الثلاثاء، 8 فبراير 2011

من أوراق ثورة 25 يناير

تقدير موقف
طارق البشري

(1)
نحن نبحث الآن في الأوضاع السياسية والدستورية للأحداث التي نعيشها، ولما نحن فيه من حراك شعبي ثوري عميق، نرجو البقاء له والاستمرار.
وإن الوضع السياسي هو أساس النظر في الوضع الدستوري والقانوني، وإن الوضع السياسي الذي استجد حتى الآن ويستجد في الأيام التالية ــ إن شاء الله ــ يكون هو أساس النظر في التشكيل الدستوري المطلوب والاختيار بين البدائل القانونية المتاحة والتي تظهر، وإن الوضع السياسي الجديد لا يزال يستخرج طاقته وقوته.
الوضع السياسي الحاضر الذي استجد، هو اننا في حالة ثورية شعبية عميقة، وهي أشمل وأعمق مما مر بنا في عشرات السنين الماضية، من حيث الانتشار الشعبي والحماسة واستخدام أكثر أساليب العصيان المدني شمولا وتحضرا، ونرجو لها طول النفس وأن يوسع الله لها شمولا شعبيا وانتشارا في أقاليم مصر ومدة طويلة متتابعة الحلقات والأيام حتى تؤتي كل ثمارها لشعب ما أروعه وما أكثر ما يستحق من خير.
وهذا الحراك الشعبي لا يزال يضغط على أجهزة الدولة وأدواتها، ولم يتمكن بعد من بلوغ غايته في تعديل أركانها وقوائمها، وهو حراك لا شك يجد صدى تعاطف في داخل أجهزة الدولة وبين شرائح العاملين فيها وعند أجنحة من القائمين عليها، وهذا التعاطف على أسس من التوجهات الوطنية والرشيدة هو مما قد ييسر السبل لتشارك حميد، وأن أجهزة الدولة المصرية كانت دائما مكونة من مصريين لا ينفصلون عن عامة المصريين في أوضاعهم الثقافية والحياتية والاقتصادية، وما أكثر من يستجيبون لتيارات الشعب المصري من بينهم لولا الخضوع الرئاسي للأجهزة الإدارية.
وهذا الحراك الشعبي الثوري العميق يشيع أثره الحميد بين عامة المشتغلين لأجهزة الدولة العسكرية والمدنية في انجذابهم لحركة الشعب في مواجهة القلة التي سيطرت ولا تزال بقاياها مسيطرة على أجهزة مهمة في الدولة في عهد الرئيس حسني مبارك، خاصة هذه الجماعة التي اقتحمت جهاز إدارة الدولة في السنوات العشر الأخيرة، وعاثت فيه فسادا وإفسادا وهدما وتفكيكا، وهم على التحديد ممن سموا انفسهم رجال أعمال وقيادات في الحزب الوطني ولجنة السياسات به وغيرهم.
والحاصل ان ما حدث حتى الآن ــ أي حتى كتابة هذه السطور ــ أن الحركة الثورية قد انتجت الاطاحة العقلية بعدد من رجال هذه الشريحة من رجال الأعمال ولجنة السياسات وقيادات بالحزب الوطني وانصار لجمال مبارك، وهم من كانوا سيطروا على رأس الدولة المصرية بمباركة ودعم من رئيس الجمهورية وحماية منه، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث خلت لهم الأجواء تماما بغير مقاومة من القيادات الأخرى بجهاز الدولة.
كما أن هذه الحركة الشعبية انتجت الإضعاف الظاهر للنفوذ السياسي لجهاز الشرطة، وتكاد تكون قد أبعدت أثره، لا من حيث وظيفته في حماية الأمن، ولكنها أضعفته وقلصت دوره السياسي الذي كان نما واستفحل بين أجهزة الدولة المصرية خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. كما ان هذه الحركة أعادت للقوات المسلحة المصرية مكانتها السياسية التي كانت لها قبل عصر مبارك.
وإن ما حدث حتى الآن عند كتابة هذه السطور لم يصل بعد أثره شبه المتحقق إلى أكثر مما أشرت إليه، وهذا قدر من الانجاز لا بأس به ويستحق التقدير الكبير، لأن ما تعرضت له مصر في السنوات الأخيرة كان اشبه بمرض عضال، وكان من شأن بقائه أن يميت من يبتلى به، ولكن هذا الانجاز غير كاف لانقاذ مصر والخروج بها من حالة الوهن التي لحقتها، وهو انجاز لا يكفي لتحصين المجتمع المصري من مخاطر ان تلحقه نكسة هذا المرض العضال. ونحن بحاجة ماسة وملحة إلى مزيد من المنجزات الشعبية لبناء نظام جديد يحصن مصر من أمراض حكم الفرد المطلق وشخصنة الدولة والعزلة والبيروقراطية عن المجتمع، ويعيد إلى جهاز الدولة المصري وإلى المجتمع القدرة على النهوض الحر واسترداد الإرادة الوطنية.
ويكفى دليلا على أهمية تحصين جهاز الدولة والمجتمع ضد أمراض الاستبداد والشخصنة التي فتحت الطريق لسرقة الدولة المصرية لعشر سنوات أو أكثر من رجال هم أشبه بالعصابات التي تتسمى باسم رجال الأعمال وبمن سموا انفسهم من الساسة بأصحاب «الفكر الجديد» الذين يمثلهم جمال مبارك، يكفي دليلا على أهمية هذا الهدف، ان العصابة التي سمت رجال أعمال وأصحاب فكر جديد (لجنة السياسات في الحزب الوطني) بلغ فجورها في الدفاع عن مكانتهم في أجهزة الدولة ضد الحركة الثورية القائمة الآن، انهم سحبوا الشرطة من مدن مصر الكبيرة وفتحوا السجون لإخراج الأشقياء منها بما يشمل ذلك من احتمالات تخريب وتدمير وإشاعة للفوضى الكاملة الشاملة. وهذا أمر لم نعرف له مثيلا لا في تاريخ بلدنا ولا في تواريخ البلاد الأخرى، وهو ان تتخلى دولة عن وظيفة حماية المجتمع وتطلق المجرمين على الأهالي جميعا، كما حدث في يوم الجمعة 28 كانون الثاني/ يناير سنة 2011، وهي كذلك بعد ان سحبت الشرطة وجمدت قوات الجيش في المدن اطلقت في 2 فبراير «بلطجية» يقتلون المتظاهرين في ميدان التحرير. وأنا اسأل أي قارئ وكل قارئ، هل عرف جماعة حاكمة تملك زمام دولة سحبت الشرطة وجمدت الجيش وأطلقت عصابات بلطجية ضد شعبها؟ انها حكومة ودولة ما كانتا تعبران عن طبقة اجتماعية ذات مصالح اقتصادية مستقرة وثابتة، بل كانتا تحت سيطرة ما يشبه العصابة من النهابين السلابين. فلا عجب ان يفهموا في دفاعهم عن ذواتهم ما معنى دولة وما معنى شرطة وما معنى قوات مسلحة، وأن يعتمدوا في الدفاع عن انفسهم ومراكزهم بعصابات البلطجية. وأن العبرة التي يتعين ان نخرج بها من هذه التجربة، هي أن هذه الميكروبات التي حلت بالدولة وأجهزتها هي من نتاج سلطة الفرد المطلقة وشخصنة مناصب الدولة، وهى من المضاعفات المرضية لهذا الأمر.
(2)
والظاهر حتى لحظة كتابة هذه السطور، أن قيادة أجهزة الدولة التي انفردت بالقيادة بفعل الحركة الشعبية الجارية، تحاول ان تكتفي بما أفضت إليه الحركة الثورية الحالية من استعادة القيادات التقليدية لأجهزة الدولة لسلطانها ونفوذها وتخلصها من سيطرة الفئة التي طرأت عليهم في السنوات العشر الأخيرة تحت قيادة جمال مبارك وبمباركة أبيه وحمايته، وهي تكاد تقول للحركة الشعبية، شكرا لكم لما أنجزتم ويكفي هذا. ولكن على هذه القيادات ــ مع التقدير لها ولدورها ــ ان تعرف ان ما استعادت به نفوذها المتفرد في الحكم وما اعاد إليها سلطاتها التي كانت مسلوبة، هي هذه الحركة الثورية الشعبية التي قدمت خلال عشرة أيام ثلاثمئة شهيد وخمسة آلاف جريح من أطيب شباب شعب مصر.
وعلى هذه القيادات أن تدرك ان هذه الحركة الشبابية هي نتاج تراكم لثقافة الخروج إلى الشارع في حركات احتجاجية جزئية جرت على مدى السنوات الست الماضية من سنة 2005. وانها ذات أساليب مستحدثة، وانها ان لم تنجز ما يطمح إليه المصريون من احتياجات سياسية حيوية، فإنها يمكن ان تكرر ما عملت بعد فترة أو فترات وان تستحدث أساليب أخرى بما أظهرت من ذكاء وحيوية، ومما فاجأ أمثالي من ذوى الخبرات القديمة عن الثورات والحركات الشعبية، وان هذه الحركة قادرة ــ إن شاء الله ــ على البقاء كقوة سياسية مؤثرة في موازين السياسة المصرية وذات تشكيلات تستحدثها، وسيبقى أثرها في الساحة المصرية السياسية، وقد أوجدت جيلا جديدا من ساسة مصر وقادتها المستقبليين، وممن ليست لهم ملفات بالشرطة ولن يكونوا مجالا للملاحقة الأمنية إلا بعد جهد بوليسي يستغرق أوقاتا وأوقاتا في جمع المعلومات وتكوين الملفات والتفكير في امكانات الملاحقة، لكل فرد ولكل مجموعة، ومتابعة للأنشطة مما قد يستغرق سنوات وسنوات. ذلك ان الشعب المصري رمى إلى الشاطئ بموجة جديدة من شبابه الطيب، وهى موجة ما أعلاها وما أطيبها. وهي يمكنها قبل التمكن الأمني منها عبر شهور وسنوات ان تؤثر تأثيرات عديدة، وأظن ان قيادات أجهزة الدولة جديرة بأن تدخل كل ذلك في الحساب، وان تتيح لهذا العنصر الجديد امكان المساهمة البناءة الديموقراطية والوطنية في مستقبل مصر.
وفى هذا الصدد، ثمة نقطة أود الإشارة إليها وبيانها، وهي أن هناك حرصا من قادة أجهزة الدولة الآن ــ من بين العسكريين ــ على استبقاء الرئيس حسني مبارك بغير تنح، وثمة تردد واضح من جانبهم بالنسبة لتفويض الرئيس سلطاته إلى نائبه الذي اختاره، وأظن أن ليس سبب ذلك فقط هو انهم يعترفون للرئيس بفضل نشاطه السياسي السابق وأدائه في الجيش ورئاسة الدولة، فإن استبداد الرئيس وقسوته وفرديته الشديدة وخصاله المعروفة، لا تنشئ له مع من يتعاملون معه علاقة تعاطف ومودة، ولكن سبب الاستبقاء في ظني، هو انه بعد ضعف مركز الرئيس بحكم الهبة الشعبية الحاصلة، فإن من تعاملوا معه من قبل وكانوا تحت رئاسته هم اقران متساوون في مراكزهم تجاهه وتجاه بعضهم البعض، وان ترجح اسهم أحدهم على غيره من اقرانه لا يكاد يصادف قبولا فوريا، ولا يملك أحد فرض رئاسته على غيره من الاقران في المدى القصير المحدود. لذلك فهم يبقونه على مرضه وانتهاء نفوذه السياسي تماما حتى تستقر أوضاع علاقاتهم مع بعضهم البعض على نحو جديد من التعاون والتشارك.
(3)
مسألة أخرى أريد اثارتها وهي تتعلق بانعكاس الصورة السابقة على الأوضاع الدستورية وأساليب التحقق لما تراه الحركة الشعبية من طلبات بالنسبة لتخلي رئيس الجمهورية عن سلطاته في الحكم.
والدستور في تقديري باق ما دامت لم تسيطر على السلطة جماعة جديدة غير من هم موجودون فيها، وان ازاحة اجنحة من السلطة واسترداد اجنحة أخرى منها لكامل الأوضاع في الحكم لا يفيد في تقديري انتهاء العمل بالدستور. وإذا أعلنت الجماهير في كل شوارع مصر سقوط الدستور، فلا يكون ذلك اسقاطا ما دامت الفئة الحاكمة كلها أو بعضها لا تزال قابضة على ناصية الأمور، وهنا أيضا يجب أن نتذكر أن السياسة أولا والوضع السياسي هو الأساس ثم يأتي بعد ذلك التعبير الدستوري عن هذا الوضع، فما دامت الجماعة الحاكمة في مركز السيطرة على الدولة فإن الدستور المعبر عن الوضع القائم بها يبقى قائما.
وان مجرد القيام بالثورة لا يسقط الدستور إلا بعد ان تتولى القوة الثائرة السلطة فعلا. والقول بأن الدستور القائم سقط بالعملية الثورية التي بدأت في 25 يناير، هو قول غير سديد في ظني من الناحيتين السياسية والدستورية، لأن قوة جديدة لم تصل إلى الحكم من الناحية السياسية بعد، ولان من قال بسقوط الدستور من الناحية القانونية انما استند في زعمه إلى المادة 3 من الدستور وهي تنص على ان «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين بالدستور». والنص بذلك يفيد ان الممارسة للسيادة الشعبية يكون «على الوجه المبين بالدستور»، فهذه الممارسة طبقا للدستور لا تكون في منطقة إلغاء له ولا تكون ممارسة يعتد بها الدستور، إلا إن جرت على الوجه المبين به، وهى لا تفيد امكان إلغاء الدستور، وليس من نظام دستورى يكفل لاحد ولا لجماعة ولا لفترة أن تلغيه، انما هو ينظم طريقة تعديل احكامه، لا إلغائه كليا، ولا تقرير اسقاطه جملة. ولا يوجد دستور يلغي نفسه في ما نعلم، والدستور لا يلغي جملة أبدا الا من خارجه وبفعل سياسى تسيطر به قوة سياسية جديدة على السلطة، أو تلغيه السلطة القائمة ان وجدت انه لم يعد يعبر عن أوضاع جديدة تراها أو تنشئها أو تكون آلت إليها. أما ان يسقط ذاتيا ومن تلقاء ذاته بفعل ثوري لم يتول السلطة به أحد بعد، فهذا ما لا أظنه صوابا.
ونحن عندما ننظر في الوضع السياسي الحاضر من حيث مؤسسات الدولة بعد التعديلات التي جرت أخيرا بفعل الحركة الثورية القائمة، نلحظ أن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة صارت في أيدي من يعبر عنهم الأستاذ ضياء رشوان «بالقلب الصلب» في أجهزة الدولة السيادية، ونلحظ ان السلطة التشريعية، رئاسة وأعضاء، هي في أيدي الحزب الوطني ولجنة السياسات وان الحزب الوطني ولجنة السياسات كانا هما الدعامة الرئيسية السياسية لتلك الجماعة المالية التي سيطرت على الدولة، خاصة في السنوات العشر الأخيرة عندما انفردت تماما بالسلطة عليها تحت حماية رئيس الجمهورية وولده.
ولا بد أن ندرك يقينا أن أجهزة الدولة المصرية عسكرية ومدنية هي ما كان عليه المعول في إدارة المجتمع المصري والنظر إليه في عمومه وإدراك توازناته وفقا لادراك لا بأس به، وأيا كان حجم النقص في ذلك وأيا كانت عيوبه، إلا أنه لا يقارن في ايجابياته بما آل إليه الوضع المتدني جدا بعد سيطرة «لجنة السياسات»، «بفكرها الجديد»، وان الحزب الوطني ولجنة سياساته هما ما عملا على هدم أجهزة الدولة المصرية وتفكيكها، وأضرا بالأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية للمجتمع المصري اضرارا خطيرة جدا. ووفقا لهذا النظر السياسي ننظر في مسألة نقل السلطة من الرئيس حسني مبارك تحقيقا لمطلب الحركة الثورية القائمة الآن، في اطار أحكام الدستور القائم وكيفية تخلي الرئيس عن سلطته. وهذا الأمر بأحد طريقين دستوريين، إما التنحي بالاستقالة أو بالتفويض في سلطته إلى نائبه.
في حال التنحي بالاستقالة يجرى إعمال حكم المادة 84 من الدستور، وهى تنص على انه «في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة مع التقيد بأحكام الفقرة 82».
«ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية»..
«ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة».
ويقتضي هذا النص ان السلطة في حالة التنحي بالاستقالة، ستؤول إلى رئيس مجلس الشعب، وإلى مجلس الشعب الذي يسيطر عليه الحزب الوطني ذو الأغلبية الكاسحة في مجلس الشعب، وذلك خلال الفترة الانتقالية. أي يؤول أمر الدولة في هذه الفترة الحرجة الحساسة، إلى القوة المؤسسية ذاتها التي أقصيت إلى حد ما عن السلطة في الأيام الأخيرة، وهى لا شك في هذه الفترة المؤقتة ستحاول العمل على استرداد ما فقدت. وان التعديلات الأخيرة التي جرت يوم السبت 5 شباط/ فبراير بإقصاء عدد من قيادات الحزب الوطني من مراكزهم القيادية، لا يعتبر ان نفوذهم قد زال عن الحزب وهم لا يزالون في هيئاته العليا، كما ان تشكيلات الحزب كلها جرت وانبنت على أيديهم.
والطريق الثاني لنقل السلطة والتخلي عنها هو طريق انابة رئيس الجمهورية لنائبه نائب رئيس الجمهورية طبقا للمادة 82 من الدستور بما اضيف إليها من أحكام في سنة 2007، وهى تنص على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته اناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه».
ولا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة».
وبمقتضى هذا النص انه في حالة التفويض تنتقل سلطة رئيس الجمهورية إلى نائبه في جميع ما يملك من سلطات وردت بالدستور إلا ما استثني في هذا النص بالنسبة للمسائل الثلاث السابقة. وان سلطاته التي تؤول للنائب تعني أنها آلت لأجهزة إدارة الدولة ممثلة عسكريا ومدنيا في نائب الرئيس.
وإذا كان نائب رئيس الجمهورية عند التفوض لا يملك طلب تعديل الدستور، فإنه يمكن ان يتحقق هذا الطلب بقرار مستقل من رئيس الجمهورية قبل تنحيه. وعلى أي حال فإن خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه في يوم الثلاثاء أول شباط/ فبراير والذي أقر فيه بعدم ترشحه للرئاسة بعد انتهاء مدته في خريف سنة 2011، هذا الخطاب تضمن طلبا منه إلى مجلس الشعب لتعديل المادتين 76 و77 من الدستور، ونحن نعرف في علم القانون ان القرارات الإدارية لا شكل لها إلا إذا شرط القانون لها شكلا معينا يبينه. لذلك فإن ما تضمنه هذا الخطاب بشأن المادتين المذكورتين يعتبر طلبا منه لتعديلهما، وهو في خطابه وجه هذا الطلب إلى مجلس الشعب. ومن ثم يعتبر قرارا مستوفيا لاركانه صادرا منه شخصيا بوصفه رئيسا للجمهورية.
ومن جهة ثانية، بالنسبة لعدم احقية نائب رئيس الجمهورية المفوض بسلطات الرئيس في إقالة الوزارة، فإن ذلك لا يشمل امكان اعفاء أي من الوزراء من مسؤوليته الوزارية واستبدال غيره به. لان اعفاء أي وزير بذاته لا يعتبر اقالة الوزارة. أي يمكنه ان يغير في الوزارة بالتجزئة.
أما حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى، فإنه يمكن ان يستصدر القرار بذلك من رئيس الجمهورية مع إصداره قرار التفويض.
وفي هذا الصدد، وبالنسبة للطلب السياسي الخاص لحل مجلس الشعب، وهو المجلس الذي لم يجف مداد ما ارتكب في انتخاباته من تزوير فاحش، فإني اتصور ان هذا المطلب وان كانت الشرعية السياسية الكاملة لحركة ثورية نبيلة، إلا اني اشفق على الاجماع الوطني العام المتحقق الآن في المطالب الثورية المطروحة من تغيير عن النظام وتخلى الرئيس عن سلطته، اشفق على هذا الاجماع المطلوب استبقاؤه أطول مدة زمنية ممكنة، أن يتأثر بفعل ما ستمليه عملية انتخاب مجلس جديد من صراعات بين الأحزاب والجماعات السياسية المختلفة والأسر الريفية والمصالح الذاتية. لذلك اطرح على أصحاب هذا الطلب رجاء، بالنظر إلى تأخير تحقيقه إلى ما بعد تحقق المطالب الأخرى السريعة، وهي تخلي الرئاسة واستبدالها وإنهاء حالة الطوارئ وتحقيق ضمانات الحريات الشعبية وحق تكوين الأحزاب والجماعات السياسية بغير العوائق الواردة بالقانون الحالي طبقا للمادة 82.
نقطة أخرى أود إثارتها، وهي ان الدستور يتضمن حكما اعتمدنا دائما على المطالبة بإلغائه، لانه يدعم السلطة الفردية الاستبدادية لمن يتولى منصب رئيس الجمهورية، ولانه يخول الرئيس القفز على سلطات الدولة كلها لدعم قراراته الفردية. وقد استخدم الرئيس أنور السادات هذا الحكم الدستوري عددا من المرات لدعم سلطته الفردية، ومنها المرة التي استخدمت فيها ليدعم موقفه عندما وقع مع الإسرائيليين اتفاقية الصلح، المسماة باتفاقية كامب ديفيد، وليدعم موقفه ضد المعارضة التي تصاعدت ضده. هذا الحكم ورد بالمادة 47 من الدستور وتنص على أنه: «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، ان يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا إلى الشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذ من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها».
وهذه السلطة ليست مما يمتنع ان يشملها قرار الإنابة الذي يصدره رئيس الجمهورية إلى نائبه في شأن تفويضه بسلطاته. ويمكن للنائب المفوض ان يستخدمها استجابة لمطالب الحركة الشعبية الثورية الوطنية إزاء ما تراه من تعديلات يراد اجراؤها في المرحلة المؤقتة القائمة، وحتى يوضع دستور جديد ديموقراطي كامل ــ إن شاء الله ــ بعد المرحلة الانتقالية.
(4)
وبعد فهذا «تقدير موقف» للحال الحاضر في هذه الأيام في هذه الساعات، ونحن في قلب حراك ثوري مبارك ــ إن شاء الله ــ وان على القائمين بأمر الدولة المصرية الآن ان يدركوا بعد ان خلصت لهم آلة الحكم من النهابين والبلطجية، لتعود دولة ذات إدارة ورشد، ان الشعب المصري هو من يدينون له بانفرادهم بالسلطة في مواجهة من اقتحموها في السنوات الماضية، وان عليهم ان يفسحوا لهذا الشعب وهيئاته الأهلية، وهو في النهاية الحامي لدولته بشرط ان يشارك فيها، إشرافا وتشكيلا للمؤسسات وتداولا للسلطة، وهو الشعب الذي يستند إليه ويعتمد عليه ويشرف أي قائم بالأمر أن يكون ممثلا له وخادما.
ونحن نريد من الحركة الثورية القائمة ان تبقى سيطرتها على الرأي العام المصري ووجودها بالشارع المصري في مدنه وأقاليمه، وأن تعمل على ان تتمأسس في تشكيلات تنظيمية قادرة على إبقاء هذه الحالة الثورية والتعبير عن تصميم الشعب المصري على التحرر من الاستبداد الداخلي وحكم الفرد المطلق أو حكم الأفراد القلائل، وتصميمه على مساندة حكومته في توجهها المطلوب لاسترداد الإرادة الوطنية المصرية وتحريرها من ضغوط الدولة الخارجية عليها، بخاصة الضغوط الأميركية والإسرائيلية.
ونحن نرنو إلى:
ــ إنهاء حالة الطوارئ.
ــ حرية تشكيل الأحزاب.
ــ إعادة بناء جهاز إدارة الدولة المصرية على أسس رشيدة وتشكيل مؤسسي صالح لأداء وظائف إدارة المجتمع المصري ومرافقه وسد حاجياته.
ــ إعادة الضمانات الوظيفية لرجال الدولة المصرية في هذا الجهاز، بحيث يمكنهم ممارسة نشاطهم في خدمة مرافق المجتمع وسد حاجياته برشد وكفاءة.
ــ ضمان حرية الانتخاب لرئاسة الجمهورية ولمجلسي البرلمان بعد حل مجلس الشعب.
ــ اتخاذ السياسات التي تسترد بها مصر ارادتها المستقلة عن الاملاءات الأميركية والإسرائيلية، واتخاذ السياسات الاقتصادية التي ترعى صالح الجماعة الوطنية المصرية بعيدا عن املاءات المنظمات المالية الدولية.
وان ما اذكره في «تقدير الموقف» هذا لا يعني الرضا بالاكتفاء بما ذكرت من بدائل، بل هو يعني ان يكون مساهمة في التعرف على حقيقة الأوضاع في اللحظة التاريخية التي نحياها هذه الأيام. والتي نريد أن نحقق بتجاوزها ما نستطيع من حرية واستقلالية.
حفظ الله مصر وألهمها الرشاد
والحمد لله.