الأحد، 6 فبراير 2011

أول الطريق إلى التغيير....أول الطريق إلى الحرية

تحية إلى شعبي تونس ومصر وثورتيهما
بقلم: كريم مروة

إنه حدث العصر هذا الذي بدأ في تونس وحقق إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في المنطقة. إنه الحدث الذي استقر في مصر، أم الدنيا. ثم كبر الحدث، وكبرت معه أحلام شباب مصر ، وكبر معه وعيهم، وكبرت إرادتهم، وأصبحوا مؤهلين بكفاءة، استناداً إلى قدراتهم الذاتية، لإنجاز ذلك التغيير الذي انتظروه طويلاً، التغيير الديمقراطي في معانيه ومضامينه المعاصرة. وهو التغييرالذي خذلتهم، وخذلت أخوانهم في البلدان العربية الأخرى، لأسباب موضوعية وذاتية، حركات نادت بالتغيير بأسمائه وبمرجعياته المختلفة وبالمشاريع وبالإتجاهات وبالأيديولوجيات المتصلة بها. وهي مشاريع تعددت صيغها وتنوعت وسائل وأدوات التعبير عنها لدى كل من هذه الحركات. إذ كانت قد بدأت تلك الحركات تتراجع وتضعف وتفقد دورها الذي كان مجيداً في زمن سابق الواحدة منها تلو الأخرى، حتى قبل حدوث الإنهيار الكبير للتجربة الإشتراكية. ثم صارت تتحول جميعها، أو معظمها، بنسب متفاوتة بعد ذلك الإنهيار المدوي، إلى قوى ضعيفة الوزن والتأثير. واحتلت مكانها الأصلي، بفعل ضعفها وتراجعها قوى من نوع آخر، قوى ديماغوجية وسلفية من أنواع شتى مختلفة ومتناقضة غير ذات صلة بالتغيير بمضمونه الديمقراطي. ومعظم تلك القوى يحمل مشاريع تصب في الإتجاه النقيض لهذا التغيير.
لهذا الحدث التاريخي، في تونس وفي مصر- والبقية ستأتي عاجلاً أم آجلاًً لتشمل كل أنظمة الإستبداد في المنطقة - أبطال كانوا مجهولين ثم صاروا ملء السمع والبصر. إنهم أبطال من طبيعة مختلفة عما ساد من بطولات في تاريخ عالمنا العربي، أبطال تعددت نماذجهم، وتعددت سمات حركاتهم، وتعددت المصادر والمواقع الإجتماعية التي جاءوا منها إلى ذلك الحدث التاريخي الكبير. إنهم مجموعات من كتل كبيرة غير منتمية من الشباب والمثقفين والعمال، ومن الهامشيين أيضاً، الذين أتعبهم الصبر على طول المعاناة من الظلم والإستبداد والفساد، وأرهقهم الصبر الطويل على الجوع إلى الخبز والحرية. تلاقوا متحدين، من دون أن يعرفوا بالضرورة بعضهم بعضاً إلا بالكلمة والصورة والصوت من بعيد. تلاقوا في ثورة عفوية، في تونس أولاً استجابة لصرخة الشهيد بو عزيزي، ثم صاروا، بعد تحقيق معجزتهم غير المسبوقة بإطاحة نظام استبداد دام واحداً وثلاثين عاماً، نموذجاً لسواهم في عالم عربي مقهورة شعوبه حتى التخمة بأنظمة استبداد أدخلتها في الجوع وفي الهزائم وفي الخراب. وهي أنظمة جمهورية استبدادية، وراثية كذلك، لم يتوقف قادتها وزبانيتهم على امتداد عقود عن نهب شعوبهم وتخريب بلدانهم وإخراجها من التاريخ، ووضعها بالفساد وبالخراب على هامش هذا العصر الغريب، الذاهب إلى مستقبل مختلف غامض المعالم.
لقد حصلت المعجزة، وانفتح التاريخ في عالمنا العربي على حقبة جديدة مضيئة. شق شباب تونس ومثقفوه وعماله الطريق إلى مستقبل مختلف. وبات على شباب مصر ومثقفيها وعمالها أن يتابعوا المسيرة. وها هم يخوضون المعركة بشجاعة وكفاءة نادرتين. لكن السر في المعجزة التي نشهدها في مصر بعد تونس إنما تكمن في عفوية الحركة التي جمعت هذا العدد الهائل من الشباب والمثقفين والعمال في وحدة غير مسبوقة من العلاقة بين أناس متنوعي النماذج والأنماط والمواقع الإجتماعية. وهذه العفوية في حركة هذه الكتل الجماهيرية الشابة في معظمها، هي عفوية مختلفة اختلافاً جذرياً، كما تشير إلى ذلك الوقائع، عن العفويات التي سادت في حركات ثورية سابقة في تاريخ العالم، وانتهت، بسبب عفويتها الساذجة الفوضوية تلك، إلى الهزيمة والفشل. عفوية الحركة الجديدة، في تونس، ثم في مصر على وجه الخصوص، ثم في إرهاصاتها في بلدان عربية أخرى، هي أنها عفوية يرتقي فيها الوعي إلى درجة عالية من المسؤولية في طبيعة التحرك السلمي، وفي نوع الشعارات التي تحدد بدقة الهدف المبتغى من التحرك. وهذا الإرتقاء في الوعي هو الذي استطاع أن يحبط كل المحاولات التي لجأ إليها أركان النظامين وزبائنهما، في تونس وفي مصر، لإفساد الحركة ولتشويه طبيعتها، ثم لدفعها، بسبب هذه التشويهات، إلى الفشل في تحقيق أهدافها. غير أن هذا الإرتقاء ذاته، في وعي الشباب والمثقفين والعمال غير المنتمين، أبطال هذه الحركة، هو الذي جعلهم يستوعبون في حركتهم، من دون تزمت أو تطرف أو محاولة إقصاء، كل الذين انضموا إلى الحركة من جهات ومصالح وأهداف سياسية مختلفة، قديمة وجديدة، إما للإلتحاق بها تحت شعاراتها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما بهدف الإستيلاء عليها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما لدفع التحرك في اتجاه المغامرة التي تقوده إلى نقيض أهدافه.
وفي الواقع فإن من أهم الدلالات التي تشير إليها هذه السمات التي تميزت بها هذه الحركة، هو أن الشباب على وجه الخصوص، إذ استطاعوا أن يلتقوا بكثافة في المواقع الإلكترونية ويناقشوا همومهم ويحددوا أهدافهم، فقد استطاعوا فيما يشبه السحر القفز فوق الحواجز التي وضعتها أمامهم تدابير القمع بكل أشكالها لمنعهم من الإلتقاء الجسدي المباشر. وها هم ينتقلون من المواقع الإلكترونية إلى ساحات مصر التي تتسع لملايينهم الغاضبة الثائرة.
بهذه السمات كلها، بأنواعها المختلفة، وفي قمة الشعور بالحاجة إلى الثورة من أجل التغيير خرجت تلك الكتل البشرية في شجاعة وتصميم نادرين لتحقيق ذلك التغيير الذي طال انتظاره. وإذا كان من الطبيعي أن تخرج هذه الكتل البشرية في حركتها الثورية الجديدة غير المسبوقة في نوعها وطبيعتها وقواها لتحقيق أهدافها، بعد طول صبر وانتظار، فقد كان من غير الطبيعي أن يطول ذلك الإنتظار لتحقيق هذا الخروج في اتجاه هذا التغيير.
لقد سقط نظام زين العابدين بن علي. وهو نظام جاءت به، في غفلة من الزمان وبالتواطؤ وبالقسر، قوى من داخل تونس ومن خارجها. سقط ولن يعود. ومن المؤكد أن نظام حسني مبارك سيسقط هو الآخر، تلبية قسرية لإرادة هذا الحشد المليونيّ الهائل من جماهير مصر المصممة على تحرير نفسها وتحرير بلدها من هذا النظام الذي استولى بالعسف على مقدرات مصر، وعلى موقعها وعلى دورها التاريخي. هذا ما تقوله الجماهير التي تحتل ساحات المدن المصرية وتنادي بالهتاف المدوي بسقوط النظام وبسقوط رموزه. لم يعد حسني مبارك قادراً على المناورة طويلاً، حتى ولو تأخر في الإستجابة لإرادة الشعب المصري الثائر. ولعله بالتباطؤ والتحايل يريد من شعب مصر أن يسامحه ويسمح له شخصياً بالبقاء في مصر ليمضي فيها ما تبقى له من أعوام ويموت فيها كما قال، بدلاً من أن يخرج ذليلاً مثل من سبقوه إلى ذلك، بن علي وشاه إيران.
ومن المؤكد أن للتغيير في مصر شروطاً تختلف عنه في تونس. فمصر هي دولة كبرى لا يمكن لأي تغيير فيها إلا أن يأخذ في الإعتبار كونها دولة كبرى في كل المعاني.
ستعود مصر حتماً إلى موقعها. ستعود إلى الدور الذي اضطلعت به على امتداد تاريخها الطويل. فغياب مصر خلال هذه العقود الأربعة عن دورها التاريخي لم يضعفها وحدها وحسب كدولة كبرى، بل هو أضعف كل العالم العربي، وجعله دولاً متفرقة، خارج التأثير، تابعة، ملحقة، غير ذات وزن وتأثير في ما يجري من أحداث في المنطقة وخارجها، عاجزة عن الصمود في مواجهة المشاريع التي تحضر لها من المنطقة ومن خارجها ضد مصالحها وضد مصالح شعوبها.
إن ما حصل في تونس، وما هو حاصل في مصر، هو أول الطريق إلى مستقبل مختلف للبلدين العربيين ولسائر بلداننا العربية. ذلك أن التغيير هو الحتمية التاريخية التي لا جدال فيها. غير أن حتمية التغيير لا تعني إختراق وتجاوز الشروط الموضوعية التي لا بد لأية حركة في اتجاه التغيير أن تأخذها في الإعتبار. فإذا كان التغيير هو الحقيقة المطلقة، فإن طبيعة هذا التغيير ووجهاته وصيغه وأهدافه هي دائماً نسبية. إذ هي تخضع جميعها بالضرورة لشروط الزمان والمكان، ولشروط الوعي البشري بهما.
إن من حق شباب تونس ومثقفيها وعمالها علينا أن نحيّي فيهم شجاعتهم وبطولتهم ووعيهم، ونحيي إنجازهم التاريخي. ومن حقنا عليهم أن يحافظوا على انتصارهم، وأن يستمروا في هذا الإرتقاء الرائع في وعيهم بمسؤوليتهم. ذلك أن إسقاط نظام الإستبداد لا يكفي وحده لتحقيق الإنتقال إلى مستقبل مختلف. إنه أول الطريق إلى الحرية، أول الطريق إلى التغيير. أما بقية الطريق فستكون هي الأكثر صعوبة.
إن شباب مصر ومثقفيها وعمالها هم الأمل المرتجى في هذه المرحلة الدقيقة من كفاحهم السلمي البطولي الرائع، وهم يعبرون الجسر إلى ذلك الطريق المؤدي إلى مستقبلهم ومستقبل مصر ومستقبل العالم العربي من الخليج إلى المحيط. ومن حقهم علينا أن نكون معهم حتى يحققوا الوصول بسلام وأمان إلى إنجازهم التاريخي بإسقاط نظام الإستبداد والقهر والتسلط والفساد. وهم قادرون على تحقيق ذلك بالحزم وبالعقل وبحكمة الثوار المسؤولين عن أوطانهم وشعوبهم وعن مصالحها.
قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا وآمالنا معك يا شعب مصر، ومعكم يا شباب ومثقفي وعمال مصر.