الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

المصادر الإسلامية في دراسات محمد أركون: المشروع، وطرائق التعامل، والنتائج

د. رضوان السيد

ما كان تتبُّع المصادر التراثية الإسلامية التي رجع إليها الأستاذ محمد أركون صعباً. فهي محددة العدد، وباستثناء القرآن الكريم ورسالة الشافعي؛ تتكرر لديه سعةً وضيقاً حسب السياق، لحوالي الخمسين عاماً. وبؤرة تلك المصادر مؤلَّفات مسكويه والتوحيدي ويحيى بن عدي والعامري، من القرن الرابع الهجري. وهذه البؤرة أوالحقبة ( أي القرن الرابع الهجري/ الحادي عشر الميلادي) هي من اكتشاف آدم متز Adam Metz) ) الذي حَضَّر عنها أُطروحةً للدكتوراه نُشرت عام 1922. ولحسن الحظّ فإنّ هذه الأُطـروحة قام بترجمتها في الأربعينيات الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونُشرت في لجنة التأليف والترجمة والنشر( 1947) التي كان يقودها أحمد أمين تحت عنوان: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. وفكرة Metz عن القرن الرابع في نطاق الحضارة الإسلامية هي الفكرةُ ذاتُها التي كان يملكُها مؤرّخو الفكر الأوروبيون عن عصر النهضة. ويدلُّ على ذلك بالفعل أنه يعطيها بالألمانية: Die Renaissence des Islam أي نهضة الإسلام. إنما في الوقت الذي كان فيه محمد أركون يُحضّر أُطروحته للدكتوراه عن نزعة الأنسنة في الفكر العربي، نموذج مسكويه، حوالى أواسط الستينيات، كان يقع تحت تأثيرات متعددة زمانية ومكانية وسياسية وعلمية. في المجال السياسي والاستراتيجي كانت حركات التحرير في أَوجها في إفريقيا وآسيا، وكانت الجزائر تخرج لتوّها من قبضة الاستعمار الفرنسي الطويلة . وقد بدأ الخلافُ وقتها بشأن الإسلام، إذ كان جمهور التحرر في معظمه من المسلمين؛ في حين كان القادةُ من القوميين واليساريين. وفي السوربون المحافِظة وخارجَها الفرنسي، كانت ثلاثة تياراتٍ منهجية وعلمية في تنافُسٍ شديد على المنهجية الأجدى في العلوم الإنسانية: تيار المَدَيات الطويلة الذي قادته مدرسةُ الـ Annales وله عدة رموزٍ بالجامعة أهمُّهم بالنسبة لاختصاص أركون آنذاك كلود كاهن (Claude Cahen) الذي أقبل في الخمسينيات والستينيات على نشر ثلاثة أعمالٍ مهمة: الدراسة عن نشوء الإقطاع في المجال الإسلامي، وقد اعتبر القرن الرابع بداية ذلك التحول الكبير من النظام الخراجي إلى النظام الإقطاعي، والدراسة عن الحركات الشعبية في المدن الإسلامية، وقد وجد أكثر الشواهد عليها في مصادر القرن الرابع وما بعد، والتاريخ الشامل للإسلام وقد ظلّ أركون يحفظُ لكاهن جميلَ الذكرى للإشراف والمُساعدة، ولفرنان بروديل ومدرسة الحوليات أُطروحة المَدَيات الطويلة في التكوينات الحضارية والثقافية على اختلاف المفاهيم بين الباحثين حول الأمرين. والطريف والمؤْسي في الوقت نفسِه أنه تعرض مثل سائر شبان عصره في الاكاديميات للتأثيرين النقيضين لكلٍ من فوكو بقطائعه المعروفة، وليفي شتراوس بأنثروبولوجيات العوامل الخفية وراء الظواهر، وأنظمة الثقافة المادية والذهنية بلا قطائع واضحةً فيها. لقد ظلَّ المميِّز الرئيس في شخصية محمد أركون تلك الحساسية العالية، وذلك النَهَم المعرفي الهائل التطلُّب والاتّساع. وإذا شئنا أن نحدّد مراحل لتطور مشروعه النقدي والاستكشافي؛ فإننا نستطيع ذلك بسهولةٍ من طريق قراءة مقدّماته لكتبه، والمقدّمات الأُخرى لمقالاته المجموعة والمنشورة. وهو في كلٍّ من هذه المقدِّمات يذكر الكتب والبحوث الجديدة التي أثَّرت فيه في شتّى مجالات المعرفة. وأُشدّد هنا على أنّ التأثيرات على أركون في سنوات عمله العشرين الأخيرة هي كتبٌ ودراساتٌ ومقالات، وليست تيارات فكرية ومنهجية. أمّا التأثيرات شبه المستقرّة، والمستمرة منذ الستينيات والسبعينيات فهي المناهج التي ذكرناها، مع التفاتٍ في السبعينيات إلى تيار نقد الاستشراق تحت شعار نقد الأيديولوجيات الكولونيالية، وصناعة الإسلاميات التطبيقية (= الأنثروبولوجيا وفوكو)، وفي الثمانينيات والتسعينيات دراسات فلْسفة الدين، وتاريخية الدين ونقد النصّ. تبنّي مزيج وأمشاج وأخلاط من دراسات نقد الأرثوذكسيات الدينية والقومية، واهتمامٌ متزايدٌ بالمسارات الراديكالية في التغيير، ناجم عن اعتقاده أنّ الأُصوليات الإسلامية المعاصرة هي استمرارٌ بشكلٍ ما لأرثوذكسية العصور الوسطى الإسلامية، والتي أنتجت جموداً وانسداداً ما يزال مستمراً حتى اليوم. وهناك أخيراً ميلٌ متزايدُ لديه في السنوات الأخيرة يعود من خلاله إلى نزعةٍ إنسانويةٍ تستذكر عهده الأول في أطروحته في الستينيات. لكنني لا أريد اعتبار ذلك النزوع مرحلةً جديدةً، بل أرى أنه نوعٌ من اليأس نتيجة ما اعتبره انسداداً في الأُفُق، فعاد أدراجه ليتأمل منافذ للضوء لدى التوحيدي والعامري والصوفية.

-1-
إنّ لدينا إذن لدى أركون- كما لدى أكثر قراء التراث الإسلامي من غير الإسلاميين – اعتقاداً مسبَقاً يتمثل في أنّ الموروثَ الإسلاميَّ بمجمله تحوَّلَ إلى عبءٍ على العرب وعلى المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وأنه ينبغي التحرُّرُ منه كما يقول اليساريون وأشباهُهُم، أوتحريره من طريق النقد والتجاوُز- كما يقول أركون. ومثالُهُم جميعاً في ذلك النهوض والسواد الحضاري والعالمي الأوروبي في مختلف تياراته. فأهل المادية التاريخية هيغليون وماركسيون، والليبراليون مثل محمد أركون إنسانويون وعِلْماتيون، وأكثر التزاماً بالمثال الأوروبي في البحث بمعنى الاهتمام بما حصل في عصر النهضة والأنوار من ظهور رؤيةٍ جديدةٍ للعالم تخرج على رؤيتي الكاثوليكية وأزمنة الإقطاع، وتتبنّى نقد الدين سبيلاً لتحرير العقل، ثم إخراج الدين من نظام الدولة استناداً إلى أولوية واستقلالية الحريات الفردية والحقوق الطبيعية.
ولستُ هنا في مجال قَصِّ مجريات النهوض الأوروبي، ولذلك أعود إلى أركون وأسباب اهتمامه بالتراث الإسلامي أو بمنتجات العقل الإسلامي في الأزمنة الوسطى، وما يقترحُهُ من أساليب للتعامل مع تلك المنتجات لتحرير الحاضر منها، والدخول في الحداثة. فهو يقول إنه أراد دائماً: "إعادة القراءة لتاريخ الإسلام والتراث العربي، اعتماداً على مناهج حديثة تمكّنُ من إلقاء ضوءٍ جديدٍ على التراث، وإبداع مواقف فكرية أكثر ارتباطاً والتزاماً بالفكر العلمي المعاصر" . وقد مَرَّ مشروعُهُ هذا كما سبق القول، بتطورات معرفية كثيرة وكبيرة. فهو في أُطروحته للدكتوراه في الستينيات . وهذه الأُطروحةُ بالذات ينبغي اعتبارُ نصِّها بالذات، وليس مقدّمتها المكتوبة عام 1996 أو 1997، لأنّ المقدّمة تمثّل وجهة نظر أركون في التسعينيات عندما كان قد دخل في أيديولوجيا الانسداد الأُصولي، وضرورة تحطيم الأرثوذكسيات لتحرير " العقل الإسلامي" المعاصر منها. وسأعود إلى هذه المقدمة بالطبع عندما أُعالج المرحلة الثالثة في فكر أركون التحريري.
اعتبر أركون إذن أنّ القرن الرابع الهجري أو جيل مسكويه (الذي أضاف إليه عند نشر الترجمة بالعربية اسم التوحيدي) امثلك نزعةً إنسانويةً تحررية، اتّسمت بسمات ليبرالية إذا صحَّ التعبير باتجاهين: اتجاه الموضوعات المبحوثة في الدين والاجتماع البشري، واتجاه المنهجية، وهي منهجيةٌ عقلانيةٌ ما اقتصرت على الفلاسفة، بل شاركهم فيها المتكلمون بمن في ذلك الأشاعرة مثل الباقلاّني، وليس القاضي عبد الجبّار وحسْب. وقد رجع في ذلك بالطبع إلى كلّ كتب ورسائل مسكويه المطبوعة والمخطوطة، مع اهتمامٍ خاصٍ بكتابه: تهذيب الأخلاق، وتأليفه في التاريخ: تجارب الأُمم، ورسائله: الفوز الأصغر، ورسالة في النفس والعقل، ورسالة في اللذات والآلام، ورسالة في العقل والمعقول. والملحوظ أنه ركّز على الجانب الأخلاقي في تفكير مسكويه، وأعرف أنه نشر فيما بعد رسالةً له في العلوم، كما نشر مقالةً عن الأخلاق والسياسة في تفكير الماوردي. إنما بالإضافة إلى الجوانب الأخلاقية الإنسانوية، هناك اهتمامٌ بارزٌ بتجربة مسكويه باعتباره مؤرِّخاً؛ بل إنه يقدِّمه بوصفه مبدعاً لنهجٍ جديدٍ في الكتابة التاريخية يتجاوز الطبري واليعقوبي والدينوري من مؤرِّخي القرن الثالث.
وما توسَّع أركون في الاهتمام بزملاء مسكويه من مثل التوحيدي والعامري، مع أنّ لأبي حيّان كتاباً مشتركاً مع مسكويه سمّاه " الهوامل والشوامل"، وهو الاسم الذي أطلقه أركون على الترجمة العربية للقسم الأول من آخِر كتبه: الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر. وفي الواقع فإنّ أركون ما اهتمّ للجوانب الأدبية للثقافة العربية والإسلامية في تجربته الفكرية أو الكتابية، وهذا فيما يبدو السبب الذي جعله يُعْرِضُ عن التوحيدي الذي كانت كتبه معروفةً أثناء عمله على أُطروحته، ثم استدرك ذلك فيما بعد، إنما اهتمّ من التوحيدي بالجوانب غير الأدبية مثل التجربة الصوفية والنهم المعرفي وسعة الاطّلاع، والتحرر من التعصُّب الديني، والتهميش لدى أهـل السلطة والنُخَب الثقافية، شأنه في ذلك شـأن مسكويه والعامري . أمّا أبو الحسن العامري فهو مذكورٌ في كتب مسكويه والتوحيدي، لكنّ كتبه الرئيسية: السعادة والإسعاد، والأمد على الأبد، والإعلام بمناقب الإسلام، ما كانت قد نُشرت بعد، وهي تُظهره فيلسوفاً أخلاقياً رفيعاً، ويملك ميولاً غير أرسطية. وقد تابع أركون تطورات المعرفة بتفكير العامري، وكتب عنه وعنها شأنَه مع كلّ جديدٍ في الدراسات حول الفكر الإسلامي، والمعارف الحديثة في العلوم الإنسانية .
وقد ذهب أركون في مقدمته اللاحقة للنشرة العربية للأُطروحة الإنسانوية؛ إلى أنّ الجديد في بحث هذه المسألة ضئيل، وذكر أربع أو خمس مؤلَّفات أو أُطروحات. والواقع أنّ تيار الإنسانويات في الدراسات الإسلامية قديم، وهو يبدأ بمتز الذي ذكرناه واهتمَّ له أركون، لكنه يتتابعُ عبر الاهتمام بالزندقة والزنادقة ما بين القرنين الثاني والرابع للهجرة، إذ يعتبرهم ينبرغ وباول كراوس وماكس مايرهوف وجورج قايدا والآن أورفوي (Urvoy) أُناساً قادوا تيار حرية الفكر، وأسهموا في مكافحة الجمود من طريق الجدال العقلي وإظهار تناقُضات المتكلمين المسلمين في الاستدلال والاختلاف؛ ومن هؤلاء أبو عيسى الورّاق ومحمد بن زكريا الرازي، والراوندي. وكعادته في حقبته الوجودية ما أَهمل عبد الرحمن بدوي هذا النوعَ من الاهتمام، فترجم دراساتٍ لهنري كوربان عن العرفانية والشطح، وعن الحلاّج، وعن الرازي، وابن المقفَّع. ثم كتب عملاً عن الوجودية والإنسانوية في الفكر العربي الوسيط في أواسط الستينيات، أي عندما كان أركون يكتب أُطروحته. ويذكر أركون جوزف فان أس في أعماله منذ التسعينيات ويُثني عليه كثيراً، وبخاصّةٍ على موسوعته في علم الكلام. لكنّ فان أس نفسه كتب دراسةً في الستينيات عن الزندقة والزنادقة، توصل فيها إلى أنّ هؤلاء المساكين ما كانوا في الغالب مانويةً أو مُلحدين، بل هم على الأرجح من ضحايا الجدلات الكلامية المشتعلة في القرنين الثالث والرابع.
إنّ هذا الذي ذكرتُهُ من باب الملاحظة، استدرك أركون أكثره- كما أوضحتُ أيضاً- فيما بعد. بيد أنّ الأهمَّ الرؤية التي كانت تحكم أركون عندما كان يكتب أُطروحته. فهو دون أن يقول ذلك حرفياً، كان يعتنقُ مُثُلَ وقيم النهضوية الأوروبية وعصر الأنوار، وهوكان منزعجاً من السطوة الأوروبية والاختزالية الأوروبية وذلك التهميش للعالم خارج الحضارة الأوروبية. لكنه ما كان يرى مخرجاً خارجَها، وإنما الحلُّ بالعودة إلى مثالياتها ومرجعياتها النهضوية ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ومن ضمن تلك المرجعيات الفلسفة الإغريقية، والعالم الرؤيوي لتلك الثقافة العريقة. ولذا فإنه في ترتيباته لإنسانويات القرن الرابع، يضع التفكير العقلاني لفلاسفة الإسلام في الذروة، وحصيلةُ هؤلاء في نظره آتيةٌ بمجملها من الإغريق، بما في ذلك الرؤى الليبرالية للدين والأعراف والعادات، والغايات الأخلاقية الكبرى للحياة الفلسفية والمتمثلة في السعادة والإسعاد. وهو جَذِلٌ بإغريقيات القرن الرابع- وبدون تفرقةٍ بين الأفلاطوينين والأرسطيين والأفلوطينيين والرواقيين- لأنه وجد في هذا القرن الرائع نموذجاً للتلاقي والتعاشق بين حضارتين، يمكن أن يكونَ نموذجاً لانبعاثٍ حضاريٍّ من جديد قائم على التعارُف نفسه، لكنْ ليس بين حضارة السطوة الأوروبية، وحضارة الإسلام المتنوّر، بل بين التنوير الإسلامي والتنوير الأوروبي ذي القيم العالمية .
وهكذا فإنّ أركون حتّى في الستينيات ما كان مستشرقاً تقليدياً تاريخانياً، بل كانت الاهتمامات الإبستمولوجية قد بدأت عنده. لكنه كان يضعُ أمله في شعبةٍ من شُعَب الاستشراق المتجدّد وهي المتعلِّقة باهتمامات بعض ليبراليي الدارسين بما اعتبروه بزوغاً قصيراً لتنويرٍ إسلاميٍّ ما لبث أن انقضى تحت وطأة حرفيات الحنابلة، ودوغمائيات الأشعرية. وبذلك فقد بدت لديه بذورٌ وجذورٌ للتذمُّر من الجمود والدوغمائية، وقد كان تنويريو القرن الرابع يواجهونهما؛ لكنه لاحظ أنه حتى "غير العقلانيين" من الحنابلة والأشاعرة والفقهاء، ما لبثوا أن أقبلوا على تعلُّم المنطق الأرسطي، وخاضوا في منهجيات الجدال الكلامي الذي كان أسلافُهُم يأْبَونه.
لقد انقلب ذلك كلُّه لديه في مرحلته الثانية، مرحلة الإسلاميات التطبيقية؛ ومع أنه ما استخدم خلالها مصادر إسلامية جديدة، فقد خرج من الاستشراق كلِّه أسئلةً وموضوعاتٍ ومناهج، واستناداً إلى أمرين: مناهج النقد الاستعماري، والدخول في الابستمولوجيات، وقطائع ميشال فوكو. لكنْ قبل الدخول في أُطروحات الإسلاميات التطبيقية وكيف أثّرت في رؤية الإسلام ونصوصه وقراءته، أريد لفْت الانتباه إلى ظاهرةٍ لديه ما أزال متردداً في اعتبارها مرحلةً رابعةً ظهرت في العقد الأخير من السنين. فقد عاد إلى إنسانيات الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، واكتشف هذه المرة يحيى بن عدي والتوحيدي والعامري، بل وعاد أيضاً إلى اكتشاف جوانب جديدة في فلسفة الأخلاق والسعادة عند مسكويه نفسِه. لكنه ما اكتفى طبعاً بذلك فبين إنسانياته الأولى، وإنسانوياته الأخيرة زُهاء الأربعين عاماً. وقد كانت إضافاته إلى المصادر قليلة أو كمية؛ إنما الجديد في إنسانوياته الأخيرة هما الرؤية والمنهج. فالرؤية تقول إنّ الإسلام يواجه انسداداتٍ تاريخية وأُصولية وإحيائية، وإنّ مواجهتها لا تستقيم إلاّ بالجهد النظري الدؤوب لتحطيم الحواجز الدوغمائية والأرثوذكسية، وتحرير الحقيقة القرآنية المتعالية وفكرة الوحدانية ونظامها الأخلاقي الراقي من تراكُمات القرون. ويحصل ذلك من طريق الأنثروبولوديا الدينية المقارنة، والاستعانة بسائر منجزات ومناهج العلوم الإنسانية. وقد ظهرت الإنسانويات التي ذكرتُها في ثلاثة كتبٍ هي آخِر ما صدر له: معارك من أجل الأنسنة، وهي مجموعة دراسات أُلقيت في مؤتمرات، وترجمها إلى العربية هاشم صالح، مترجم كتبه الأُخرى، وصدرت عام 2001. وفي هذه المجموعة تبرز موضوعة الإنسانيات من جديد في الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. أمّا الكتاب الثاني، فاسمه: الأنسنة والإسلام. وقد صدر بالعربية عام 2010، وهو مدخلٌ تاريخيٌّ مقارنٌ كما سمّاه، ولا علاقة مباشرة له بالمصادر العربية والإسلامية، رغم ذكره للأنسنة العربية في القرن الرابع في فصله الأول. إذ إنه يعرض مشكلات نظرية تتعلق بماهية الدين، ومناهج دراسته، ومكانة المثقف في السياقات الإسلامية ومهامّه، ونقد العقل "الفقهي" في الإسلام، وإمكانية التاريخ التأملي للفكر الإسلامي. وأمّا الكتاب الثالث والأخير والصادر مترجماً أيضاً عام 2010 فاسمه: "الهوامل والشوامل، حول الإسلام المعاصر". وهو يتضمن إجاباتٍ على عشرين سؤالاً عن إشكاليات الإسلام القديم والحديث، وكيفيات مواجهتها- وهو لا يختلف كثيراً عن الكتاب الثاني، لكنه أكثر حِدَّةً وإلحاحاً وتعليميةً من الكتابين الآخرين. فلماذا عاد النزوع الإنسانوي إذن إلى فكر محمد أركون وكتاباته في العقد الأخيرة؟ هل لأنه رأى أملاً أومنفذاً في ذلك؟ لايبدو ذلك رغم المقدمات ذات الطابع التعليمي والإرشادي، والتي يعود فيها إلى التاريخ الديني والسياسي. فالانسداد ما يزال مسيطراً من وجهة نظره، لكنّ الإنسانيات عنده (رغم التوحيدي والعامري ومسكويه) هي إنسانيات الحداثة وقيمها العالمية والشاملة. ولذا فإلذي أراه أنّ تلك الرجعة ناجمة عن أمرين: تبلور الظاهرة الدينية الصحوية الإسلامية واستفحالها بحيث ما عاد من الممكن تجاهُلُها أو إلغاؤها وإنما لا بد من الاعتراف بها واستكشاف وسائل لتشخيصها ومعالجتها بالعلوم الحديثة. والأمر الثاني محاولة اشتراع إنسانوية معاصرة مشتركة بين أهل الأديان والثقافات، للتعامل مع ظواهر الصحوة الدينية ومن ضمنها الصحوة الإسلامية؛ بما يذكّر من بعيدٍ بمحاولة هانز كينغHans Küng) ) في العقود الأخيرة. فالمعروف أنّ كينغ الكاثولكي المؤمن من خارج الكنيسة، دعا إلى أخلاق عالمية مشتقة من سائر الديانات وبخاصةٍ ديانات التوحيد الإبراهيمية، وهذا يفسِّر اهتمام أركون بأخلاقيات إنسانوية المسلمين في القرن الرابع. هل في ذلك نوعٌ من اليأس؟ لا، ليس في ذلك يأسٌ أو أنّ أركون يجاهد ضدَّه، وإنما هناك نوعٌ من الأسى العميق، بعد فشل دعواته وأعماله السابقة للتحرر والتحرير، والإصلاح الديني، بحيث دفعه ذلك لإطلاق صرخة باسم الأخلاقيات الإنسانية الشاملة والحضارية في كلّ الديانات، ومنها الإسلام.
-2-
دخل محمد أركون إذن- مدفوعاً بالثورات في العلوم الإنسانية- في سبعينيات القرن العشرين، في مرحلة: الإسلاميات التطبيقية، وهي مرحلةٌ تتميز بأمرين: الخروج النهائي من الاستشراق، والقيام بقراءات أبستمولوجية ولسانية في القرآن الكريم؛ على سبيل الاختبار لعلوم وأساليب جديدة في الدراسات الإسلامية، مختلفة عن أساليب الاستشراق.
كيف حدَّد أركون الإسلاميات التطبيقية، ثم كيف حاول قراءة القرآن قراءةً جديدة؟ يُعرّف أركون الإسلاميات التطبيقية كما يلي: إنها "ممارسة علمية متعددة الاختصاصات، وهذا ناتجٌ عن اهتماماتها المعاصرة ومخاطرها، وكذا المتطلبات الخاصة بموضوع دراستها.." . وهذا يعني تجاوز الإسلاميات الكلاسيكية التي كان المستشرقون ما يزالون يقومون بها، وهي تتناول الجوانب النظرية والعملية للحضارة الإسلامية، ولواقع المسلمين اليوم، وهي تلتزم بالفكر العلمي الحديث، وبخاصةٍ شِقّيه. وقد شرح ما يعنيه بتعدد المداخل والمناهج، فذكر ثلاث مقاربات تتضافرُ ولا تتنافض، وهي: المقاربة السيميائية الألسنية، والمقاربة التاريخية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، والمقاربة التيولوجية . وقد علَّلَ أركون تعددية المقاربات أو المناهج بأنّ "العقل الإسلامي" الذي يُصرُّ عليه في المصطلح والتطبيق، ليس نتاج النصوص وحسب؛ بل هو نتاج الممارسة في كلّ تمظهُراتها الحياتية. وهذا يشمل المكتوب منذ النصّ الأول، كما يشمل الشافعي والممارسات الشعبية، ويشمل المخيال بشتّى تعبيراته، كما يشمل المهمَّش والمنبوذ واللا مفكَّر فيه. فحقيقةُ العقل الإسلامي لا توجد في الخطاب الرسمي وحسْب، وإنما وبالخصوص في الإسلام الشعبي والمُعارض والمتعدِّد. وضمن هذا الإطار وضع أركون ما يسمّيه بالمفاهيم الثلاثة: المفكَّر فيه، واللامفكَّر فيه، والمستحيل التفكير فيه .
وقد كتب أركون، ووضع مشروعاتٍ كثيرة لقراءة القرآن، والتراث الإسلامي المكتوب، وجمع بحوثه حول القرآن أو خُلاصاتها في كتابٍ، كما فعل بعدة سُوَرٍ قرآنيةٍ مثل العَلَق، وألم نشرح لك صدرك، والضحى، وسورة براءة، وسورة الكهف. وقال في مطلع قراءته للفاتحة إنه استرشد بخمسة مبادئ : أن الإنسان هو بمثابة مشكلةٍ محسوسة لدى الدارس والمراقب- وأنّ على الباحث أن يعي الواقع بدقةٍ هي من مسؤوليته وحده- وأنّ معرفة "الواقع" هي مجازفةٌ مستمرةٌ لأنها عملية "خروج متكرر" على حدود الإغلاق الذي يفرضه كل تُراثٍ ثقافي- وأنّ على الباحث عدم التوقُّف عند حلٍ محدَّد مهما كانت النتائج كبيرةً، لأنّ مساره كالصوفي الذي لا يعرف الاستقرار في رحلته إلى الله. وكما طبَّق هذه المبادئ في ظلّ المقاربات الثلاث السالفة الذكر على سورة الفاتحة ضمن توتُري الشفهي والمكتوب، والمتلقَّى والمتلقِّي؛ فعل الشيئَ نفسه في قراءته لسورة العَلَق، مع التركيز على مسألة الوحي وماذا تعنيه دينياً وفي الديانات الإبراهيمية، وفي قراءته لسورة التوبة أو براءة وماذا تعنيه من الناحية اللاهوتية والقانونية. لكنه وهو يفعلُ ذلك لا يقتصر على القرآن أوعلى نبذ التراث التفسيري الإسلامي، بل ينطلقُ كعادته في سياحةٍ واسعةٍ تتناول المقدَّس الديني لدى الديانات التوحيدية، كما تتناول معنى الكتاب المقدَّس أو المنزَّل، وتتناول مسائل المخيال والأُسطورة والعجيب والمُدْهش، لتعود للحظة الأنثروبولوجية والأصل البدئي، دونما إهمالٍ للجوانب اللغوية واللسانية التي يعطيها أركون أهميةً استثنائية، إن بقيت أدواتٍ للفهم، وليست مقصودةً بحدّ ذاتها. فالمقصود الاعتصام بالمنهجيات الحديثة، وكيف تُسهمُ في تفتيح النصّ، وفي كشف اللامفكَّر فيه، وفي ضرب أو تجاوُز القراءة الكلاسيكية أو الأرثوذكسية . لكنْ إذا كانت مقاربتُهُ لسورة براءة (وآيات الجهاد والسيف والإقصاء والإلغاء فيها) تتّسم بقسوةٍ ظاهرة؛ فإنّ قراءته للفاتحة شديدة الودّ، وقراءته لسورة الكهف تفتح على عوالم ذات روعةٍ وسحرٍ بالفعل. وإذا كان خصومَهُ في السنوات الأولى من إسلامياته التطبيقية هم المستشرقون؛ فإنّ خصومُهُ في القسم الثاني من هذه المرحلة، أي بين أواسط الثمانينيات وأواسط التسعينيات هم أهلُ التقليد الإسلامي أو الإسلام الرسمي أو الأرثوذكيات أو أهل السنة. ففي كل مسألة من مسائل التفسير القرآني، يقدّم الرجل بمقدمة يحمل فيها على التفسير التقليدي، ويتهمه بظُلم النصّ القرآني أو خَنْقه أو تشويهه، ثم يعمد إلى جولةٍ أنثروبولوجية وسيميائية وفي رمزيات الدين وأخلاقياته، ليخرج بعدها بنتائج ليست مفاجئةً كثيراً، لكنه يعتبرها تحقيقاً متقدماً لتطبيقياته الإسلامية.
وفي أواخر الثمانينيات، وعندما اشتدّت عليه الضغوط والتساؤلات المتعلقة ببرامجه لإعادة كتابة تاريخ للفكر الإسلامي، عمد لتقسيم تاريخ ذاك الفكر إلى خمس مراحل : مرحلة البزوغ، ومرحلة التبلور والسواد أو الاستتباب، ومرحلة النضج والثبات، ومرحلة الاجترار والتكرار، وأخيراً مرحلة الانكفاء والتقوقُع. ولذا فإنّ على "العقل الإسلامي" خوض معركتين اليوم؛ الأولى في مواجهة القطيعة السلبية التي حدثت مع التراث الإسلامي الفلسفي والعقلاني والإنسانوي. والثانية في استدراك التأخر الذي أصاب ذلك العقل مقارنةً بعقل الأنوار الأوروبي وما بعد. وهاتان القطيعتان المؤلمتان ما تزالان مهمَّشتين أو في نطاق اللامفكَّر فيه، لأنّ ما قام به الأيديولوجيون القوميون هدفُهُ إحياء الشخصية العربية، وليس الانخراط في دراسة تاريخية نقدية تعتمد المقارنة بين مختلف الحضارات التي عرفها حوضُ البحر المتوسط، ولأنّ ما قام به الإسلاميون قصد إلى إثبات تمامية الفكر الإسلامي القديم بصيغته الأرثوذكسية، بقصد تحريمه وتقديسه وتأبيده. وما يقصد أركون إلى إنجازه الاشتغال على العقل باعتبار أنّ له تاريخاً وصيرورة تاريخية، فهو يتحول ويتغير عبر العصور، وبحسب إمكانيات كل عصرٍ وأدواته العلمية أو التقنية. ولذا يمكن الحديث في المرحلتين الرابعة والخامسة من تاريخه عن التفاوت أو الفوات، لتصنيف الواقع بدقة، والاندفاع إلى تغييره بالمقارنة بين مصائر ضفتي المتوسط. وهذا تحقيبٌ أو توجيهٌ أبستمولوجي لا يلجأ إليه أركون في العادة ابتعاداً عن التصنيفية التي لا يريدها؛ لكنه كما قال، أراد استحثاث المسلمين على النهوض من أجل تحقيق الثورات العلمية والمفهومية، كما حصل في الغرب .


-3-
بحسب تحقيب أركون لتاريخ الفكر الإسلامي؛ فإنّ المرحلة الثالثة من ذاك التاريخ، بعد القرن السادس الهجري؛ شهدت سيطرةً أيديولوجية ودوغمائية لأهل السنة، أو للتقليد أو للأرثوذكسية، والتي تميزت مرحلتاها الرابعة والخامسة بالاجترار والتكرار، وبالانكفاء والتقوقع. ولذا فقد انصرف أركون منذ أواسط التسعينيات، وبعد أن أعدَّ العُدَّة المعرفية لذلك طويلاً لمناطحة الأرثوذكسية الإسلامية رجاءَ تحطيمها لتخليص المسلمين من هذين الفواتين أو التفاوُت: التفاوُت والانحياز تُجاه التيارات العقلانية والصوفية والفِرَقية في الإسلام القديم، والتفاوت أو الفوات تُجاه الأزمنة الحديثة والمعاصرة.وخلال هذه المرحلة أضاف إلى مخاصمته للأرثوذكسية، مخاصمة الحركات الأُصولية الإسلامية، باعتبار أنّ الأرثوذكسية الدوغمائية استمرت من خلالها بواسطة التأصيل، وباعتبار أنّ تلك الأصوليات والإحيائيات تستخدم النصوص الدينية لفرض تفسيرات تُعادي العقل والتقدم وإقامة علاقات صحية مع عالم العصر وعصر العالم.
وما شهدت هذه المرحلة – الثالثة- استخدام مصادر إسلامية جديدة لديه باستثناء رسالة الشافعي في أصول الفقه، والتي أقام عليها أُطروحته حول تكوُّن الأرثوذكسية وتجذُرها. ولذلك فقد اهتمَّ في هذه المرحلة أكثر بالتكونات أو المدارس الفقهية الإسلامية، ومعنى المدوَّنة القانونية في الدين ( عند أهل الكتاب)، والفروق بين النصّ المقدَّس، والمدوَّنات الفقهية أوالقانونية. وهو يستعين بعد علم الدين المقارن، والدراسات الحديثة والمعاصرة عن الدين والمؤسسة الدينية؛ بالدراسات الحديثة عن الفقه الإسلامي، كما سبق له أن استخدم الدراسات الحديثة عن علم الكلام الإسلامي. إنما في حالة علم الكلام، فإنه يرجع أحياناً إلى نصوص مثل مقالات الإسلاميين للأشعري، والملل والنحل للشهرستاني. أمّا في حالة الفقه والفقهاء؛ فإنه لا يرجع بعد رسالة الشافعي لأيّ مصدرٍ فقهي؛ بل إلى شاخت ويوهانس. وآخرين من المستشرقين المحدثين. إنما وهو يشرح تكوينات الأرثوذكسية حتّى الفقهي منها، يذكر بعض أعمال المفسِّرين الأرثوذكس كما يسمّيهم مثل الطبري وفخر الدين الرازي وابن كثير. ورغم حملاته الشديدة على أهل الحديث والسلفيين؛ فإنه لا يرجع لكتبهم؛ بل إلى أعمال لاووست وجورج مقدسي عنهم. وإذا كان قد دافع عن أُطروحته أو مصطلحه للعقل الإسلامي بأنه لا يقصد به التخليد أو التأبيد بل التحول والتغيُّر وسط الشروط التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية؛ فإنه لا يُظهر أيَّ مرونةٍ بالنسبة للأرثوذكسية التي تعني عنده الدوغمائية والجمود في شتّى النواحي. وهي تشكّل عنده مثلَّثاً لا منفذ فيه أو منه مكوَّناً من رجال الدين ورجال السلطة وجمهور العامة. ولا راحة وسط هذا الهرم الهائل الذي استمرّ لقرابة الثمانمائة عام إلاّ من طريق هُوامات الصوفية، وانشقاقيات وأساطير بعض الفِرَق الخارجة على أطروحات السواد الأعظم على شكل هرطقات ساذجةٍ أو سحرية. ومع أنه يذكر الأرثوذكسية الشيعية أحياناً ويقول إنها تستدعي تحطيماً أيضاً، لكنه لا يقوم بنفسه بهذه المهمة؛ بل يذهب أحياناً إلى أنّ أمرها أسهل تارةً لأنها قِلّةٌ قليلة، وطوراً لأنّ لديها نزوعاًَ عرفانياً، أو لأنّ الحركية الاجتهادية مستمرةٌ لديها في الكلام والفقه لميولها الاعتزالية القديمة، ولاحتجاجيتها التاريخية على الأرثوذكسية المقابلة والطاغية وهو في حَمْأة هجومه على الأرثوذكسية، تُفارقُهُ نقديته المعهودة، فيصدّق بدون ترددٍ أنّ نهي المتوكّل عن الجدال في الدين والذي أنهى محنة ابن حنبل، قضى على الاعتزال وتيارات العقل جميعاً، وأنّ العقيدة القادرية- وهي بيانٌ سلطويٌّ سُنّيٌّ سلفيٌّ من مطلع القرن الخامس الهجري- سيطرت على العالم الإسلامي طوال الف عام! فالتفاوتُ أو الفوات التاريخي في الحقيقة وبشقّيه تجاه التاريخ وتجاه العصر، إنما هو وقْفٌ على أهل السنة، ولذا فإنّ مصائر الإسلام متعلِّقةٌ بهم فإمّا أن يتداركوا الفواتين، أو يتحطم الإسلام في مواجهة العالم والعصر، وهو الآن على أيّ حالٍ مشكلةٌ عالمية. وهكذا فإنّ محمد أركون يعود من حيث لا يشعر (بل ربما كان واعياً بذلك لأنه يذكر أُطروحة غاستون فييت التي تنسب ألفية الانحطاط إلى الأشعرية السنية التي قضت على التيارات العقلانية) إلى الاستشراق الكلاسيكي الذي خرج عليه في السبعينيات، فيستعير أُطروحته بشأن الانحطاط، لكنه يُضفي على ذلك شواهد جديدةً من علم الدين المقارن، ومن البحوث اللاهوتية البروتستانتية والكاثولكية المعاصرة، بيد أنّ سنده الرئيس في القياس أو التوازي أو المحايثة، هو أنّ علة المسلمين الرئيسة أنهم ما قاموا بإصلاحٍ دينيٍ يُخرج من الدوغمائيات اصطنعه البروتستانت في القرن السادس عشر وما بعده، ثم التحق بهم الكاثوليك في القرن العشرين.
وهناك مسألةٌ أُخرى بالغة الأهمية تتعلق بالإسلام المعاصر أو بالإحيائيات والأصوليات في الإسلام المعاصر. فقد تأخر الأستاذ أركون إلى منتصف الثمانينيات حتّى تنبَّه إلى وجود الإحيائية الإسلامية وأُصولياتها. وهو عندما اكتشف ذلك أخيراً علَّل الأمر بسرعةٍ في البدء قائلاً إنّ ظهورها يعود إلى تفويت إجراء إصلاح ديني راديكالي مثل الإصلاح البروتستانتي. ثم عاد في التسعينيات للقول إنّ الأرثوذكسية السنية ما تزال مستمرةً وقويةً، والأصوليات هي التعبيرات الأرثوذكسية القديمة والباقية في مواجهة الحداثة ورفْضها بكلّ سبيل، لأنها تنتمي إلى عالم القرون الوسطى! وهكذا فإنّ المسوؤل عن الأصولية أيضاً هو الإسلام الأرثوذكسي، الذي يختزل الماضي بما في ذلك القرآن، ويقف في وجه الحاضر والمستقبل، حاضر المسلمين ومستقبلهم، وحاضر العالم الذي يعيشون فيه ومستقبله.

وما أنجز الأستاذ أركون قراءةً شاملةً للفكر الإسلامي الوسيط أو الحديث والمعاصر، لكنه وضع الكثير من الخُطاطات والبرامج، وذكر بعض الأمثلة والأُمثولات. واستناداً إلى ظهور المصطلحات الجديدة لديه استنتجنا وجود مراحل ثلاث في تفكيره وكتاباته هي: مرحلة الاستشراق المتنوّر- ومرحلة الإسلاميات التطبيقية- ومرحلة مصارعة الأرثوذكسية والأُصوليات. وقد ذكرتُ من قبل أنه في العقد الأخير، وتحت وطأة "الاختناق" كما قال، نتيجة استمرار سطوة الأرثوذكسية؛ فإنّ الإنسانويات والعقلانيات من القرن الرابع، وإنجازات ابن رشد وابن خلدون وحتّى صوفيات الغزالي (أحد الأرثوذكس العُتاة من قبل لديه ولدى الجابري) استعادت بعض الذكر والقيمة، لكنْ ليس باعتبارها سبيلاً لانفتاحٍ من نوعٍ ما؛ بل لأنها تُظهر وجود شخصيات غير أرثوذكسية داخل الإسلام، ولأنه يمكن- حتى من وجهة نظر المناهج الحديثة- أن تكون بيئةً لدراساتٍ إيجابية بالشروط التاريخية طبعاً. وشأن الغزالي وابن رشد مع الأستاذ أركون مثل شأن المستشرقين الذين لعنهم في السبعينيات والثمانينيات حتّى الثمالة، ثم عاد منذ قرابة العشرين عاماً لذكرهم والثناء عليهم وذكْر أُطروحاتهم حتّى الغريب منها والنافر في حواشيه وأحياناً في متونه. لكنه ما أعاد النظر في اُطروحاته بشأن الاستشراق الكلاسيكي، ولا بشأن المستشرقين الجدد من المراجعين الراديكاليين .
***
لقد كانت مهمةُ هذا الاستطلاع التعرف على المصادر الإسلامية ووظائفها في مشروع الراحل الأستاذ محمد أركون وكتاباته. لكنْ تبين لنا أنه باستثناء المرحلة الأولى، حيث كان ما يزال يعمل من ضمن التقليد الاستشراقي؛ فإنه بخلاف الجابري وحنفي، اللذين قدما أُطروحاتٍ شاملةً في قراءة التراث الإسلامي، ما اعتمد على المصادر الإسلامية، وإنما استخدم أُطروحاتٍ حديثةً ومعاصرة من قراءاته في الإبستمولوجيا وفلسفة التاريخ والأنثروبولوجيا وفلسفة الدين واللاهوت. وما ذكر بعض الاصول التراثية إلاّ من أجل الاستشهاد أو التدليل على تلك الأُطروحات؛ من مثل قراءته لبعض السُوَر القرآنية، ونقده لبعض المفسِّرين، وقراءته لرسالة الشافعي باعتبارها مؤسِّسةً للأرثوذكسية السنية.
وهكذا فإنّ الأستاذ أركون ما احتاج إلى استخدامٍ كثيفٍ للمصادر الإسلامية لأنه ما أراد كتابة تاريخٍ ثقافيٍ أو اجتماعيٍ أو سياسيٍ أو ديني للإسلام الوسيط. وإنما كان يملك نهماً معرفياً غلاّباً، وإرادةً قويةً في الإصلاح والنهوض، وقد استخدم من أجل تحقيق هدفيه التحريري والتحرري (وهما متلازمان) عُدَّةً معرفيةًهائلةً من منتجات الثورات العلمية الحديثة في الدراسات الإنسانية. وقد تعلّمْنا كثيراً في شبابنا وكهولتنا من مقدمات كتبه ومن برامجها الثورية والإصلاحية. وسنظلُّ نذكر له ذلك، كما نذكر له عذوبته وصبره ونزاهته على المستوى الشخصي والإنساني. لكنْ ليعذرني رحمه الله، وليعذرني الزملاء الآخرون من رجالات النقد الراديكالي والمراجعات الثورية. لقد قضوا أربعين عاماً في القول والتكرار أنّ الإسلام هو المشكلة، بينما قضى خصومهم الإسلاميون خمسين عاماً وأكثر وهم يقولون: الإسلام هو الحلّ! والذي أراه أننا نعاني في حاضرنا من مشكلاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ هائلة، بيد أنّ الإسلام ليس هو الذي تسبّب بها، كما أنّ ديننا الذي لم يتسبَّبْ بها، لا يملكُ لها حلاًّ.