جريدة الأنباء-بيروت- الثلاثاء 31 آب 2010
د. سعود المولى
التعليم هو عصب النهضة وماء حياتها. والمحنة التى يعيشها لبنان اليوم ناتجة فى قسم كبير منها عن إنهيار نظمه التعليمية والتربوية (بعد انهيار نظمه السياسية والمدنية) وما ترتب على ذلك من تراجع مذهل فى مستوى المعرفة والكفاءة لدى القطاعات الأوسع من المجتمع.
ويستحيل تحقيق النهضة دون خروج التعليم من محنته.. ومن ثم فإنه ينبغي أن يحتل التعليم لدينا أولوية قصوى وأن نؤمن بالحاجة إلى مراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته.
والحال أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين ليلة وضحاها، وهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الجديد من تجارب الدول الأخرى وتستفيد من الخبرات اللبنانية والعربية الكثيرة في هذا المجال.
وبادئ ذى بدء، التعليم حق لكل مواطن على أرض لبنان وهو هدف فى حد ذاته لا فقط مجرد وسيلة للتوظيف أو الترقي الاجتماعي أو الوفاء باحتياجات السوق. فإذا كان الإنسان اللبناني هو هدف أية نهضة يصبح العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية.
كما أن الاهتمام بتطوير التعليم يقع فى القلب من الرؤية الإقتصادية الوطنية. فإن الارتباط الوثيق بين النهضة الاقتصادية والتعليم انما يأتي من الدور المهم الذى يلعبه التعليم فى زرع قيم بعينها هي التى تجعل الشباب فاعلاً فى عملية التنمية بل وقادراً على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق. وتطوير التعليم لايقتصر على الإهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني والمعدات وإنما يتضمن (وهو الأهم) خلق جيل معتز بهويته وعلى وعي بقدرات بلاده ودورها وإماكاناتها ويمتلك من المهارات مايمكنه من المشاركة فى عملية التنمية.
ومن هذا المنطلق ولأن الأسس التى تقوم عليها المنظومة التعليمية والتربوية برمتها فى حاجة إلى مراجعة جذرية، نرى أن الأمر يحتاج إلى حشد إمكانات الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وطاقات المجتمع بكل فئاته وعناصره. بعبارة أخرى، فقد بلغت أزمة التعليم مبلغاً لا يمكن معه أن تتولى إصلاحه وزارة التربية وحدها دون تنسيق وتعاون وثيق مع كافة أجهزة الدولة الأخرى أو فى غياب الدعم الواسع من جانب قطاعات المجتمع المختلفة.
ومن هنا، فإن تلك العملية الشاملة من الإصلاح لايمكن أن تتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافها. لذلك فإن أية خطة مقترحة لتطوير التعليم لا بد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق فى إطار يتسم بالشفافية ويسعى لتعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التى يتلقاها من المجتمع ويقوم في الوقت ذاته بإعداد المجتمع لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه.
مبررهذا الكلام ما شهدناه من قرارات متسرعة صدرت عن وزارة التربية تتجاهل دروس من سبقوا وحاجات الناس الفعلية وتجارب الدول المختلفة.. فالترفيع الآلي لللأولاد حتى الصف الرابع إبتدائي حق مشروع اقتضته المدنية الحديثة وحثت عليه علوم النفس والتربية، وطبقته كل دول العالم قبلنا.. ولا علاقة له البتة بهبوط في مستوى التعليم إلا إن كانت الوزارة تظن أن واجب المدرسة حشو رأس الأولاد بالقوة والتعامل معهم وكأنهم شاحنات يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات التى يتم تفريغها على أوراق الامتحان فى نهايته (بغض النظر عن الحالات الخاصة كالإعاقة أو التأخر الدراسي والتي تستوجب صفوفاً خاصة)..ونفس الإعتراض ينطبق على جعل الدراسة تبدأ أول أيلول وعلى عملية دمج وإلغاء مدارس.. فهذه القرارات تصدر عن ذهنية لا تلحظ الوضع في الريف اللبناني الذي يختلف عن أوروبا وأميركا حيث الشتاء أطول من الصيف وحيث القرى أشبه بالمدن تتوفر فيها كل مقومات الراحة والحياة المستقرة.. فمن دون إقامة مجمعات مدرسية وتأمين النقليات لها وتوفير الرعاية الصحية والغذائية للأولاد فيها، وتوفير الماء والكهرباء والتدفئة، ووجود دورة إقتصادية إجتماعية ثقافية في الأرياف، تصبح قرارات الدمج وتقديم مواعيد الدراسة أشبه بفقاعات الصابون...إلا أنها للأسف فقاعات مؤذية..