بقلم الدكتور سمير مرقس- القاهرة
لم تشأ سنة 2010 أن تودعنا دون أن تترك جرحا نافذا فى جسد الوطن. جرح جديد فى سلسلة العنف الدينى الذى عرفته مصر منذ مطلع السبعينيات واتخذ أشكالا متنوعة، تارة موجها إلى الأقباط، وتارة موجها إلى السلطة برموزها المختلفة فى مستوياتها الهيكلية المختلفة، وتارة ثالثة ضد الأجانب، وتارة رابعة ضد المواطنين فى العموم.وفى بعض الأحيان كان العنف يستهدف كل ما سبق معا فى أوقات متزامنة. بيد أن حصار العنف منذ سنة 1997، لم يمنع من تكرار هذه الأحداث مرات قليلة منذ ذلك التاريخ وإلى ما قبل عامين. إلى هذا الوقت كان مصدر العنف وأهدافه معروفا. وجاءت تهديدات القاعدة منذ ثلاثة شهور بعمل أعمال عنف ضد الأقباط حصرا. وأظنها كانت انعطافة، ساهم فى تداعياتها سياق داخلى ليس فى أحسن حالاته.. كيف؟
التهديدات ودلالاتها الرمزية
بالرغم من أن كثيرا من رموز القوى الوطنية قد أدانت هذه التهديدات، كما حددت بعض هذه الرموز وبعضها إسلامى التوجه أن العلاقات المسيحية الإسلامية المصرية هى شأن داخلى، حدودها هى حدود الوطن المصرى ولا ينبغى أن تتجاوزها. وفى نفس الوقت صرح البابا شنودة تصريحه المهم بأن الله هو الذى يحمينا، من جهة، وتقليل البعض من جدية تهديدات القاعدة، من جهة أخرى.
أقول وعلى الرغم من المواقف المبدئية السابقة إلا أنه لم يتم الالتفات إلى ما يمكن تسميته الدلالات الرمزية لتهديدات القاعدة، وأولها هو دخول القاعدة طرفا فى التعاطى مع الشأن القبطى من جهة، وفى علاقة الأقباط بالمسلمين فى مصر من جهة ثانية. الدلالة الثانية هى سحب هذا الشأن إلى خارج حدود الوطن وهو ما يخدم كثيرا من الأطراف والتى قد تكون متعارضة مع بعضها وإضفاء الشرعية لتدخل عابرا للحدود للعديد من الأطراف. ثالث هذه الدلالات هو إشاعة مناخ من الخوف والترقب من العمليات الإرهابية سواء جرت أو لا.
أما الدلالة الرابعة والأخيرة فهى التوجس الذى يتولد لدى الأطراف من بعضها البعض فى ظل تهديدات عابرة للحدود قد تجد من يتلقفها فى الداخل ويضعها موضع التنفيذ. وفى المحصلة كيف يصب كل ذلك فى تحريض كثير من الأطراف على الإقدام على وضع تهديدات القاعدة موضع التنفيذ سواء بالتعامى أو التدعيم أو باتخاذ مواقف حادة نقيضة ردا على التهديدات. وفى كل الأحوال يتحقق الهدف من التهديدات.
الواقع الدينى المتصلب
واقع الحال جاءت تهديدات القاعدة فى لحظة تاريخية يمكن أن نصف فيها الواقع الدينى المصرى «بالتصلب». تصلب ناتج عن مسيرة تاريخية من التوتر تعود إلى سنة 1970 من جانب، وتصلب ناتج من تفجر حدث فى الصيف الماضى فى سنة بدأت ملتهبة بمذبحة نجع حمادى كان من نتيجتها أن وصلنا إلى الحد الذى يعلن فيه طرف الاستعداد لـ«الاستشهاد»، ويقابل هذا الإعلان جاهزية الطرف الآخر لـ«الجهاد».. يجرى هذا فى ظل سجالات فضائية لم ندرك آثارها المدمرة تروج لمقاطعة الأقباط من بعض المسلمين وبين حالة يغلب عليها الاستغناء عن الآخر من قبل بعض الأقباط. وعبارات تطلق من هنا وهناك لا تقيم اعتبارا للمشاعر وحق الحياة المشتركة على مدى قرون،كما لا تقيم وزنا للعلم والمعرفة وللحقائق التاريخية وللمصالح الحياتية.
إنه التفكيك الناعم كما كتبنا مرة ساهم فى صنعه المتشددون، باعد بين المسلمين والمسيحيين نتيجة تأخرنا فى معالجة تداعيات التوتر الدينى فى مصر.. الأمر الذى أدى بالمتشددين من المسيحيين والمسلمين إلى تناسى أى مشترك إيجابى بينهما.. وعمل المتشددون من الفريقين على الانقطاع عن أى موحدات تجمع بينهما.. ونُقل العتاب والحساب والمساءلة بين الطرفين إلى الإعلام بخطاب يتضمن مفردات تستعيد أجواء ١٩٨١.. أجواء أليمة عشناها.. وكم هو محبط أن يعيش المرء أجواء مؤلمة ــ متوترة مرتين فى عمره..
تعثرات داخلية وتغييرات إقليمية وتحركات إسرائيلية
فى هذا السياق جرت انتخابات برلمانية لم تستطع بحسم أن تسهم فى حل فيما يتعلق بالعلاقات المسيحية الإسلامية نحو تحقيق الاندماج السياسى وحل ما هو معلق. وفى نفس الوقت شهدت نفس الفترة نزوعا معنويا وماديا فى المنطقة من قبل العديد من الأطراف نحو الانفصال بالإضافة إلى المحنة العراقية. وأخيرا إدراك ما أعلن رسميا من قبل قيادات إسرائيلية أمنية عن كيف أن الإستراتيجية الإسرائيلية معنية بإفساد العلاقات المسيحية الإسلامية فى مصر.
كلها عوامل تداخلت فيما بينها يسرت فى وضع تهديدات القاعدة موضع التنفيذ سواء مباشرة أو بالنيابة.
والسؤال ما الحل؟
أظن أن الغضب الذى يملأ الأقباط والألم الذى يملك المسلمين جراء ما حدث ليلة رأس السنة يمكن أن يكون بداية جديدة..
دفاعا عن الحياة المشتركة فى ظل الدولة الحديثة
«يجب الدفاع عن الحياة المشتركة»؛ دعوة طرحتها من قبل وأعود لأطرحها مجددا. وأضيف إليها أيضا «يجب الدفاع عن الدولة الحديثة»؛ والتمسك بها والانطلاق من مبادئها التى تقوم على المواطنة والمرجعية الدستورية والقانونية التى توفر العدل للجميع. وأظن أننا نحتاج إلى أمرين هما:
الأول: آنى عملى يقوم به يشترك فيه مسلمون ومسيحيون «معا»، فى رفع المعاناة عن المصابين وأسر القتلى من خلال أمور عملية من علاج وإعانة وتقديم خدمات. وأضع هنا فكرة أبداها أحد الأصدقاء من المسلمين فى أن يحضر المسلمون صلاة قداس العيد الأسبوع القادم فى كل كنائس مصر حماية لها من أية تهديدات.
هذا بالإضافة إلى البدء بأعمال ذات طابع مدنى مشترك تواجه المشاكل الحياتية التى تتهددنا دون تمييز.
الثانى: يأخذ بعض الوقت، فمن ناحية فتح حوار يعترف بأن هناك أزمة وعلينا معا تجاوزها.. فالحوار هو البديل الوحيد المنطقى والعقلانى والحضارى الذى يجب أن يتبعه أبناء الوطن الواحد.. حوار لا يقتنص فيه كل طرف هنة لدى الطرف الآخر كى يكسب جولة أو ينتصر فى معركة.حوار يبدأ بالنقد الذاتى لكل طرف.. فالعلاقة حتى تصح لابد أن تبدأ بأن يرى كل طرف ما قصر فيه تجاه الآخر.. وما الذى يؤلم الآخر كى يتجنبه ولا يكرره. ومن ناحية ثانية أظن أن المعاناة المجتمعية المشتركة يجب أن تكون دافعا لالتئام المواطنين المصريين من المسلمين والمسيحيين من أجل مستقبل أفضل.. فالحياة المشتركة بين أبناء الوطن الواحد تقوم على التكامل لا التقابل.. وعليه:
يمكن اشتراك رجال الأعمال من المصريين المسلمين والمسيحيين فى تمويل مشروعات مشتركة ثقافية اجتماعية وتنموية تصب فى اتجاه مواجهة المشاكل المجتمعية المتعددة،تأسيس فورى لوقفية باسم «الحياة المشتركة» تعنى بالحضور المصرى: المسيحى الإسلامى المشترك من خلال نشاطات فنية وأدبية وثقافية، كما تسعى بالتعريف بكل الأنشطة الحكومية والمدنية التى تستوعب الجميع، كما تؤسس لموقع إلكترونى يدعم الحياة المشتركة بين المصريين.
تضمين المشروعات التنموية مثل مشروع الألف قرية الممول من الحكومة، أو المشروعات الممولة من المجتمع المدنى بمكون يتعلق بالتكامل الوطنى والاندماج عمليا.
الخلاصة نحن فى حاجة إلى تجاوز ليلة رأس السنة الدموية بصياغة مشروع مشترك يقوم على تجديد رابطة المواطنة وتفعيل الشراكة الوطنية بين المصريين.