الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

كمال جنبلاط وبرنامج الإصلاح السياسي

كلمة الدكتور سعود المولى
في ندوة: كمال جنبلاط وبرنامج الإصلاح السياسي المرحلي للأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية.
بيروت- الإثنين 6 كانون الأول 2010- رابطة أصدقاء كمال جنبلاط

لست من الذين يبالغون ويتصورون بأن الحل النهائي والصحيح للوضع اللبناني كان يكمن في تطبيق وثيقة الأحزاب للإصلاح..ولست بالطبع من الذين يُغالون في نسبة كل ما هو إيجابي وعظيم إلى موقعنا في سنتي 75-76...وكل ما هو سلبي وسيء إلى موقع خصومنا في اليمين اللبناني يومذاك.
لقد كان لكل منا أخطاؤه وخطاياه.. وتلك صفحة طويناها معاً عندما قررنا التوافق على صيغة جديدة للحكم في الطائف عام1989... ولكن التذكّر والتأريخ ينفع في الإضاءة على صفحات مضيئة ومجيدة وعلى لحظات أمل وأحلام كانت بالنسبة لنا هي الحياة وهي الوعود بالمستقبل لأولادنا..

1= أهمية الوثيقة:
أهمية وربما استثنائية "برنامج الإصلاح السياسي" الذي طرحته "الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية" في 18 آب من العام 1975 لا تنبع من مضمونه وبنوده ،على أهميتها لا بل خطورتها... فهذه لا تختلف كثيراً عما طرحته برامج العديد من القوى في تلك الأيام، أي خلال الفترة ما بين 13 نيسان (تاريخ إندلاع الحرب الأهلية) وتشرين الثاني 1976 (تاريخ تشريع دخول قوات الردع العربية بيروت وإنهاء الحرب الأهلية رسمياً بعد مؤتمري القاهرة والرياض-تشرين الأول 1976- وهما كانا "بروفة" إتفاق الطائف- تشرين الثاني 1989).. أشهر تلك البرامج هي تلك التي نوقشت في اجتماعات "لجنة التهدئة الوطنية" التي شكلها الإمام الصدر وعقدت أول اجتماعاتها في 24 نيسان 1975 في مقر المجلس الشيعي بحضور 77 مثقفاً لبنانياً من مختلف الطوائف والمناطق وصارت تعرف باسم لجنة ال77 شخصية..ثم مناقشات "اللجنة الدائمة للحوار الوطني" وهي هيئة أهلية غير رسمية تشكلت من مثقفين وعاملين في الشأن العام واجتمعت ما بين تموز وآب 1975 في نقابة الصحافة اللبنانية (رياض طه) وندوة الدراسات الإنمائية (حسن صعب).. ثم وثيقة المرحوم الدكتور حسين القوتلي (المدير العام لدار الفتوى يومذاك) بعنوان "الإسلام والحكم" والصادرة في جريدة السفير في 18 أيلول 1975، والتي أسست للقول بعدم قبول المسلمين لفكرة الوطن النهائي والدولة المدنية..ثم مناقشات هيئة الحوار الوطني التي تشكلت رسمياً (بمبادرة من الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي) في 24 أيلول 1975 وضمت 20 شخصية ممثلة رسمياً لمختلف الأفرقاء، وانهارت طبعاً على وقع تصاعد طبول الحرب ومجازرها.. وهناك أيضاً بيان جمعية متخرجي المقاصد الإسلامية في 26 تشرين الثاني1975، ومذكرة الكتائب "حول الإصلاح السياسي" في كانون الأول 1975، ووثيقة "الإسلام والعلمنة" الصادرة عن مجلس العلماء والجمعيات والهيئات الإسلامية في لبنان في 25 آذار1976... ولكن أهم وثيقة رسمية صدرت خلال حرب السنتين هي تلك التي عُرفت باسم الوثيقة الدستورية (صدرت في 14 شباط 1976 )، وقد سبقها بيانا الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي في 29/11/1975 .. وتلاها مذكرة الشهيد كمال جنبلاط في 24 شباط 1976...
وهناك عشرات من الوثائق التي صدرت عن الكسليك وعن الجبهة اللبنانية كما عن قمم عرمون الإسلامية خلال العامين 1975-1976 وكذلك عن القمم والاجتماعات الروحية الإسلامية المسيحية المشتركة، وكلها تحمل برامج واقتراحات لحل الأزمة اللبنانية.
ولعل الورقة الأخطر والأشمل هي تلك التي صدرت عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بعنوان "ورقة عمل بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية"، وقد طرحها الإمامان موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين في 28 تشرين الثاني 1975، ثم أعاد المجلس التأكيد عليها وتوسيعها في وثيقته الصادرة في 11 أيار 1977، وكرر الإمام شمس الدين عرضها في 3/10/1983 بعد أيام من إذاعته بيان "ثوابت الموقف الإسلامي" في 21 أيلول 1983 والذي وقع عليه، إلى جانب شمس الدين، الشيخ حسن خالد والشيخ حليم تقي الدين والرؤساء عادل عسيران وصائب سلام وسليم الحص والوزير سامي يونس والنائب حسين الحسيني.. وباعتقادي أن وثيقة المجلس الشيعي هذه استوحت الكثير من البرنامج الإصلاحي المرحلي الذي طرحه الشهيد كمال جنبلاط..
وإن لم تكن وثيقة الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية بدعاً في مجالها، ولم تحمل جديداً يختلف كثيراً عن الوثائق المار ذكرها أو مميزاً فريداً في بابه..(كل هذه الوثائق والعشرات غيرها شكلت في ما بعد المصدر الأساس لصياغة وثيقة الوفاق الوطني في الطائف)..إلا أن أهمية واستثنائية وثيقة الأحزاب التقدمية هذه تكمن بالضبط في ثلاثة أمور:
1- توقيتها: أي المرحلة التي صدرت فيها (أو اللحظة السياسية بعبارة لينين).وهي مرحلة بدايات الحرب الأهلية ووضوح أطرافها وتدخلاتها حين كان السوريون والسوفيات ما زالوا يقفون إلى جانب جبهة الأحزاب الوطنية اللبنانية- الفلسطينية..وكانت الحرب الأهلية تراوح مكانها في حين كانت الجبهة التقدمية في وضع مريح أي أنها طرحت الحل الإصلاحي من موقع القوة وليس من موقع الضعف.
2- أنها صدرت عن أحزاب تقدمية يسارية كانت ترفض سابقاً مجرد الإعتراف بالكيان اللبناني الطائفي وتدعو لتغييره ولو بالقوة، ولا تؤمن بالتسويات التي أنتجته وحفظت استمراره..وهي أحزاب وقوى تنتمي إلى أيديولوجيات أصولية وترتبط بأنظمة عربية ودولية لها سياساتها المتعارضة على أرض لبنان..فكانت الوثيقة توليفاً سياسياً من جهة وبرنامج حد أدنى من جهة ثانية يؤمن تأييد ودعم كل تلك الأحزاب ودولها..
3- أنها كانت شاملة ومفصلّة تغطي مختلف جوانب الحكم والإدارةوعلى شتى الصُعد والمستويات..وهذا بحد ذاته كان جديداً إذ لم يسبق أن تناولت وثيقة سياسية أوضاع لبنان والحلول له من موقع لا طائفي ولا علماني في آن معاً..(وثيقة المجلس الشيعي كانت مفصلة وشاملة ولكن من موقع إسلامي أولاً وشيعي ثانياً...وكذا وثائق بقية الأطراف)فأقامت بذلك توازناً يُحقق مصالح جميع اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين، ومن يسار ويمين..
وهنا بالضبط تاريخية وواقعية كمال جنبلاط...

2= مضمون الوثيقة:
* الهم الأساسي لكمال جنبلاط (كما يظهر في الوثيقة البرنامجية) كان إصلاح التمثيل الشعبي وإصلاح أداء أجهزة الحكم.. وقد تمثل الشق الأول بمسألة النسبية وخفض سن الانتخاب وجعل لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، واعتماد البطاقة الانتخابية، وتحديد مراكز الاقتراع في أماكن السكن، والاستخدام المجاني والمتساوي للإعلام الرسمي، واعتبار الرشوة جناية، وتعديل النظام الداخلي للمجلس النيابي، وانشاء لجنة قضائية مستقلة للاشراف على الانتخابات وبت الطعون، وإخضاع النائب لرقابة ديوان المحاسبة ولقانون من أين لك هذا، وتحديد سن 64 لتقاعد النواب إفساحاً في المجال لتجديد شباب التمثيل النيابي...
* ولعل أهم مبدأ إصلاحي في الوثيقة (ولعله الجديد الممَّيز) تمثل في إقتراح إنشاء "مجلس الفعاليات والنشاطات الأساسية" من "مهنية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومعنوية" ..وهو كما يبدو يجمع ما بين مجلس الشيوخ والمجلس الإقتصادي الإجتماعي المنصوص عليهما في إتفاق الطائف 1989.
* إذن حرصت الوثيقة على "إنقاذ" النظام المعمول به في لبنان من "الهنات والمساوىء" (بحسب تعبير كمال جنبلاط في مؤتمره الصحفي يوم 19-11-1975) ومن ضمنها "الإنتهازية والمصلحية" التي كانت تهيمن على "التمثيل الشعبي" وعلى الحكم؛ وكذلك انعدام المسؤولية وعدم التحسس بالواجب الوطني و"استخدام الطائفية السياسية والحزبية الانتهازية بحيث أصبح النظام السياسي النيابي عالة على اللبنانيين بسبب الفساد في المؤسسات وفي الأخلاق وفي السياسات العامة"...
*كما حرصت الوثيقة على تحديد الصلاحيات والمسؤوليات بشكل واضح وعلى فصل النيابة عن الوزارة وعلى جعل الإدارة سلطة مستقلة من حيث التعيين والترقية..وكذلك بالنسبة للقضاء، وذلك بغية رفع يد التدخلات السياسية..
* وحرصت ثالثاً على التوازن بين السلطات الثلاث بعد تحديد وتقوية هذه السلطات بما فيها السلطة القضائية المستقلة...ولم تعط الوثيقة "الحكومة مجتمعة" صلاحيات وسلطات رئاسة الجمهورية (كما في الطائف)...وهي في كل ذلك كانت إصلاحية سلمية لا تبغي التغيير الجذري أو العنيف..

3= كمال جنبلاط المثالي الواقعي:
* كان جنبلاط فيلسوفاً متصوفاً إنسانياً يحلم بالتغيير المثالي السلمي نحو إشتراكية إنسانية روحية ومجتمع تعاوني تكافلي... إلا أنه كان أيضاً يجابه الواقع الطائفي-المذهبي والعشائري-العائلي اللبناني والعربي..وهو كان يجيد قراءة الواقع بل لعله خير من "قرأ الواقع وتعامل معه بواقعية" (تماماً كما يقال اليوم عن وليد جنبلاط)..فهو كان يعرف كيف يقتنص منالواقع الضاغط المكبّلالذي ينيخ بكلكله على الأجيال "لحظة حرية" كانت كافية عنده للتقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام..وكان يعرف أيضاً متى وكيف يتراجع خطوتين، وأحياناً خطوات، إلى الوراء.. البعض كان يرى ذلك "إقتناصاً للفرص"، أي انتهازية، وتقلباً، والبعض الآخر كان يرى سياسة جنبلاط "طوباوية" أو ممارسة "إقطاعية"..ولكن كمال جنبلاط كان "يصطاد الفرص السانحة"، لا لغاية ذاتية أو منفعة شخصية (وهو الصوفي الزاهد المترفع)، وإنما لدفع النضال وتسهيل التقدم وإزاحة العراقيل من أمام الوعي الجديد للشباب.. كان التقدم عنده عملية إنسياب هادئة بين تعاريج الواقع القائم لا تعنف فتقسو على المجتمع وتكسره أو تمزقّه (وهو الفسيفساء أو الموزاييك كما وصفه)، ولا تلين فتضعف وتنكسر أمامه.. إن إيجاد هذه المعادلة الدقيقة والصعبة بين المثال والواقع، بين العنف والإصلاح، بين المطمح والممكن، بين الوطن والكانتونات، بين الدولة والطوائف، بين العلمنة والدين، هو الذي ميّز كمال جنبلاط..
* وقف كمال جنبلاط "المثالي الواقعي" (على حد تعبير الصديق المرحوم الدكتور عفيف فراج) بين حدّين: حدّ الثورة/الحرب الأهلية/العنف ، وحدّ المصالحة/ التسوية/ الإصلاح... وكانت وثيقة الأحزاب لعام1975 دليلاً على موقفه التسووي الإصلاحي الذي كان يجنح إليه عند المنعطفات الحرجة ويحاول من خلاله الخفاظ على ما تحقق من إنجازات ومد اليد للخصوم للعبور إلى الأمان..
إلا أن مأساة كمال جنبلاط كانت في تخلف بقية القوى عن رؤية التغيرات وعن مواجهة التحديات بعقلية واقعية وبروح تقدمية.. إنه اليمين الغبي (على حد تعبيره الذي استعاده وليد)..ولكنه أيضاً الواقع المأساوي الذي تعيشه البلاد حيث قداسة الزعماء وصنمية الطوائف وفئوية المصالح..وحيث التداخلات العربية والدولية هي التي ترسم صورة التحولات: منذ حملة ابراهيم باشا المصري ونظام القائمقاميتين..وحتى حرب السنتين..لا بل وحتى الطائف فالدوحة فمعادلة السين- سين..
* في العام 1952 قاد جنبلاط انتفاضة شعبية سياسية سلمية (لا عنفية) لإسقاط حكم الطغيان والفساد.. إلا أن الجبهة التي شكلها (وفيها أقطاب من اليمين) لم يكن من الممكن أن تُكمل معه الطريق..فهذه القوى اليمينية "ذات طابع إصلاحي محدود وذات أهداف انعزالية..فكان لا مناص أن تنفك عرى التحالف عاجلاً أم آجلاً" (ربع قرن من النضال-ص24)... طبعاً كان جنبلاط يُدرك مسبقاً أن هذا التحالف العريض لن يستمر.. ولكنه خاض به أشرس معركة وحقق قفزة إلى الأمام في الوضع السياسي كما في الوعي الإجتماعي..فهو طبق سياسة ستالين وماوتسي تونغ في إقامة التحالفات الكبيرة الواسعة مع البورجوازية الوطنية وكل قوى الثورة الوطنية الديمقراطية التي تحتضن تحولات لا يمكن إلا أن تكون تقدمية وإيجابية على المدى البعيد..
* وفي العام 1958 قاد جنبلاط إنتفاضة سياسية شعبية مسلحة لإسقاط حكم الطغيان والفساد والعمالة
فجمع بين البُعد الأخلاقي المثالي للثورة وبين بُعدها العروبي السياسي..وانتهت إنتفاضة 1958 "إلى حيث لم يكن يجب أن تنتهي".."إلى حل نصفي جديد، إلى تنويعة جديدة على نظام القائمقاميتين القديم...أي إلى تسوية سهلة كتسوية 1943"..قال عنها جنبلاط أنها "حالة هدنة"(حقيقة الثورة اللبنانية-ص22-23)...ونحن ما زلنا ننتقل من هدنة إلى هدنة..
* كانت المرحلة الشهابية 1958-1964 (وملحقها رئاسة شارل حلو 1964-1970) هدنة طويلة نَعم فيها لبنان بشبه استقرار إقتصادي وسياسي (مع بعض المنغضات بالطبع مثل الثورة الكتائبية المضادة مطلع العهد) .. وقد دعم كمال جنبلاط التجربة الشهابية في بدايات مشروعها الإصلاحي لينفصل عنها لاحقاً بعد أن شكّل هو والكتائب قاعدتها الإجتماعية الأساسية..سبب إنفصال جنبلاط والكتائب معاً يعود إلى ملاحظاتهما (معاً) للتغيرات الدولية والعربية المحيطة والتي حملت بذور الحرب الأهلية اللاحقة (سقوط الوحدة المصرية-السورية 1961، ثورة اليمن 1962، انقلابات البعث في سوريا والعراق 1963 ، نشوء حركة فتح 1965 ، أزمة بنك انترا 1966، وصولاً إلى نكسة حزيران 1967 والإنطلاقة الثانية للعمل الفدائي، ثم دخول الثورة الفلسطينية إلى لبنان 1969-1970) ..
لقد حاول كمال جنبلاط دفع التجربة الشهابية إلى نهاياتها الإصلاحية الجذرية، وهذا كان منطق تحالفه القوي معها...إلا أن "أكلة الجبنة" في النظام (بحسب تعبير الرئيس شهاب) كانوا أقوى من المصالح البعيدة المدى للبورجوازية الوطنية..وهنا اصطدم جنبلاط مرة جديدة بالغباء وضيق الأفق...فكان الأوفق والأفضل ترك السفينة دون المشاركة في إغراقها وإنما العمل على ترسيخ خط آخر، ليس بالضرورة ضدها، وإنما إلى جانبها، لعله ينقذ التجربة نفسها أو يطرح بديلاً للأمل.
* وبين الأعوام 1960 و1975 قاد كمال جنبلاط الحركة الاجتماعية والتقدمية في البلاد وقام بتشكيل "جبهة الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية والتقدمية بعد مؤتمر بتخنيه التاريخي وانطلاق النضالات الاجتماعية الكبرى التي أدت إلى تحولات خطيرة داخل الحزب الشيوعي اللبناني (مؤتمر 1968) وحركة القوميين العرب (التحول إلى الماركسية-1968) وأحزاب البعث (يسار البعث والعمال الثوري ولبنان الإشتراكي) وحتى اليمين المسيحي الذي شهد ولادة تجمعات طلابية وشبابية (جبهة الشباب اللبناني- الوعي، الحركة الطالبية المسيحية) وعمالية (الحركة العاملة المسيحية) ودينية (حركة يسوع الملك) وفكرية (محاضرات الندوة اللبنانية)... وكلها تحمل عنوان العدالة الاجتماعية وتلتقي مع طروحات التغيير اليسارية... ومواقف كمال جنبلاط كانت برأيي أساسية وحاسمة في دفع هذه الاحزاب والقوى إلى التطور والتقدم وإلى التغيير الداخلي لمصلحة نضال الكادحين والمحرومين ولمصلحة الاصلاح الديمقراطي... وهنا بالتحديد يبرز دور جنبلاط ( ومعه عباس خلف وجورج حاوي ومحسن ابراهيم) في صياغة برنامج الإصلاح السياسي الديمقراطي الذي كان لبنة أساسية من لبنات التمهيد للطائف.
* وفي العام 1975-1976 قاد كمال جنبلاط الحركة الوطنية اللبنانية في برنامجها للإصلاح السياسي السلمي الديمقراطي..إلا أن مآلات تلك الحرب جعلته يعيد التفكير في المنطلقات..يقول في "من أجل لبنان" (صدر أولاً بعنوان هذه وصيتي): "كنا مثاليين أكثر مما ينبغي وبأكثر سذاجة مما يجب..وكلا الأمرين سواء..إذ أننا ظننا - ومن حق كل ثوري أن يخلي بين نفسه وبين مثل هذا االظن- أننا سويداء قلب هذه المنطقة من العالم" (ص 34 من طبعة باريس 1977).ولعل هذا الإعتراف يلخص كل مسيرة كمال جنبلاط مع الواقع اللبناني بشقيه الداخلي (قوة الطوائف والعصبيات العشائرية والمحسوبيات والحزبية-الغَرَضية) والخارجي (قوة التوازنات العربية-العربية والعربية- الدولية في صياغة معادلاته)..لقد حاول كمال جنبلاط في لحظة مناسبة "إقتناص" إصلاح سياسي سلمي ينقذ النظام..وحاول في لحظة سياسية أخرى (مناسبة أيضاً) "إقتناص" تغيير جذري يطيح بالنظام..وهنا كان مقتله..قتلته معادلات الغلبة والاستقواء وضيق الأفق والمصالح والأنانيات الضيقة..
* في العام 1975 طرح جنبلاط الإصلاح السلمي الديمقراطي وتحقيق التضامن العربي وذلك لحفظ القضية الفلسطينية وحفظ لبنان في آن معاً.. وهنا ينبغي طرح سؤال كبير: من كان صاحب فكرة وشعار عزل الكتائب في 13 نيسان؟ ذلك الشعار الذي ساهم في تأجيج الحرب الأهلية : من أقنع جنبلاط به ؟ موسكو وجماعتها في اليسار الفلسطيني اللبناني أم ياسر عرفات وجماعة اليمين الفلسطيني؟ أعتقد أنه يتوجب أن نرى صورة الوضع الدولي والاقليمي في حرب لبنان الأهلية أي صورة الصراع السوفياتي- الأميركي، ومحطاته الكبرى يومذاك في فيتنام والهند الصينية ، وفي افريقيا ، وصورة الصراعات العربية - العربية على أرض لبنان خصوصاً قبيل وبعد اتفاقية سيناء وفصل القوات 1975.. وضمن هذه الصراعات نقرأ موقف كمال جنبلاط وحرصه على الحق والعدل. وهذا باعتقادي هو معيار التقويم السليم لتلك المرحلة من حياتنا السياسية التي كان فيها كمال جنبلاط اللاعب الأول على مختلف المستويات..فالمسألة ليست حول العلاقة مع سوريا أو حول صداقة أو عداوة سوريا وقد أجمع اللبنانيون انه لا حياة للبنان في عداوة مع سوريا، كما أجمعوا على أن لبنان لا يحكم من سوريا كما لا يحكم ضد سوريا .. فهل كان جنبلاط جاهلاً بهذه المعادلة ؟ المسألة باعتقادي كانت وما تزال تتعلق بطبيعة العلاقات مع سوريا، وبموقع ودور سوريا، وبالموقف الصحيح الواجب اتخاذه من أجل خوض الصراع الحقيقي مع العدو الصهيوني ومن أجل حشد القوى العربية وتحقيق الحد الأقصى من التضامن العربي، الأمر الذي يحمي لبنان ويجنبّه الوقوع في الانعزال وفي دائرة الخطر..
ولكن كمال جنبلاط الذي طرح شعار العزل في نيسان 75 عاد فطرح برنامج الإصلاح في آب 75...فجوبه بالتعنت والإنعزال..ثم عاد فطرح تغيير المعادلة (الصعود إلى صنين في مطلع 76) فاصطدم بالواقع العربي-الدولي..فعاد لطرح التوافق الداخلي والتسوية مع الإصلاح في عام 77 ... وهكذا دواليك في حركة دائمة لا تتوقف وإنما تراكم إنجازات على أمل أن يأتي ظرف آخر "مناسب" يسمح "بالنفاذ" في هذا البحر الميت...هذه كانت معادلة كمال جنبلاط..

خاتمة:
"الكشف عن الحقيقة وتحقيقها هو الهدف الذي يستحق وحده أن نعيش له ونسعى إليه في هذا الوجود".
هكذا كتب كمال جنبلاط في "أدب الحياة" (طبعة 1980- ص120)..
ونحن لا نستطيع إلا أن نشارك في عملية الكشف عن الحقيقة وتحقيقها..
والحقيقة البسيطة السهلة الممتنعة التي أخلص إليها هي حقنا في الحلم..
نعم لقد حملنا مع كمال جنبلاط آمالاً وأحلاماً تهتز لها الجبال..
نعم لقد حاولنا وحاولنا ونجحنا وفشلنا...ولكننا لم نيأس..
نعم لقد تعلمنا أن لبنان بلد صعب ولعله فعلاًَ مستحيل..
ولكن ما العمل؟؟
لا يمكن لنا إلا أن نتشبث بالأمل وبالعمل فهما معنى الحياة..
ولا بد لنا إلا أن نتمسك بالوعي وبالتنظيم فهما مبنى النضال..
لن يكون لنا خلاص إلا بالعودة إلى كمال جنبلاط...وأنا أعني حرفياً ما أقول..
جنبلاط القائد صاحب الرؤية ..
جنبلاط الإنسان الزاهد المتواضع..
جنبلاط الصوفي المثالي الحالم...
جنبلاط السياسي الواقعي الفذ..
جنبلاط المسالم الحر النقي..
جنبلاط الصلب الواضح الحاسم..
أي ان خلاصنا هو بالعودة إلى أفكاره ومبادئه الإنسانية وإلى ممارسته العملية الواقعية..