المستقبل - الاربعاء 1 أيلول 2010 - العدد 3758 - ثقافة و فنون - صفحة 20
د. سعود المولى
نلاحظ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن الناس تؤمن إيماناً قوياً بقدرة العلم على تحسين شروط حياتها وعلى دفع مجتمعاتها باتجاه التطور والتقدم، من دون أن يكون لديها أي فهم أولي لطبيعة العمل العلمي، أو لمفاهيمه ومصطلحاته الأساسية، أو لنتائجه الاجتماعية، أو للأبعاد الاجتماعية-التربوية المؤسِسة أصلاً للمنهج العلمي وللبحث العلمي.. وبالمناسبة فإن هذا الوضع لا يقتصر علينا، بل هو يشمل الغربيين أيضاً.. ويكفي أن نذكر هنا ما ورد في كتاب ميشال دوبوا (علم اجتماع العلوم، ترجمة سعود المولى،المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2007) من أن 89 بالماية من الأميركيين يعجزون عن تعريف مصطلح "جزيئة"، وأن 52 بالماية منهم يجهلون كيف تدور الأرض حول الشمس، وأن 27 بالماية فقط يستطيعون تعريف التجربة العلمية "تعريفاً تقريبياً"... وليس الحال في أوروبا بأحسن! فما بالك في البلدان العربية والإسلامية؟
تكمن المشكلة برأيي في وجود هوة سحيقة ما بين مراكز البحث العلمي ونخبه من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة ثانية، وما بين مراكز البحث والدراسات من جهة، ومراكز صنع القرار السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي، من جهة ثانية..
ولعل فهم هذا الأمر يكون حجر الأساس لبداية البحث والاستقصاء حول السؤال الذي حيّر المفكرين ورجال الاصلاح منذ أكثر من قرن والذي نسميه عموماً بسؤال النهضة: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟" (بكلمات الأمير شكيب أرسلان).. يومها تراوحت الردود ما بين الدعوة إلى العودة إلى أصول الدين والشريعة، وما بين الفصل الكامل ما بين الدين والسياسة، والدين والاجتماع، تقليداً للغرب، وصولاً إلى المدرسة التوفيقية-التلفيقية التي قالت بالأخذ بأسباب القوة الغربية وأساسها العلم التجريبي والتقني البحت دون فلسفة وأخلاق الغرب (أسوة باليابان يومذاك)..
في دراسته الشهيرة:"العلم والتكنولوجيا والمجتمع في انكلترا القرن السابع عشر"-1938-طرح روبرت مرتون السؤال حول نهضة الغرب،إنما بشكل مختلف: "من أين أتت الثورة العلمية والتقنية التي عرفتها انكلترا في نهاية القرن السابع عشر؟".... إلا أنه لم يفعل كما فعلنا حين غرقنا في نقاشات وسجالات أيديولوجية، بل هو قام بتحليل سوسيولوجي للنخبة الثقافية الفكرية الانكليزية لتلك الحقبة، ولتطوّر مراكز اهتمامها ومصالحها،وللقيم الثقافية السائدة في المجتمع، وللعلاقات بين العلم والقطاعات الاقتصادية والعسكرية من جهة، وبين العلم والنمو السكاني من جهة أخرى.. وبعد الاستقصاء التاريخي-الاجتماعي المعمّق استخرج مرتون أطروحاته التي قالت بأن المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقل مؤسسي ما (الدين أو الاقتصاد على سبيل المثال) تترابط وتتكامل مع المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقول مؤسسية أخرى (حقل العلم على وجه الخصوص).. وبأن الخُلُق الديني الطهراني (البيوريتاني) السائد في انكلترا القرن السابع عشر، إذ يعطي معنىً دينياً للاستقصاء العلمي، فإنه يحفّز،على نحو جماعي، الاهتمام بالمنهج العقلاني الامبيريقي الذي يتطلبه البحث العلمي..أي أن الطهرانية لا تخلق العلم وإنما تساهم في زيادة وتيرته بصورة مذهلة، وبالنتيجة فإنها تسهّل مأسسته... وهذه النظرية تلتقي بالطبع مع نظرية ماكس فيبر الشهيرة حول "التآلف الاختياري" بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية..ونظرية الاقتصادي الألماني الشهير فرنر شومبارت (المجهولة تماماً للأسف) حول علاقة نشوء الرأسمالية باليهودية..
وما يهمنا في هذا المثال هو أولاً: إبراز المسعى البحثي الاستقصائي الذي قام به مرتون وفيبر لفهم إشكالية النهضة الغربية والعلاقة بين الدين والعلم والمجتمع..وثانياً: إبراز التراكم والتواصل المعرفي في بناء نظريات لفهم وتفسير الواقع.. ذلك إن مرتون يرى صراحة أن عمله هو امتداد لعمل ماكس فيبر، وأن هذا الأخير رغم أنه لم يدفع بأبحاثه عن العلاقات بين البروتستانتية والعلم إلى آخرها ،الا أنه ختم دراسته الكلاسيكية بالإشارة إلى أن إحدى المهمات المطلوبة للمستقبل تقتضي البحث عن معنى العقلية النسكية واللازمة لفهم تطور الامبيريقية الفلسفية والعلمية والتطور التقني..(مرتون:عناصر للنظرية وللمنهج السوسيولوجي-1957).
لقد استشعر علماء الاجتماع الغربيون مبكراً تبعات العلوم والاكتشافات والابتكارات والتطورات التقنية على المجتمع، والحاجة إلى ان يجعلوا من العلم موضوعاً للتفكر السوسيولوجي كامل الشرعية والمشروعية..
وجاءت مأسسة سوسيولوجيا العلوم وتشكيلها كحقل علمي مستقل ومميز في قلب الإطار العام لعلم الاجتماع متاخرة بوجه خاص، خصوصاً في فرنسا حيث صدر كتاب ميشال دوبوا في أواخر الألفية الثانية للميلاد.فمع أن المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع أدت تاريخياً دوراً رئيسياً في تطور علم الاجتماع في نهاية القرن التاسع عشر(أوغست كونت وإميل دوركهايم)،وأنها كانت في أساس الدراسات الأولى حول الأصل الاجتماعي لبعض المقولات العلمية(دوركهايم ومارسيل موس-1903)،الا أنها تأخرت كثيراً عن المدارس الغربية الاخرى(الأميركية والانكليزية والالمانية والروسية والبولونية) في بناء برامج بحث منظمة ومكرسة لدراسة تنظيم المختبرات العلمية أو للعوامل الاجتماعية المؤثرة في دينامية بعض الفروع العلمية، أو لدور المعايير والقواعد المهنية،الخ..وقد صح القول بأن سوسيولوجيا العلوم تجد جذورها في أبحاث روبرت مرتون حول البنية المعيارية للعلوم (1938)، كما في أبحاث بوخارين حول الوظائف الاجتماعية للعلوم(1931)، وأبحاث بوريس هسن حول الأصل الاجتماعي والاقتصادي لنظريات نيوتن(1931)..
تطور سوسيولوجيا العلوم
وأهمية كتاب ميشال دوبوا تكمن برأينا (بالإضافة إلى ما سبق) في أنه يقدم للقارئ، العادي والمتخصص على السواء، عرضاً شاملاً للجوانب الأكثر أهمية ودلالة في تطور سوسيولوجيا العلوم خلال القرن العشرين (والذي تأخرت فيه فرنسا حتى منتصف السبعينيات)..وهو يجعلنا نفهم كيف ساهمت سوسيولوجيا العلوم في إغناء معرفتنا بشروط اشتغال العلم، وبالأواليات الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة الابتكارات العلمية وفي تعميمها... وفي كيف أن العلم هو نشاط اجتماعي يستند إلى جملة معايير مخصوصة تؤسسه باعتباره نسقاً متفرعاً مستقلاً في صلب المجتمع.. وفي كل ذلك فائدة كبيرة لنا نحن الباحثين عن سر نهضة الغرب وتخلفنا بحيث يحفزنا على تنكب مسيرة البحث السوسيولوجي على خطى مرتون وكون وبوبر وغيرهم من أساطين فلسفة العلوم وسوسيولوجيتها الذين يعرض الكتاب لأعمالهم وأفكارهم ونظرياتهم وتجاربهم..
مسألة أخيرة أعتقد أنها تفيدنا في ربط أسباب النهضة العلمية بالظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية (ميزان القوى وأسباب القوة) نكتشفها في الكتاب حين يعرض نظرية برنال المأخوذة من كتابه "الوظيفة الاجتماعية للعلم،-1967"-حيث يلاحظ ذلك التصاحب (أو ما يسميه الصدفة الغريبة) في مجرى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهة، والعلمية والابتكارية من جهة أخرى:الحرب العالمية الاولى-الثورة الروسية-الأزمة الاقتصادية العالمية- صعود الفاشية، من ناحية، وتجديد النظريات الفيزيائية والرياضية والبيولوجية من ناحية ثانية..وما ندركه في آخر المطاف هو غياب شيء اسمه :"علم العلم" قادر على الكشف عن الأصل العميق لهذه الصدفة...
فرعان معرفيان
في تراثنا العربي الإسلامي فرعان معرفيان كان لهما شأن كبير في ردم الفجوة ما بين العلم والمجتمع، وما بين العلم والدين، عنيت بهما تاريخ العلوم وفلسفة العلوم.. وقد أخذهما الغرب عنا وقام بتطويرهما بعد انحطاط حضارتنا..وفي عرفنا وديننا أن العلم مشاع بين البشر(الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها..اطلب العلم ولو في الصين..الخ..) وأن علينا أن نأخذ من الناس أحسن القول، فنتبعه..وأحسن القول عند الغرب اليوم يتمثل في الديمقراطية التي كانت في أساس تطور البحث العلمي الجاد ..وهذا ما يتوصل اليه الكتاب الذي بين أيدينا بعد أن يستعرض كل اتجاهات المعرفة السوسيولوجية الغربية للقرن العشرين ليصل إلى إبداعات توماس كوُن وكارل بوبر..والخلاصة إننا نحتاج إلى دراسة ومعرفة علم اجتماع العلوم كما نشأ وتطور في الغرب وأن نصل ماضينا بحاضرنا وبروئ لمستقبلنا بما يسمح لنا بإعادة إنتاج نظريات للمعرفة وفلسفة للعلوم وسوسيولوجيا عربية للمعرفة والعلم....ويكفي أن يكون في كل ما سبق مبررات لترجمة هذا الكتاب وتقديمه إلى العرب في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى استماع أحسن القول واتباعه...