سعود المولى
منذ أيام تلاقى عدد كبير من المثقفين اللبنانيين، من مختلف الطوائف والمناطق والتيارات، ليقولوا بفم ملآن إنه "قد طفح الكيل باللبنانيين من سياسات التهديد والوعيد، ومن التخوين والتخويف، ومن العنف والترهيب"؛ وإنه "ليس قدر لبنان أن يكون منذوراً لحروبٍ مستدامة..إنما هو وطنٌ يستحق الحياة الحرة الكريمة كسائر الأوطان"...ووجّه المجتمعون نداء إلى جميع اللبنانيين المهتمّين بمستقبل وطنهم، لا سيما أولائك الذين يرفضون البقاء مكتوفي الأيدي في انتظار ما سيكون، وذلك للعمل معاً والتفكير معاً من أجل طَيّ صفحة الحروب بصورة نهائية، ومن أجل مصالحة وطنية قائمة على العدالة والإنصاف. لتلك الغاية إقترح المجتمعون تشكيل إطار عمل وتواصل – "تجمع العدالة والمصالحة" – يتيح للمجتمع اللبناني أن ينهض بمسؤولياته في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ لبنان..
والحال أنه ليس أول نداء ولا أول دعوة ولا أول مبادرة تنطلق من "المجتمع المدني الديمقراطي اللبناني" لوأد الفتنة وصون الوحدة والتعايش ولبناء أسس لبنان الجديد... وهي بالطبع لن تكون الأخيرة..وهذا أمر حسن ومرغوب إلا أنه يطرح علينا جميعاً أسئلة مقلقة: لماذا تضيع هكذا مبادرات ويأكلها النسيان بعد أيام أو ربما أسابيع على إطلاقها ؟؟ لماذا لا تتحول إلى مؤسسة فاعلة للتفكّر والتدبّر، وللتخطيط والتواصل، وللتحاور والتشاور؛ هذا إن لم نصل إلى المطالبة بآلية للعمل المشترك الجاد المتواصل لتنفيذ برامجها وشعاراتها ؟؟ لماذا يبدو المجتمع المدني ضعيفاً "مسبوعاً" أمام سطوة الطوائف والطائفيات؟؟ لماذا لم ننجح حتى الآن في تاسيس ذلك المكان المشترك-الحيز العام- الإطار المدني الديمقراطي- الذي يجمع المطالبين بالجمهورية الديمقراطية البرلمانية وبالميثاقية الدستورية وبدولة الحق ومؤسساتها وقوانيينها وبالإصلاح والتغيير؟؟ لماذا نكرر كل يوم إصدار الوثائق والمبادرات التي لا تقول جديداً ولا تكتب بديعاً ، في حين أننا نحتاج إلى عمل بعد القول، وإلى سيف بعد القلم ؟؟
صحيح أن اللبنانيين قد حققوا معاً إنجازاتٍ كبرى ، فباتت في رصيدهم المشترك، أهمها التعدّدية الثقافية والدينية، والديموقراطية البرلمانية ، والفصل بين السلطات (نظرياً) واستقلالية القضاء عن السلطة السياسية (نظرياً أيضاً) ..وصحيح أيضاً أنهم حرّروا أرضهم من الإحتلال الاسرائيلي (عملياً وفعلياً)، وحرروا قرارهم الوطني من الوصاية (نسبياً كما نرى)..ولكن هل أمسكوا فعلاً بمصيرهم الوطني؟ وهل وضعوا فعلاً حداً "لتلك الدورة الجهنمية من العنف والقتل"؟؟ لا طبعاً!! ولعلنا صرنا في حال أسوأ مما كنا عليه ؟ فأين هو دورنا؟؟
في وثيقة تجمع العدالة والمصالحة الجديدة، إشارة رائعة إلى أنه "في عام 1989 إختار اللبنانيون أن يعيدوا تأسيس سلمهم الأهليّ على قانون للعفو وليس على فعل العدالة. غير أن هذا القانون لم يفلح – بمعزلٍ عن تطبيقه الكيفيّ الإستنسابيّ – في طيّ صفحة الماضي الذي استمرّ يُلقي بثقله على حاضر اللبنانيين، مقيِّداً قدرتهم على معانقة المستقبل".والحال أن هذه هي المسألة الأساسية التي ينبغي أن ننكب على معالجتها. ولذلك قلنا ونعيد القول (كما قالت الوثيقة بالحرف) بأنه ينبغي أولاً "الإمتناع عن استخدام العدالة ضد أي جماعة أهلية أو فريق سياسي". ومن الضروري أيضاً أن يبادر اللبنانيون إلى إجراء مصالحة فيما بينهم ومع الآخرين، "على أساس الإعتراف بمسؤوليتهم المشتركة عن الحروب التي دمّرت بلدهم. إذ إن كل فريق منهم احتكم إلى السلاح، في مرحلة من المراحل، لحل خلافه مع الفريق الآخر، أو بدعوى الدفاع عن الذات، كما استعان بقوى خارجية لتلك الغاية، مضحّياً باستقلال الوطن وسيادته، ليغدو الجميع، من حيث يدرون أو لا يدرون، مجرد أدوات في حروب لبنان المتمادية".
إننا نحتاج إلى وقفة تاريخية إذ نحن فعلاً أمام منعطف تاريخي: فإما ننقذ ما تبقى من الوطن..وإلا فالطوفان..وأمام الطوفان لا تنفع الوثائق والتجمعات وإنما نحتاج إلى سفينة نوح!!