د. ناصيف حتّي
هل يكون عام 2011 عام بداية التغيير في العالم العربي: انتفاضة تونس والانهيار السريع للنظام كانا عنصرا المفاجأة والصدمة الإيجابية للتغيير، لكن مع انتفاضة مصر وردود الفعل على مستوى النظام الرسمي العربي من قلق ومحاولات احتواء استباقية لأي انفجار قادم عبر خطوات غير كافية ومتأخرة ولكنها دالة على "عودة الوعي" بالحاجة للتغيير من جهة وردود الفعل الشعبية الفرحة بالانتفاضة التونسية والمتضامنة مع شقيقتها المصرية من جهة أخرى، هذه عناصر أدت إلى أن يستقر عنوان التغيير كعنوان أساسي وضاغط في المشهد السياسي العربي سواء كان الناظر إلى هذا المشهد من داخل النظام العربي أو من خارجه.
في هذا المشهد وفي خضم الانتفاضة المصرية، تكثر الأسئلة من نوع حجم التغيير واتجاهه وسرعته وكيفية حسمه في مصر. فهل سيكون تغييراً للنظام ام تغييراً في النظام، وفي الحالة الثانية ما هي ابعاد هذا التغيير، ثم بالطبع من هي الدولة أو الدول "المرشحة" للاثر التظاهري التونسي ثم المصري؟
جملة من الملاحظات تكشف المواقف والسلوكيات والنظرة المختلفة لمشهد التغيير العربي يمكن ايجازها كما يلي:
أولاً، ان المدرسة التآمرية في تفسير الأحداث تبقى ناشطة من خلال التساؤلات التي تثيرها حول هوية "محرك" الحدث والمستفيد منه وتوقيته وهي مدرسة تمثل نوعاً من الكسل الذهني والتسطيح السياسي رغم تراجع اربابها في مشهد التغيير العربي، لكن المفارقة انه حتى بعض المتحمسين للتغيير ولأهله يطرحون بعفوية وبساطة هذا السؤال ما يعكس إلى جانب ما ذكر سابقاً عدم فهمهم لطبيعة المجتمعات العربية وللعناصر الموضوعية المحركة لها. انها بأي حال مدرسة تعكس بؤس السياسة والتصحر السياسي التي فرضته بعض السلطات العربية في مجتمعاتها بحيث صار التفسير السهل هو السائد خاصة عندما يسهل ربطه بالولايات المتحدة وإسرائيل نظراً للارث العدائي ولو المختلف حدة وطبيعة عند الطرفين تجاه القضايا العربية.
ثانياً، ارتباك في عواصم صنع القرار الغربي ولو بدرجات متفاوتة، ارتباك بين التمسك بالمصلحة التي وفرتها العديد من السلطات العربية من جهة والقيم التي تنادي بها الدول الغربية وتدعو لها وتحاول التدخل باسمها من جهة أخرى. ويعود الارتباك لعدم التأكد من قدرة بعض "الأصدقاء العرب" على استيعاب هذه الخضات، ومن المجهول الذي قد يحصل بعد ذلك في ما يتعلق بالاستقرار المطلوب والمصالح التي يجب الحفاظ عليها فتجري محاولات لإحداث توازن بين الموقف والعنوان القيمي الأخلاقي السياسي ومحاولة تركيز الجهود متى أمكن ذلك على مواكبة التغيير فيما يتعلق بادارته ومنحاه وأهدافه عبر قوى يمكن الوثوق بها ولو بدرجات متفاوتة. وتبرز المقارنة بين موجة التغيير عام 1989 مع انهيار المعسكر الشرقي وما يبدو انه موجة التغيير في مطلع 2011 في العالم العربي. ففي الحالة الأولى جاءت الانتفاضات ومعها التغيير ضد أنظمة معادية استراتيجياً وعقائدياً للغرب في ما يأتي هذه المرة ضد أنظمة صديقة للغرب.
ثالثاً، هنالك مخاوف من منحى التغيير خاصة في ظل نظرة تقوم على ثنائية حادة فكأنما الخيار هو بين نظم شديدة السلطوية توفر الاستقرار من جهة، وبين تيارات شعبية اسلاموية متصادمة ولو بدرجات متفاوتة مع الغرب ومجهولة عند هذا الغرب في سلوكياتها المستقبلية لدرجة كبيرة وبالتالي مخيفة من جهة أخرى. ولا يكفي التسطيح الذي يصل الى حدود العنصرية والذي يقوم على نظرة ثقافوية قوانها ان المجتمعات العربية والاسلامية غير قابلة لاسباب ثقافية وقيمية للديموقراطية بل يأتي التبسيط السياسي، رغم ان الانتفاضة في الحالتين التونسية والمصرية لم تأت تحت عنوان اسلاموي ولم تقدوها تيارات الاسلاموية، لتزيد من المخاوف والارتباك، ليتجاهل وجود قوى مدنية مختلفة قادرة ان تشكل بديلا ثالثا من نظم سلطوية وتيارات اسلاموية. ولا بد من التذكير ان الانتفاضة في الحالتين لم تحمل اي عنوان سياسي او عقائدي او تنظيمي او قطاعي معين بل كانت الأكثر ديموقراطية من حيث تعبيرها عن مطالب الجميع ومن حيث القوى التي شاركت بها. وكثيراً ما يبرز الاختزال في التحليل الذي يعبر عن سوء الفهم وعدم الادراك من خلال المقارنة بالثورة الايرانية عام 1979 رغم الفرق الشاسع بين الحالتين في ما يتعلق بطبيعة الثورة في ايران وتنظيمها وهويتها وعنوانها العقائدي الديني ووجود زعيم كريزماتيكي لها.
رابعاً، أياً كانت نتائج الانتفاضة المصرية فما يجمع عليه المراقبون انه لن تكون هنالك عودة الى ما قبل 25 ينارير/كانون الثاني 2011، وان الانتفاضة ستحقق ضمن امور أخرى استعادة المكانة لمصر ايا كانت نسبة هذه الاستعادة، وفقدان المكانة ومعها فقدان الدور كانا من عناصر لغضب الشعبي المصري. فلذلك سيكون هناك تغير في السلوكية الخارجية المصرية وفي ثقل الدور المصري. وبالتالي ستكون هنالك تداعيات ولو اختلفت اوزانها وأحجامها حسب التغيير الذي سيحصل على التوازنات في المنطقة وعلى الصراع العربي الاسرائيلي وعلى العلاقات مع واشنطن ضمن منطق تباين المصالح احيانا وما ينتج عن ذلك في اطار علاقة استراتيجية قائمة. لكن أبرز ما قد يحمله أيضاً التغيير هو اعادة التوازن المفقود ولو بدرجات مختلفة الى دبلوماسية الصراع العربي الاسرائيلي. هذه التداعيات ستبقى في منأى وما يحمله المنطق التبسيطي العقائدي والسياسي من اصطفافات محتملة اذ ان التاريخ والجغرافيا الاستراتيجية والمصالح ستحكم دائماً علاقات مصر العربية والاقليمية والدولية مع التأكيد دائماً على التحولات التي قد يحملها هذا التغيير، وربما يبرز النموذج التركي الخارجي في العلاقات مع واشنطن كاحد النماذج التي يمكن الاستدلال بها بشكل عام لاستشراف مصر ما بعد الانتفاضة على الصعيد الخارجي.
خامساً، ان عملية التغيير او عملية التحول الديموقراطي لا تأتي عبر القطيعة الكلية واسقاط نماذج جاهزة قد تكون عناوين للتحرك حالياً، بل هي نتيجة تراكم سلسلة من التغييرات منها اقامة دولة القانون والمؤسسات عبر الفصل بين السلطات، واقامة قضاء مستقل ونظام مساءلة واعطاء الحريات في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي لخلق مجتمع مدني ديناميكي. فالديموقراطية ليست مجرد آلية تداول للسلطة بل هي منظومة قيم تجري تأسيسها وتعميقها عبر الوقت. مشهد التغيير العربي الذي قام بضغط الديموغرافيا وتسهيل التكنولوجيا واستفزاز الاقتصاد وعمى او غياب السياسة، سيحمل في اي حال نهاية الرئاسات التوريثية ورئاسات مدى الحياة وسيطرح موضوع التحول نحو الملكيات الدستورية عبر تقييد السلطة. عام 2011 الذي قد يشهد مزيداً من الخضات المختلفة هنا وهناك سيكون عام فتح صفحة جديدة في حياة العالم العربي.