الاثنين، 25 أكتوبر 2010

شيخ الأزهـر يجـيب عـلى أسئلة آتية مـن بلد الفتنتين لبنان

أجرى الحوار في القاهرة جهاد الزين- النهار- الجمعة 15 تشرين الأول 2010.
استقبل شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يوم الاحد المنصرم الزميل جهاد الزين في مكتبه في مشيخة الأزهر في القاهرة. هنا النص الكامل لأجوبة الدكتور الطيب على أسئلة الزين. مع الاشارة الى انها المقابلة الاولى لشيخ الأزهر الجديد مع الصحافة اللبنانية.
• سأبدأ فضيلة الإمام من النقطة التي لفتت انتباهي في عدد من المقابلات التي جرت معك في "قناة دريم" و"الاهرام" و"الشرق الاوسط"، وأسعدني جداً فيها تركيزك على مستوى التعليم في "الأزهر". وأنت عبر هذا الموضوع لمست مباشرة قضية خطيرة تتجاوز المستوى التعليمي في العلوم الدينية في "الأزهر" والحواضر الدينية الاخرى. أنت يا صاحب الفضيلة تطرح مسألة تردي مستوى التعليم في الجامعات العربية الرسمية أو الوطنية كلها. فأين أصبحت مستويات التعليم في جامعة القاهرة التي كان رائدها أحمد لطفي السيد أو الجامعة السورية التي ترأسها الدكتور قسطنطين زريق والجامعة اللبنانية التي أطلقها الدكتور فؤاد أفرام البستاني والدكتور أحمد مكي والدكتور حسن مشرفيه وقلة غيرهم من الرواد؟ ألا تعتقد، وأنا أعتذر عن الإطالة في السؤال، انك عملياً تطرح الموضوع نفسه: تردي مستويات التعليم العربية في الجامعات الوطنية؟
- أولاً نرحب بسيادتك وسعدنا وشرفنا بسيادتك في مشيخة الأزهر صحافياً كبيراً ومخضرماً ولامعاً، وكثيراً ما نقرأ لك في الصحف ورغم امتناعي عن اللقاءات الصحافية في الفترة الاخيرة الا انني رحبت بالالتقاء بسيادتك.
ثانياً هذا اللقاء للحوار والحديث في بعض القضايا المطروحة على الساحة العربية، وهي ساحة ملبدة بغيوم كثيرة ومصابة بانهيارات وتشققات عديدة.
أما السؤال عن التعليم في الأزهر ربما أنا من القلائل الذين اتيح لهم حسن الحظ بأن أتعلم في الأزهر وكذلك سوء الحظ بأن أُعلّم بالأزهر.
المرحلة الاولى التي طلبنا فيها العلم كانت عام 1956 وهو تاريخ التحاقي بالأزهر وكان عمري وقتها عشر سنوات ونصف السنة بعد أن مررنا في التعليم بمرحلة ما يسمى بالكتاب، وحفظنا القرآن حفظاً جيداً وتعلمنا فيه قواعد الاملاء وقواعد الحساب الاربع الجمع والضرب والقسمة والطرح والأوليات والمعارف الاخرى، ودخلنا بعد ذلك الأزهر الذي كان وقتها تتكون مراحله التعليمية من الابتدائية 4 سنوات والثانوية 5 سنوات ثم مرحلة الجامعة قبل أن تتغير الامور بعد ذلك عام 1963م، فنزل التخفيض على سنوات الدراسة الثانوي (4 سنوات) ثم بعد ذلك الاعدادي (3 سنوات) والثانوي (3 سنوات) ليوازي التعليم العام. في ذلك الوقت كنا ندرس كتب التراث القديم مباشرة فكان يقرر علينا في اللغة العربية كتب قديمة بها المتون والحواشي ولك ان تتخيل ذلك، طالب ليس في جعبته إلا القرآن الكريم، ويتعرض لدراسة أمهات الكتب مباشرة. لكن حفظ القرآن الكريم وتلاوته وقدسيته في نفوسنا أضاء لنا هذه العلوم التي كان من المستحيل أن يفهمها طالب في هذه السن (10 سنوات)، وكذلك الامور في كتب النحو ثم درسنا الفقه المالكي.
• هل اخترت التخصص في الفقه المالكي بحكم اختيارك أم بحكم انتمائك الى المذهب المالكي؟
- التخصص في الفقه المالكي كان بحكم انتمائي الى أبي وجدي، ولدينا مكتبة في البيت بها جميع الكتب، فوالدي رفض ان أدرس المذهب الحنفي وأصر على ذلك حتى لا تختلف الفتوى بيننا بعد أن أكبر وحتى لا أفتي برأي وهو يفتي بآخر، فكان هناك حرص على وحدة الكلمة ووحدة الفتوى ووحدة الناس، وأذكر انه كان من المقرر علينا في الصف الرابع الابتدائي كتاب "شذور الذهب" والآن هذا الكتاب ينصح به كمرجع لطلاب كلية الآداب في أقسام اللغة العربية لطلاب الدراسات العليا والماجستير.
بعد ذلك انتقلنا الى المرحلة الثانوية وكان نظام الأزهر في ذلك الوقت ان تدرس في المرحلة الابتدائية أوائل العلوم وأوائل النصوص ثم بعد ذلك في المرحلة الثانوية ندرس المواد نفسها، ولكن بتعمق أكثر وبعد هذا يزداد التعمق في المرحلة الجامعية، وكنا نسمي الطالب في المرحلة الاولى بالشاي أو المبتدئ.
• هذه التعديلات الاخيرة جاءت بعد القانون المسمى "اصلاح الأزهر" عام 1960؟
- هذه التعديلات جاءت بعد القانون الجديد وجعلت الاعتماد على مذكرات تكتب بدلاً من النصوص القديمة، والحقيقة في هذا الموضوع أن العقلية الأزهرية في المقام الاول عقلية تراثية وما زلت أقول ان العلوم القديمة مكتوبة بنمط غير متكرر واستشهد بأصدقائي الفرنسيين الذين يدرسون في معهد الآباء الدومينيكان ويقومون بتحضير الماجستير والدكتوراه في علومنا مثل البلاغة، كنت أسألهم هل عندكم في تراثكم اذا أردتم أن ترجعوا الى اللغة الفرنسية في نحوها وصرفها هل ستجدون الشرح والمتون والتعاليق؟ وعرضت لهم كتب ابن سينا وما فيه من شروح.
• هل أنت تتكلم عن أسلوب لغوي أو عن عقلية تراثية؟ فلا أتخيل مؤسسة دينية كبيرة لا تكون عقليتها الاساسية تراثية بحكم التكوين؟
- لا أتحدث عن لغة بل عن نمط التأليف ومنهج التعلم في هذه الكتب وهذه الكتب لها مناهج يجب مراعاة التدرج فيها. التخصص له كتب والنهائيات لها كتب. هذه الامور ليست متوافرة الآن وهذا هو السبب الاساسي في تدهور التعليم. في الأزهر نحن نكاد نسابق الزمن للعودة لهذا النظام الذي تربينا عليه أو نفعل المستحيل لأننا درسنا على هذا النظام البلاغة ثلاث مرات مبسطة بأسلوب قديم ثم من كتب متوسطة ثم كتب متقدمة.
• اذاً يعتبر الإخلال بالمنهج التراثي للعلماء المسلمين هو مصدر الخلل؟
- الموضوع معقد. التراث أولاً يضمن لك الوسطية ويضمن لك تقبل الآخر. الذي لا يدرس التراث هو الذي يضيق عقله عن تقبل الآخر، لذلك عندما نقول بعودة تدريس كتب التراث يقولون هل ستعودون بنا الى العلوم التي تُكوِّن المتشددين! المسألة بالعكس تماماً: عدم التمتع بتنوع الآراء والنظريات والافكار وهذه خاصية التراث الاسلامي، وعندنا في التراث الاسلامي (اختلافهم رحمة) فالاختلاف موجود منذ عهد الصحابة وجميعهم على صواب. إذاً التراث كتراث للمسلمين داخلياً متنوع نجد فيه الرأي والرأي الآخر والثالث والرابع والا ما معنى المذاهب الاربعة مختلفة ومتعايشة في الاسلام، بل ان فقهاء المذاهب الواحد يختلفون ومع ذلك يتعايشون هذا بالنسبة للفقه وكذلك النحو: البصريون والكوفيون.
حينما ندرس في كتب التراث، فإننا أمام قال فلان وقال فلان ثم يأتي الترجيح، اذاً العقلية الاسلامية عقلية نقدية منذ البداية تنتظر الرأي والرأي الآخر، والفكرة والفكرة الأخرى وتفند النظرية وتنتقد، هذا هو عمل التراث في داخل العقلية الاسلامية، فالتراث يهيئنا عندما نتعامل مع غير المسلم على قبول الاختلاف. فالقرآن الكريم يوضح ان الاختلاف سنّة كونية، فالاختلاف في اللغة (اختلاف ألسنتكم وألوانكم) والاختلاف في الجنس والعقيدة (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) فالقرآن يقرر حقيقة الاختلاف (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) فالاختلاف مقصد من مقاصد الخلق ودائماً نرى هذا ومتوقع ان هناك من يخالفنا في الدين ويختلف معي وانه موجود الى يوم القيامة. لذلك عندما ننظر للعولمة أو نحاول عولمة الثقافة أو عولمة الدين أو كما يقولون كثلكة العالم، فنحن لا ننكرها فقط بل نعتقد انها خرافة بنص القرآن الكريم، لأن الاختلاف في الدين سيظل لآخر لحظة في عمر الكون. في نص القرآن هذا الاختلاف دائماً موجود وايماني بأن الذي يخالفني موجود معي، جعل العلاقة بيني وبينه كما قررها القرآن هي التعارف - والعلاقات الدولية في القرآن الكريم قائمة على التعارف. اذاً التراث هو الضامن لعقلية الوسطية والحوار والرأي والرأي الآخر.
• كما عبَّرت فضيلتك بهذا المعنى فإن التعمق في التراث الاسلامي ضمانة للاستيعاب العميق لهذا التراث، ديناً وحضارة. لكن هناك سبب آخر لمعضلة تخلف التعليم الديني عند المسلمين وربما تخلف المسلمين هو نقص معرفة الآخر. سأعطي مثلاً كمراقب دون تطفل خارج اختصاصي. إذ أعرف بحكم المنشأ والتجربة معاً بيئات متعددة دينية لبنانية وعربية. أعرف عدداً من القساوسة والآباء الكاثوليك والارثوذكس والبروتستانت من دول عربية مختلفة متخصصين في الفكر الاسلامي، ناهيك عن رجال الدين المسيحيين الغربيين والمستشرقين عموماً، ولكني أكاد لا أعرف رجل دين واحداً من المسلمين، سنة وشيعة متخصصاً في اللاهوت المسيحي أو متخصصاً في التراث الديني اليهودي. ألا تعتقد ان هذه ظاهرة مقلقة وخطيرة وأنت نفسك سمعتك في إحدى المقابلات تتحدث عن ضرورة تطوير مستوى رجل الدين أو عالم الدين المسلم كأحد مشاريعك الاساسية في "الأزهر"؟
- ملاحظة صحيحة الى حد كبير، ولكن لا يعني هذا ان علماء المسلمين القدامى، حتى علماء الأزهر من جيلي انقطعوا تماماً ولا يعرفون شيئاً في هذه المقارنات بين الاديان أو علم مقارنة الاديان في اللغة الاوروبية. العلماء القدامى لهم عطاء مكتوب في هذا المجال في علوم الاديان المقارنة ونحن المسلمين أول من أنشأ علم الاديان المقارن في تراثنا. هذا موجود لدينا وبشكل معمق وفيه سبق تاريخي وسبق منهجي وفيه سبق رؤية، وربما السبب في اننا لسنا متخصصين في علوم اللاهوت في أوروبا سواء كانت مثلاً مقارنة الاديان اليهودية أو المسيحية انه ربما كثير منا يستنيم الى ما صدر أو ما كتب في هذه الاديان في التراث الاسلامي، وأنا معك في أن هذا خطأ. وأنا شخصياً تنبهت الى هذا وكنت أقول دائماً ان الذي يريد ان يكتب في المسيحية الآن يجب ان يذهب الى الغرب ويتتلمذ على أيدي اساتذة وعلماء من الغرب ثم يكتب ما يراه بعد ان يسمع ويرى. من اجل ذلك نحن حرصنا على ان ننشىء في اصول الدين والكليات الشرعية منذ كنت رئيسا للجامعة على مدى سبع سنوات قسما خاصا يعد صفوة من الطلاب اعداداً لغويا متميزا في الانكليزية وتعاقدنا مع المجلس الثقافي البريطاني والحمد لله اول ثلاثة طلاب سافروا هذا الصيف وحرصنا على ارسال ثمانية آخرين في الصيف المقبل نصفهم تم ابتعاثه ليتخصص في المسيحية والآخر في اليهودية ليرجع لنا عالما باليهودية والمسيحية من خلال الكتب والمصادر والمراجع بالمنهج اليهودي الغربي او المنهج المسيحي الغربي.
فقد وجدنا كل من يكتب في الفترة الأخيرة عن المسيحية يستند الى ما كتبه الشيخ ابو زهرة او الدكتور علي عبد الواحد وافي من المعاصرين او الامام الغزالي والشهرستاني من السلف. هناك رؤى جديدة لا نعلمها، ظهر نقد جديد للكتب المقدسة واصبح علماً واصبح له علماؤه والمتخصصون فيه، نحن نريد ان ننفتح على هذا وفي الجيل السابق كان الشيخ ابو زهرة يكتب جيدا في المسيحية والدكتور عبد الحليم محمود شيخنا رحمه الله كان يدرّس لنا مقارنة اديان في كلية اصول الدين وكان لديه نص باللغة الفرنسية يقرأ منه ويملي علينا وفي النهاية ترجم النص وكان عن المسيحية وشيخنا رحمه الله كان لا يعتبر نفسه متخصصا ولكن المتخصصين الحقيقيين سيكونون من بين الطلاب الذين يدرسون حاليا في جامعات الغرب.
• علمت ان "الجامعة الكاثوليكية" في باريس تدرّس رجال دين مسلمين وتخرّج بهذا المعنى ائمة مسلمين؟
- سأقول لسيادتك ان الذي يغري المستشرقين او الآباء بالكنيسة هو عمق تراثنا وهم يعتبرونه تراثاً انسانياً عالمياً وهذا ما اصابهم بشغف التخصص وخصصوا اعمارهم كاملة لهذا التراث سواء آمنوا بخلفياته ام لا، لكن يؤمنون بأن هذا التراث تراث عالمي ويجب ان يحافظ عليه وان يدرس لدرجة اننا للأسف نجد كثيرا من الباحثين المسلمين اذا ارادوا ان يكتبوا في موضوع اسلامي قد يولوا وجوههم شطر كتابات غربية ثم يترجمونها حتى يفهموا ماذا يقال في كثير من موارد ابحاثنا الاسلامية اضافة الى اننا كعلماء مسلمين لا نجد البعد الروحي او العمق الفلسفي الموجود في العقائد الاسلامية والتراث الاسلامي على الجانب الآخر بمعنى قد لا يكون الجانب الآخر جذاباً او مغرياً وكل ذلك حصيلة مناقشات مع كثير من المستشرقين في باريس من اليهود والكاثوليك، لكن لا اعني بالتراث الاقتصار عليه فقط بل لا بد من الحداثة ايضا فقد درست في اصول الدين علم النفس والاجتماع والفلسفة الحديثة اضافة الى التراث.
• هل تربط اذاً بين مستوى التعليم في الازهر وبين ازمة التعليم في جامعاتنا العربية؟
- نعم استطيع ان اقول هذا لأن ابنائي وابناء العائلة يدرسون في مختلف الجامعات الاخرى وانا دائم الحديث والحوار معهم واقيم المنهج الذي وراء هذا التشتت في التفكير او التبعثر. المشكلة الآن في نمط التفكير نفسه. فالطالب الآن او الذي يتخرج من الجامعة غير قادر على التفكير المنطقي، غير قادر على استنباط النتائج من القضايا وهذه مشكلة اخرى بل مشكلة اعمق. فقد اصبح العقل العربي في الشباب عقلا يحتاج الى تنظيم التفكير فكلامه يسبق تفكيره والمشكلة جاءت بسبب الاعلام، فما يربي العقل العربي الآن ليس التعليم او الجامعات على ضعفها فالجامعات على ضعفها لا تجد لها اثرا او بصمات لا في تكوين شخصية الشباب ولا في تكوين عقليته ايضا، انما الشباب الآن مرهون بدوائر اخرى تلح على ذهنه ليل نهار وللأسف نحن في واد وتاريخنا في واد واعلامنا في واد آخر.
والنتيجة اننا لم نعد عربا بثقافة عربية ولا مسلمين بثقافة اسلامية لذلك تتخطفنا بعض الافكار التافهة وتلبس معظمها عمامة الاسلام عن جهل وغرض وهذا معناه ان الساحة لا يوجد بها تأصيل على الاطلاق فلم نصبح اوروبيين كما يريدون. خسرنا على كل الجبهات فلا استطيع ان اقول من انا. الفرنسي مثلا يستطيع ان يقول من انا ضمن دائرة الاتحاد الاوروبي.
لا يوجد تعليم دقيق وحتى من يتولى مهمة التعليم قد لا يكون بينه وبين التعليم صلة قوية او هو قادر على ادارة العملية التعليمية وهذا خلق نوعا من الضياع على اكثر من مستوى وتستطيع ان تقارن بين الكتب التي كان تدرس للطلاب في سنة 1935 من القرن الماضي او حتى في الخمسينات وبين الكتب التي تدرس للطلاب الآن – اول من امس قرأت في مجلة (الكتاب) التي كانت تصدر عام 1947 مقالا لناظر مدرسة ثانوي كتب مقالا عن (السلام بين الفارابي وروسو وكانت) في حوالى 6 صفحات لا يكتبه متخصص في علوم السياسة الآن وما كتبه وكيل النيابة في محاكمة طه حسين قطعة ادبية رائعة توضح مدى ما كان عليه التعليم من عمق ورصانة.
• انا اصلي وراء فضيلتك وفي هذا المجال تحديدا. لكن الاعلام العربي على تخلفه وحتى احيانا على فساده هو جزء من حالة اكبر سياسية واجتماعية واقتصادية. وهذا ما يدفعني الى طرح موضوع آخر متصل يتعلق بالنخبة المصرية ودورها المتراجع. صحيح كما يقال ان الدولة في مصر كانت قائدة للتأثير المصري في الخارج في العصور الحديثة من محمد علي الى عبد الناصر لكن لم يكن هناك يوما دور للدولة بدون ان يكون مترافقا ومتوازيا مع دور المثقف والاستاذ والباحث والرحالة ورجل الدين والصحافي المصري في المحيط العربي والاسلامي. هؤلاء كانوا الطليعة المصرية حتى لو كان بعضهم معارضا للدولة. الآن يغيب امثال هؤلاء الرياديين رغم الازمات الوجودية التي يتعرض لها العالم العربي. الا تعتقد فضيلتك ان المشكلة تتعلق بتراجع بنيوي عربي وتحديدا مصري ولا تنحصر بالاعلام؟
- اعلم ان سيادتك من رواد الاعلام وحينما انتقد الاعلام انا لا انتقد اشخاصا وانما انقد فترة ونمطا اعلاميا سائدا – وما حدث في مصر حدث في العالم العربي.
-السؤال الذي اطرحه على سيادتك اين النخب؟ حتى وان دللتني على النخب التي تتحدث عنها، على سبيل المثال طه حسين الذي كان يضرب به المثل في التطوير وهو جدير بذلك، ونقد التراث لكنه لم يسىء الى التراث لأنه درس التراث ويعرفه ولم يشترط في نهضته ان تكون هناك قطيعة مع التراث او قطيعة مع الماضي. لكن اليوم النخب التي تتحدث عنها تبدأ من القطيعة مع التراث، هذه الهاوية وقبل ان تتحرك تهوي فيها. والمشكلة ان هذه الشعوب لها تاريخ وحضارة، هذه الارض لها حضارة وتاريخ طويل جدا في احترام الدين واحترام النبوة واحترام الوحي، عندما تستنبت فيها نباتا لا يحترم هذا، بالضرورة ان يموت هذا النبات قبل ان ينمو على وجه الارض.
ان الحقيقة، دون الرجوع لنظرية التآمر هي الغرب بحربته اسرائيل وراء كل ذلك، لدينا الآن اسلاميون ينظرون بعين واحدة الى الماضي، او مثقفون، او تنويريون بعين واحدة الى الامام لكن الرؤية الحقيقية التي تبني على الماضي غائبة، يوم ان يوجد من النخب من يتحرك من هذا المنطلق ويسند ظهره الى الماضي ويتطلع الى الامام يستطيع ان يبني وان يقود وان يتقدم.
الحقيقة ان الحروب التي توالت في فترة عمري هذا (1948 – 1956 – 1967 – 1973) 4 حروب شاهدتها في حياتي وكانت كل واحدة منها ترجع بك 50 عاما الى الوراء في الثقافة والاقتصاد، المسألة كما قلت هي ان الغرب اراد بالشرق شرا وحينما خرج من بلادنا لم يتركنا وشأننا، لا تقل ان هذه نظرية المؤامرة ان اعرف ان الغرب جرب الحروب تماما وذاق مرارتها ودفع ثمنها غالياً وهو حريص على الا تحدث بينهم حرب لا في اوروبا ولا في اميركا من القرن الماضي. هذا يلزمه ان تكون الحروب في اماكن بعيدة ولا تغلق مصانع الاسلحة. هذا هو الاشكال، انا لا الوم القادة فقط بل الوم المفكرين والعلماء واساتذة الجامعات. ذكرت اننا غير مواكبين للتقدم العلمي لمَ لا يلام اساتذة كليات الهندسة والطب والزراعة هل وجدت نقدا يوجه الى هذا الفريق المنوط به التقدم العلمي مثل ما نجد نقدا يومياً ويملأ الصحف للاسلام والمهتمين بالاديان؟ هذه هي المشكلة، المشكلة ليست في الاسلام الآن ولا الاسلام عنده مشكلة، المشكلة في التخلف العلمي ومواجهة التخلف العلمي ليست مطلوبة مني كفقيه بل مطلوبة من علماء الطب والهندسة والزراعة.
• فكرة عالم الدين الطبيب او عالم الدين المهندس وهذا جذوره في التراث، هل تراودك في مشاريعك الاصلاحية في الازهر؟
- والله لا تراودني كثيرا فقد عشت التجديد منذ عام 1963 والذي طرأ جديدا هو ان يتخرج الطبيب الازهري الذي يحمل رسالة الازهر والدعوة الى الاسلام ضمن مهنته لكن التجربة ليست كاملة انما استفدنا والحمد لله في ان نخرج في كلية الطب بالجامعة (الازهر) من يحمل بصمات التراث الاسلامي، ووجدنا فرقاً بين الطبيب الازهري والطبيب الذي يتخرج من الجامعات الأخرى في المجتمع. فالطبيب الازهري له رسالة وهذه الرسالة تنشر رسالة الوسطية والخوف من الحرام، لا نجد طبيباً ازهرياً يتاجر بأرواح الناس او يسرق الاعضاء أو تستقطبه التيارات الاخرى على الجانب الفكري والعقلي فهو محصن لكن الآن نعد أنفسنا بأن يكون هناك داعية متمكن من التراث ومتمكن من العلوم الحديثة وان يكون هناك طبيب مسلم ممتاز يطور مجال الطب ولا مانع أن يدرس بعض العلوم الاسلامية اذا أراد أن يزاول الدعوة.
• في الحوار المهم الدائر حول العلمانية أو فصل الدين عن الدولة ويتناول دولاً مثل تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية، بما فيه الفارق بين النموذجين الفرنسي والاميركي. في هذا الحوار والذي تجدد مؤخراً مع القانون الفرنسي بحظر الحجاب الكامل... ربما تحتل مصر موقعاً قوياً بحكم كونها تجمع بين تقاليد الليبرالية الاجتماعية والمحافظة الاجتماعية في الوقت نفسه. فحرية ارتداء الحجاب في مصر مثل حرية عدم ارتداء الحجاب.
سؤالي هو هنا: رغم معرفتي بموقفك من عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى ألا تعتقد ان اعتراض بل نقد علماء الدين الايرانيين وعلماء الدين السعوديين للقانون الفرنسي هذا الاعتراض لديه نقطة ضعف اساسية هي انه في السعودية وإيران مقابل تقليد ارتداء الحجاب ليست هناك حرية عدم ارتداء الحجاب لمن تريد نزعه وبالتالي في ايران والسعودية لا يستطيعون ان ينتقدوا فرنسا على الفرض الذي يمارسونه هم ايضاً في اتجاه واحد انما معاكس؟
- خلع الحجاب مخالفة لنصوص اسلامية ومعروف ان الاسلام ليس علاقة بين العبد وربه فقط فلا استطيع أن أقول حينما الزم المرأة بإرتداء الحجاب انني أصادر على حقها، هنا أخالف شعيرة من شعائر الاسلام الموجودة، لكن هل المشكلة تصل الى حد الوجوب وحد الفرض، الاجابة على هذا السؤال تتعلق بالفقه أمام مسألة الحجاب، هل خلع الحجاب مخالفة عادية أم كبيرة من الكبائر نعتبره مثل شرب الخمر والزنا؟ اذا كانت كبيرة فيجب عليّ أن أفرضه واذا كانت مخالفة عادية فهو أمر مثل الغيبة اعتبره معصية ولا يحتاج الامر الى تدخل. كل ما علينا كعلماء أن ننكر هذا وننصح بإرتداء الحجاب وننكر على المرأة المسلمة ان تخلع حجابها فقط دون فرض أو تدخل، لأن هذا لم يحدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحدث ان ضرب النبي امرأة كشفت عن رأسها. النقاب لا يوجد نص عليه في القرآن، أما الحجاب موجود. ومن هنا نرى ان خلعه معصية.
• آتيك، مولانا، من بلد الفتنتين لبنان. الفتنة القديمة المسيحية المسلمة والفتنة الجديدة السنية الشيعية. وهذا كثير جداً على بلد صغير مثل لبنان. تصور سيدي ان هذا اللبنان يحمل دفعة واحدة مشكلة الفتنة المسلمة المسيحية التي عادت تطل برأسها في مصر وجاء بيانك المشترك مع غبطة البابا شنودة حاسماً ضدها، ومشكلة الفتنة السنية الشيعية التي انطلقت من العراق. مصر أم الثمانين مليونا، والعراق أبو الثلاثين مليون نسمة. فكيف للبنان ذي الأربعة ملايين نسمة والرقعة الجغرافية الصغيرة ان يحمل على أكتافه ما تحمله مصر والعراق معاً.
في أوائل الصيف الماضي قال لي في النجف المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني انه ليس قلقاً على العلاقات بين السنة والشيعة داخل العراق لو ترك الأمر للطائفتين ولكنه قلق من استمرار التوتر الايراني السعودي على المستوى الاقليمي في التأثير على تفاقم الفتنة الشيعية السنية بما يجعل السيطرة على مجرى الامور أصعب.
ما هو تعليقكم؟
- هذا الموضوع لا يحتاج لتفكير كثير أو تنظير أو متابعة لأن النذر واضحة هناك قلق يأتينا من خارج المنطقة ودعني أتحدث عن مجالي هنا فقط مثلاً حينما تجد في هذه الآونة الأخيرة بعض الشباب الذين يحاولون الدعوة للمذهب الشيعي (في مصر) ظاهرة جديدة لم تحدث من قبل بل الأمر يهولك عندما نجد بعض الشباب ينتقد السيدة عائشة أو الصحابة هذا يجعلني أقول ان فتنة يخطط لها ويراد لها ان تنبعث في بلاد أهل الاسلام. طبعاً حينما أرى ظاهرة كهذه فانني انكرها ودون الاتهام لأي دولة لأننا نحتاج الى وحدة الأمة الاسلامية لكل دولها وهذا شيء مهم وضروري ونحتاجه وبدونه لا نستطيع ان نرفع رؤوسنا في يوم من الأيام. أبحث عن المستفيد مما يحدث الآن. بعض البلدان الاسلامية، وبعض المتشددين يتحملون جزءاً من المسؤولية حول هذه الفتنة. حينما تكون هناك فضائيات تحكم بكفر الشيعة هذا شيء مرفوض وغير مقبول ولا نجد له مبرراً لا من كتاب ولا سنة ولا اسلام، نحن نصلي وراء الشيعة فلا يوجد عند الشيعة قرآن آخر كما تطلق الشائعات والا ما ترك المستشرقون هذا الأمر فهذا بالنسبة لهم صيد ثمين ولي بحث في هذا المجال وجميع مفسري أهل السنة من الطبري وحتى الآن لم يقل منهم أحد ان الشيعة لديهم قرآن آخر.
• هل هناك أخطر من موضوع "عصمة الأئمة" كخلاف عقائدي بين السنة والشيعة؟
- لا يوجد خلاف بين السني والشيعي يخرجه من الاسلام انما هي عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات كما حدث بين المذاهب الفقهية (الأربعة) كل الفروق بيننا وبينهم هي مسألة الإمامة. فعندنا في السنة الامامة بالاختيار والرسول صلى الله عليه وسلم ترك للمسلمين اختيار ائمتهم وخلفائهم وهم يقولون ان النبي صلى الله عليه وسلم اوصى للامام علي (كرم الله وجهه) فلو اعتقدت ان سيدنا علي اولى بالخلافة ليست هناك مشكلة ولو اعتقدت ان الأمة اختارت سيدنا أبا بكر وهو أولى لا توجد مشكلة لكن المشكلة في التوظيف وهناك مشاكل عن عامتهم من سب لأبي بكر والبخاري والمشكلة هي في التوظيف المغرض للاختلاف لضرب وحدة الأمة.
• هل ستزور النجف؟
- اذا ذهبت للعراق سأزور النجف. الازهر واجبه الأول وحدة الأمة الاسلامية وكذلك تجميع المسلمين على رؤية واحدة مع اختلاف الاجتهاد ومستعد لزيارة أي مكان اجمع فيه المسلمين مع بعضهم والنجف بصفة خاصة.
وأتمنى ان تكون زيارتي بعد حسم مسألة الحكومة لأن ذلك من الأمور التي تؤذينا. قلت للوفد العراقي الذي زارني مؤخراً (وفد مشترك من الأوقاف السنية والاوقاف الشيعية) سآتيكم وأنا أب للسنة والشيعة بشرط ألا تفسر زيارتي لصالح طرف على آخر.
• قرأت ترجمتك عن الفرنسية لكتاب "الولاية والنبوة عن الشيخ الاكبر محي الدين ابن عربي" للباحث علي شوركفيتش. قرأته من الغلاف الى الغلاف بما فيه مقدمتك لما ترجمته. لقد استفدت كثيراً من هذا الكتاب لا سيما في الافق الذي يكشفه من حيث أهمية محاولات فتح المنظومة العقائدية عند السنة عبر "الولي" (كما فعل الشيعة عبر "الامام" وكما فعل المسيحيون عبر "الرسل" ثم "القديسين" ثم "الشهداء") وهذا ما استدعى حسب الكتاب هجوم الشيخ ابن تيمية العنيف على المتصوف الشيخ ابن عربي.
ما الذي أملى عليك هذه الترجمة؟
- المقصود هو انصاف الشيخ ابن عربي وتجلية البعد الفكري والفلسفي والروحي في كتاباته، والدعوة الى النظر في هذه الكتابات بعقل مفتوح وان تؤخذ في اجمالهاوكلياتها دون انتقاء او نظرة جزئية تبعدنا عن الفهم العميق والنقد الموضوعي بغير تحامل.
هذا ايضاً من الامور المحزنة، فالمؤلف الغربي تفرغ لدراسة اعمال ابن عربي لمدة خمسين عاماً بينما لدينا علماء يهاجمون ابن عربي دون قراءة كتاب واحد من كتبه ودون قراءة اسهل هذه الكتب وهو كتاب الفتوحات المكية، وكان من المفروض ان يكتب الباحث الغربي عن ابن عربي استناداً الى كتبنا نحن، ولكن المسألة قد قلبت فنحن ندرس ما يكتبه الغربيون.
• يصادف الآن على رأس الكنيسة الكاثوليكية بابا آت من عالم الأكاديميا وعلى رأس "مشيخة الازهر" رجل مثقف مثلك آت من العالم الأكاديمي. أظن هذه فرصة لحوار مهم لأن المثقفين يمكن لو جازفوا ان يحدثوا فرقاً مثيراً على المستوى الفكري؟
- ليس لدينا مانع في الحوار – كما قلت لحضرتك – الوحدة الوطنية في الداخل هدفنا وكذلك الوحدة العربية والاسلامية ثم السلام العالمي وهذه رسالة القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل للعالمين رحمة وسلاماً حتى لغير المؤمن به ونحن نرث هذا الميراث النبوي الشريف ونعمل على حمله والالتزام به.
• الوثيقة التي أعدها الفاتيكان باشراف البابا بينيديكتوس حول كنائس الشرق الأوسط، ويجتمع حالياً اساقفة الشرق الاوسط لمناقشتها، هذه الوثيقة قالت في احدى فقراتها ان الشرق الأوسط أو ما تسميه الوثيقة "العالم العربي – التركي – الايراني" هذا العالم لا يعترف بـ"حرية الضمير" ويقصد بها حرية تغيير الدين. انه يعترف بحرية العبادة وليس "حرية الضمير" بما تعنيه من حرية تغيير الدين؟
- لقد درسنا هذه الوثيقة ونود بداية ان نقول اننا كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيين في الشرق لأن بقاءهم وازدهارهم تعبير عن ثراء حضارة الشرق روحياً ومعنوياً وثقافياً ودليل على ان الاسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر.
اما حرية العبادة فمكفولة و"حرية الضمير" يقررها الاسلام الذي يقول كتابه الكريم في محكم آياته "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" ويقول سبحانه "فذكّر انما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر" واعتقد ان في هذه الآيات ابلغ رد على موقف الاسلام من حرية الضمير.
• قلت انك لا يمكن ان تصافح أي اسرائيلي رسمي طالما لم تعد اسرائيل الحقوق المشروعة للفلسطينيين، هل هذا يعبّر عن مساحتك الخاصة كشيخ للازهر أم عن تنسيق ما مع سياسة الدولة الرسمية التي لها اعتبارات مختلفة بمقتضى قواعد العلاقات الدولية؟
- الازهر الشريف جامع وجامعة، ومعبّر عن حكم الاسلام وعن ضمير المسلمين، وهو ليس سلطة سياسية وانما حامل رسالة ومكانة معنوية، ومن ثم فالاعتبارات التي تحكم الازهر الشريف ليست هي الاعتبارات التي تمليها الالتزامات الدولية على المسؤولين السياسيين، والازهر الشريف بحكم مسؤوليته الشرعية لا يستطيع الا ان يعبّر عن ضمير الجماهير الاسلامية تجاه العدوان الاسرائيلي الغاشم والاحتلال الآثم وتدنيس المقدسات، وحصار غزة الصامدة، وما يعانيه اخواننا من فلسطين في كل يوم، ومن هنا فإني أكرر موقفي بأنني لن أصافح مسؤولاً اسرائيلياً ما دامت الحقوق الشرعية للفلسطينيين مسلوبة، وهذا لا يعني موقفاً من اليهود كأصحاب ديانة نحترمها وكأهل كتاب، ويكفي ان تعرف ان رسالتي للدكتوراه كانت عن فيلسوف يهودي عاش في ظل حضارة الاسلام السمحة هو ابو البركات البغدادي.