يوافق هذا الشهر (ديسمبر) الذكرى الثالثة والعشرون لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ظل تشديد الحصار الصهيوني على قطاع غزة والانقسام الفلسطيني، مما يستدعي استرجاع تلك الذكرى المؤثرة والمشرقة في تاريخ النضال الفلسطيني، كي نستلهم دروسها ونجدد الثقة في خيار المقاومة باعتبارها الطريق الوحيد لتحرير الأرض من النهر إلى البحر.
مقدمات الانتفاضة:
لم يكن اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 مصادفة أو نتيجة حادث عرضي، بل كانت محصلة لعشرين عاماً من الاحتلال وقوانين الطواريء والمخططات الاستيطانية ومحاولات التهويد ونسف البيوت واعتقال الآلاف من المواطنين ظلما وبهتانا وفرض العقوبات الجماعية والسيطرة على مرافق الحياة ومصادرة الأراضي، ونهب الموارد المائية والحرب الاقتصادية وإقفال المؤسسات العلمية والنقابية والمهنية، وحرمان الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية.
كما أن الأعوام العشرة السابقة على الانتفاضة بما فيها من قنوط وجمود وشعور بالهزيمة قضت على ما كان متبقياً من أمل في أن يأتي التحرير من الخارج ورسخت الاعتقاد بأن المقاومة من الداخل هي الخيار الوحيد المتاح أمام الشعب الفلسطيني. فقد وافقت الانتفاضة مرور عشرة أعوام على زيارة السادات "التاريخية" إلى القدس، والتي كانت نتيجتها خروج أكبر دولة عربية من الصراع مع الكيان الغاصب .
من ناحية أخرى، كشف العدوان الصهيوني على لبنان في صيف 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية منه—بعد أن خرجت من الأردن قبل ذلك بـ 12 عاما— مدى عجز النظام الرسمي العربي الذي لم يحرك ساكناً أمام احتلال عاصمة عربية جديدة، وتعرض شعبين عربيين لكل صور القتل والإفناء، ومع خروج المقاومة الفلسطينية من آخر معقل لها على الحدود مع العدو الصهيوني، باتت مقولة التحرير من عبر الحدود موقع شك.
من ناحية أخرى، بعد مرور عشرين عاماً على الاحتلال، تغير وضع السكان، حيث أصبح أكثر من نصفهم ينتمون للجيل الجديد الذي ولد وعاش في ظل قيود الاحتلال، وأصبح يتوق إلى الثورة والحرية. وشهد الأعوام التي سبقت الانتفاضة سلسلة من الهبات الصغيرة والمواجهات داخل الأراضي المحتلة جعلتها مثل بركان على وشك الانفجار، وخصوصاً عامي 1985 و1986.
انطلاق الانتفاضة
كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الأولى هي تعمد شاحنة صهيونية بصدم سيارة عمال فلسطينيين ( داخل الخط الخضر) مما أدى الى استشهاد أربعة عمال وجرح سبعة آخرين من سكان مخيم جباليا في قطاع غزة وذلك مساء يوم الثلاثاء 8-12-1987م . ولاذ سائق الشاحنة الصهيونية بالفرار.
وعلى أثر ذلك اندلع بركان الغضب الشعبي صباح اليوم التالي 9 من ديسمبر 1987 م من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا ليشمل قطاع غزة برمته وتتردد أصداءه بعنف أيضاً في الضفة الغربية المحتلة، وذلك لدى تشييع الشهداء الأربعة. بل اتجه ذلك البركان إلى مقر الحاكم العسكري، ورجمته الجماهير بالحجارة، كما رجموا مركز الشرطة، وتصدى لهم الجنود الصهاينة بالرصاص، والغازات المسيلة للدموع فسقط شهيد جديد وجرح سبعة وعشرون، وفرضت سلطات الاحتلال حينها حظر التجول على بلدة ومخيم جباليا وبعض الأحياء في قطاع غزة.
وكلما سقط شهيد خرجت مظاهرات أشد غضبا وغليان، ولتمتد إلى أكثر من مدينة وقرية ومخيم، وما بدا أنها مجرد مظاهرات غاضبة وردة فعل عابرة أصبحت انتفاضة عارمة في وجه المحتل الصهيوني لتقول له أن الشعب الفلسطيني ما زال حياً وقادراً على انتزاع حقه بالرغم من سنوات الاحتلال ومحاولات التدجين البائسة.
كانت الانتفاضة هي الرد الابداعي للشعب الفلسطيني على الانسداد السياسي الذي وصلت إليه قضيتهم، والرد العملي على عجز قيادته في الخارج في حماية أهل الداخل وتوفير حياة كريمة لهم ينعمون بها بالحرية ، بل كان لفشل الأنظمة العربية دورا كبيرا في ذلك ، حيث لم تكن القيادة الفلسطينية في المنفى على علم كامل بأوضاع الفلسطينيين في الداخل ولا بمعاناتهم ولم تكن تطرح الحلول لمساعدتهم. وكانت منظمة التحرير في تونس تعمل على إنشاء محور عمان-القاهرة لحماية ياسر عرفات عوض العمل على إيجاد حل لقضية اللاجئين أو الفلسطينيين .
وبعد أن ظن قادة الكيان الصهيوني بكل غطرسة وغرور أن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع قد تم تدجينه، محاولين الترويج لفكرة "الاحتلال الليبرالي" الذي يعيش فيه الناس بفرح وسرور تحت الاحتلال، تبين لهم أنه ليس مرحباً بهم ولا باحتلالهم، مع ذلك أخطأوا مرة أخرى عندما ظنوا أنه يمكن قمع الانتفاضة بالقوة، فاعتقل الالاف وأصدر وزير الحرب الصهيوني رابين أوامر بتكسير أيدي راشقي الحجارة.
فكان الرد على ذلك تصاعد المقاومة الشعبية بأشكالها المختلفة، كما استخدمت المقاومة المسلحة وخصوصاً بعد عام 1992 ضد المحتل الصهيوني، مما أدى لاستنزافه بشكل مستمر ومتواصل أوصله إلى قناعة أنه لا يمكن الاستمرار بالاحتلال بالطريقة المعهودة فبدأ يفكر بحلول جديدة، فتفاوض مع قيادة منظمة التحرير وتوصل إلى اتفاقية أوسلو التي أدت لتخلصه من العبء الملقى عليه وفي نفس الوقت بقي متحكماً بالحدود والمعابر والسماء والموارد الطبيعية.
بعد توقيع اتفاقية أوسلو (في الثالث عشر من أيلول 1993) بدأت الانتفاضة بالخفوت التدريجي على أمل التوصل للسلام الحقيقي وانتزاع الحرية والكرامة للشعب الفلسطيني إلى أن توقفت الانتفاضة عملياً بعد قدوم السلطة الفلسطينية (في الخامس من آيار 1994)، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة في حياة الشعب الفلسطيني، لكنها لم تكن نهايته مع المقاومة، بل تجددت المقاومة وفي أشكال ومناسبات أخرى إلا أن الفضل كله يعود للانتفاضة الأولى، التي رسخت مبدأ المقاومة من داخل فلسطين ورفع الراية من تحت حراب الاحتلال، كطائر العنقاء الذي يخرج من تحت الرماد متحدياً الدمار والخراب.
أساليب المقاومة خلال الانتفاضةالأولى:
استطاع الشعب الفلسطيني أن يبتكر العديد من الوسائل القتالية لمواجهة جيش الاحتلال منها: -
1-الإضرابات والعصيان المدني: كان الاقتصاد الإسرائيلي وقت الانتفاضة الأولى يعتمد بشكل أساسي على العمالة الفلسطينية سواء لرخص العمالة، أو لقيامها بالعمل في مجالات لا يفضلها الإسرائيليون. لذلك كان سلاح الإضراب الأول عبر الامتناع عن الذهاب إلى إسرائيل للعمل قادراً على تكبيد الاقتصاد الصهيوني خسائر فادحة، بالإضافة لمظاهر الاضراب الشامل في مدن وقرى ومخيمات الضفة والقطاع واغلاق المحلات التجارية والمؤسسات العامة.
وكانت الفصائل الفلسطينية تعلن عن يوم اضراب شامل كل شهر، وكان يوم التاسع من كل شهر هو الاضراب الذي تعلن عنه القيادة الموحدة للانتفاضة (الجسم الذي يمثل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية)، واليوم الثامن من كل شهر هو الاضراب الخاص بحركة حماس، واليوم السادس من كل شهر هو الاضراب الخاص بحركة الجهاد الاسلامي.
هذا فضلاً عن أيام الحداد والاضراب في المناسبات المختلفة، فكان كل فصيل يصدر بيانات دورية فيه جدول للإضرابات وأيام التصعيد والمواجهة مع قوات الاحتلال، وحاول الصهاينة استخدام القوة لإجبار المحلات على عدم الاغلاق ومن أجل كسر الاضرابات إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، كما تمثل العصيان المدني بأشكال أخرى مثل رفض دفع الضرائب للاحتلال الصهيوني.
2-الحجارة: احتلت الانتفاضة مكانها في ثورات العالم الحديث باسم "ثورة الحجارة". وكان أكثر أسلحة الانتفاضة شهرة واستخداما في المصادمات أثناء التظاهرات مع قوات الاحتلال، وفي قذف سيارات الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، واستخدمت أيضا لإقامة الحواجز وإغلاق الطرق وبناء والمتاريس والكمائن.
3-السلاح الأبيض: أكثر أسلحة المقاومة الشعبية استعمالا بسبب وجوده في كل بيت وكان له تأثيره النفسي على المواطن الإسرائيلي الذي يرى أو يعرف أن العسكري الإسرائيلي قد قتل بسكين فيما هو يحمل بندقية آلية متطورة. وكان الأسير عامر أبو سرحان هو مفجر ثورة السكاكين في 21/10/1990 عندما قتل ثلاث صهاينة رداً على مذبحة المسجد الأقصى التي ارتكبها جنود الاحتلال في 8/10/1990 عندما قتلوا أكثر من عشرين مصلياً داخل الحرم القدسي وأصابوا المئات بجراح.
4-الزجاجات الحارقة: استخدام الزجاجات الفارغة بعد تجهيزها بمواد أولية متفجرة ومشتعلة.
5- الحرائق : مع بداية شهر يونيو 1988، ابتدعت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة أسلوبا جديداً للرد على طريقة التدمير المتعمد التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي للاقتصاد المحلي الفلسطيني، وهو حرق المرافق والمنشآت الزراعية والصناعية الإسرائيلية بما في ذلك الغابات والمراعي.
6- سلاح العوائق: وهو استخدام المسامير ضد حركة السيارات الإسرائيلية ليلاً. حيث كان يتم غرسها في الطرق مباشرة، أو من خلال زرعه في حبات البطاطا ونشرها على الطرق أو دق المسامير الكبيرة في قطع خشبية وتوزيعها على مسافات متفاوتة من الطريق.
7-اللجان المحلية: هي لجان عملت على تنظيم الغضب غير المسلح للشارع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي المسلح، مع توفير المؤونة والتعليم والأدوية وباقي الخدمات الضرورية.
8-العمليات المسلحة، وكان أبرزها: اختطاف حماس للجندي الإسرائيلي (آفي ساسبورقس) في شباط (1989م) من العمق الإسرائيلي، ثم اختطاف الجندي (إيلان سعدون) في أيار (1989م)، واختطاف الجندي (نسيم توليدانو) في كانون الأول (1992م)، وكان لهذا الحدث الأخير وغيره وقع أليم على السلطات الإسرائيلية، فاتخذت إسرائيل قراراً بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس في الضفة والقطاع وبعض قادة حركة الجهاد الإسلامي، فأبعدت في يوم 17-12-1992م (415) معتقلاً وألقت بهم عبر الحدود إلى لبنان في مكان نال شهرة بعد ذلك هو: مرج الزهور؛ حيث أصر المبعدون على البقاء فيه، ودخلت قضية إبعادهم المحافل الدولية، وناقشها مجلس الأمن الدولي، واستعملت أمريكا كعادتها، حق الفيتو بعد أن أعلنت إسرائيل موافقتها على إعادتهم بعد سنة، كما توقفت المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين خمسة أشهر.
وتمت باكورة العمليات الاستشهادية عندما فجر المجاهد (ساهر حمد الله التمام) سيارته بين حافلتين عسكريتين تقلان جنوداً صهاينة في مستوطنة ميحولا بغور الأردن في 16/4/1993، كما نفذت عمليات اطلاق نار عديدة في الضفة والقطاع، بينها عمليات الشهيد عماد عقل التي دوخت الصهاينة في القطاع وجنوب الضفة الغربية، ومن بينها قتل جنود دورية صهيونية وتصوير العملية بالفيديو أواخر عام 1992م، حيث كانت هذه العمليات أحد الدوافع الرئيسية التي دفعت الصهاينة للتفكير بترك قطاع غزة.
دورنساء فلسطين خلال الانتفاضة الاولى :
لعبت النساء الفلسطينيات دورًا بارزًا خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ إذ لم يكنَّ يخشين مواجهة الجيش الصهيوني أو دعم القضية الفلسطينية، كان هذا الدعم ملموسًا في الواقع؛ إذ كُنَّ يُمثِّلن ثلث ضحايا وشهداء الانتفاضة المباركة، وقد كانت النسوة يُسهِمن في مساعدة المقاومين في نقل الحجارة والعتاد العسكري من أجل مواصلة المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، وجيشه الذي يمارس العربدة بحق الفلسطينيين.
كما عملت المرأة الفلسطينية على تحرير العديد من شباب وأبطال الانتفاضة وأفراد مجموعات المقاومة من أيدي جنود الاحتلال حينما كان يلقي القبض عليهم. وكذلك قامت بإنقاذ أعداد كبيرة من الاعتقال وتهريبهم وتوفير كمائن لهم داخل البيوت أو الحقول.
وساهمت بإنجاح برامج نداءات القيادة الموحدة للانتفاضة حينما طلب مثلاً رفع الأعلام الفلسطينية في معظم أيام الانتفاضة، حيث لجأت النساء إلى توفير القماش بألوانه الأربعة ووقفت ساعات طويلة وهي تصنع الراية الفلسطينية. وشاركت المرأة في الاعتصامات والمظاهرات واصطدمت مع قوات الاحتلال متحدية الغازات السامة والدبابات والرصاص.
احصائيات متعلقة:
مارست قوات الاحتلال أعنف وسائل القمع ضد الانتفاضة، من استخدام الذخيرة الحية، إلى سياسة تكسير عظام الفلسطينيين التي ابتدعها اسحق رابين —الذي اعتبره الحكام العرب شهيد السلام السلام— إلى استخدام الغازات المسيلة للدموع.
-استشهاد 1550 فلسطينياً خلال الانتفاضة .
-اعتقال 100000 فلسطيني خلال الانتفاضة .
- عدد الجرحى يزيد عن 70 ألف جريح.
- 40 فلسطينياً سقطوا خلال الانتفاضة داخل السجون ومراكز الاعتقال الاسرائيلية بعد ان استخدم المحققون معهم اساليب التنكيل والتعذيب لانتزاع الاعترافات .
- مقتل أكثر من 130 صهيونياً واصابة المئات الاخرين. ومقتل عدة مئات من عملاء الاحتلال على أيدي المقاومين.