب.

ـ يرى بعض المحللين أن تواجُدَكُم في بلاد أجنبية حَصَرَ نشاط حركة النهضة، فما هو دوركم الآن كحركة معارضة للحكومة في تونس؟ وهل هناك بوادر لإصلاح وجهات النظر بينكم وبين الحكومة في تونس ؟

* ليست الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر بأمرٍ غريبٍ أو شاذٍّ، فقد هاجر الأنبياء والرسل، وهاجر زعماء الحركات الوطنية، ولذلك اعترف القانون الدولي بحقوقٍ للمهاجرين السياسيين ضمن اتفاقيات معروفة.

وهِجْرَتِي وآلافٍ من أخواني هجرةٌ إجبارية، ولم تَخْلُ المهاجر منذ "الاستقلال"من مهاجرين، كما لم تَخْلُ السجون من ضيوف، وتداولت تيارات المعارضة على السجون كما تداولت على المهاجر!

ولقد جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مخرجًا. والحقيقة أني غادرت البلد الحبيب بعد فترتين من السجن، (خمس سنوات ونصفا) وذلك إِثْرَ انتخابات 1989، التي فازتْ فيها النهضة فوزًا عظيمًا، فما كان من السلطة المتحكمة منذ 1956إلا أن أقدمت كعادتها على التزييف الواسِع للنتائج

ورغم اعترافها للقوائم المستقلة، التي كانت وراءها النهضة، بما يقرب من 20%، بما يجعلها زعيمةَ المعارضة، إلا أنها قررتْ إقصاءَهَا واستئصالها جُمْلَةً؛ حتى تخلو لها الساحة، مكتفيةً بمعارضة صوريةٍ ..وعلى إثر ذلك خرجت من البلاد، تلبيةً لجمعية طلابية فلسطينية بألمانيا لألقي محاضرة في مؤتمرها، ولم تكن حملة السلطة على الحركة قد بدأتْ، ولأن الجوَّ خانِقٌ في البلاد، وكان الحصار مَضْرُوبًا عليّ، فقد استجبت للدعوات الكثيرة في أرجاء العالم، التي أخذتْ تُوَجَّهُ لإلقاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات ، وخلال ذلك تصاعَدَ التوتُّرُ في البلاد، وبدأتْ حملات الاعتقال، فطلب إليّ الأخوة في الداخل الانتظارَ حتى تنْجَلِي الغمامة، إلا أن الأوضاع اتجهتْ إلى الأسوأ ضِمْنَ خطة استئصاليه شاملة تُشَنُّ على الحركة، فلم تَعُدْ عَوْدَتِي مُسْتَسَاغَة.

وهكذا طلبتُ اللجوءَ السياسِيَّ في بريطانيا منذ سنة1991، ولم يكن أمامي خِيَارٌ آخَرُ غير وضع نفسي طائعًا مختارًا تحت رحمة أعدائي، مما لم يأمر به دِينٌ ولا مصلحة.

ما المصلحة في أن أُضِيفَ سجيًنا إلى آلاف السجناء، فأخمد صوتي بنفسي، وهو ما يسعى في أثره الأعداء؟!

صحيح أني لست أزعم أني أُنْجِزُ في الْمَهْجَرِ شيئًا عظيمًا، ولكن ماذا عساي كنت سأُنْجِزُ في الداخل ضمن الأوضاع القائمة؛ حيث الخيار لأمثالي بين سجنٍ مُضَيَّقٍ، هو السجن المعروف الذي كان يضم عشرات الآلاف من إخواني في بداية المحنة، وهو يضم اليوم بضعة آلاف، منهم نفرٌ قليلٌ من جيل الصحوة الأولى، كالدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة، الذي يقضي سنته التاسعة عشرة وراء القضبان! وآلاف من شباب الصحوة الجديدة!

والخيار الآخر كان سجنًا مُوَسَّعًا أو متحركًا، شأن الآلاف من إخواني الذين أَتَمُّوا محكوميتهم، لكنْ استقبلتهم البطالة، والمحاصرة الأمنية، ومَنْعُ السفر إلى خارج البلاد وحتى داخلها إلا بإذن!

فالحصار لا يزال مضروبًا على الحركة، رغم حضورها في الساحة بِمُنَاضِلِيهَا الأفذاذ، كما أن الحصار مضروبٌ على التَّدَيُّن، والْمَنْعَ مُسَلَّطٌ على الحجاب، وذلك رغم الاتجاه العارمِ لشعب تونس وشبابِه وشابَّاتِهِ صَوْبَ التدين.

ما المصلحة في إضافة سجين آخر إلى السجن المضيق أو المتحرك؟!

صحيح أنني لا أقوم بشيء عظيم من خارج البلاد، ولكن المسافة بين " الداخل" و"الخارج" قد تقاصرت في هذا الزمن.

إن مساحة الإعلام العربي في لندن، المتوجّه إلى العالم العربي، يربو عمّا هو في أكثرَ من أي عاصمةٍ عربية، فأنْ تُخَاطِبِي تونس من لندن هو أَيْسَرُ َبكثيرٍ من مخاطبتها من داخلها، ولذلك نرى المعارضين، وحتى جماعة السلطة، يَبْحَثُون عن فُرَصٍ في الخارج لمخاطبة الداخل. ولْأَضْرِب مثلا، فإن معاركنا مع السلطة كُلَّهَا انطلقت من المساجد، وهي تُصِرُّ على أن المسجد مُلْكٌ لها، تُسَخِّرُه لدعاياتها، ونحن كنا نُصِرُّ على أن الله ملَّكه للأمة، فلا يحتاج مُؤْمِنٌ للاستئذان من أحد ليأمر بمعروف، أو يَنْهَى عن منكر.

وانتهى الأمر إلى اعتقالي وإخواني مراتٍ، كُلُّها من المساجد، بينما أنا اليوم لا أحتاج لاستئذان أحد؛ لألقي درسًا أو موعظةً في أي مسجد هنا، بل أكثر من ذلك أستطيع أن أنقل ذلك الدرس إلى ملايين من الناس عبر الإنترنت والفضائيات.

وعلى كل حال أنا لا أزال مُجَرَّدَ لاجئ في هذا البلد، لم أَتَوَطَّن، في انتظار أولِ فُرْصَةِ انفراجٍ؛ لأعود إلى موقعي الطبيعي بين أهلي وإخواني.وعساه يكون قريبًا.

أما عن السلطة، فرغم نداءاتنا ونداءاتِ غَيْرِنَا الموجهةِ إليها، دعوةً إلى الانفتاح والتَّصَالُحِ مع شعبها، معنا ومع غيرنا، إلا أنها لم تُلْقِ لذلك بالًا، بل أَوْغَلَتْ فيما أدمنتْ عليه من تعامُلٍ أَمْنِيٍّ مع كل الملفات، بما فيها ملفات المعارضة، ما أَفْضَى بالبلاد إلى حالةِ جمودٍ وانسدادٍ وتصاعُدٍ للاحتقان، بدأتْ طلائعه تتفَجَّر أحداثَ عُنْفٍ وهِزَّاتٍ اجتماعيةً وإضراباتٍ، بما يُرَجِّحُ أن التطور في البلاد ليس مُتَّجِهًا إلى مصالحةٍ وانفراجٍ، بِقَدْرِ ما هو مُتَّجِهٌ أكثرَ صَوْبَ الانفجارات الاجتماعية والعنيفة.

وربما يكون ذلك جزءًَا من الوضع العربي العامِّ الذي تتضاءَلُ الآمال في تَطَوُّرِهِ إلى الديمقراطية، عَبْرَ الوفاق مع الأنظمة القائمة. والمرجح أكثر هو التطور عبر انتفاضات الشوارع، والإضرابات، والاعتصامات، تقودها جبهاتٌ وطَنِيَّةٌ، قد نفض مؤسسوها أيديَهُم، وغسلوها يَأْسًا من إصلاح أنظمةٍ تَحَوَّلَتْ إلى أجهزة قَمْعٍ في حراسة مافيات.