بقلم: جهاد الزين -النهار-بيروت
منذ اندلاع الانتفاضة المصرية في 25 كانون الثاني وانا امضي وقتاً طويلاً نسبياً امام عدد من اقنية التلفزيون المصرية. استطيع القول ان هذه الشاشات - مضافا اليها البرامج المتعلقة بمصر على شاشتي "الجزيرة" و"العربية" كما على الـCNN والـBBC - لا تزال تستحوذ على تسعين بالماية تقريباً من وقتي التلفزيوني في البيت والمكتب. اعني تحديداً من الشاشات المصرية التي هي بمتناولي، قناة "دريم" والتلفزيون المصري الرسمي وبعض برامج "التوك شو" (الحوارية) المصرية التي تنقلها "قناة اليوم" عبر مجموعة خليجية... مقابل ذلك تراجعت نسبة متابعتي للشاشات اللبنانية بشكل كبير خصوصا ان التفاقم المتزايد لتفاهة السياسة الداخلية اللبنانية – والتي تبدو منذ فترة غير قصيرة على الهامش المتخلف للوضع العربي – قد ساهم في هذا الابتعاد.
اتاح لي شبه الانصراف التلفزيوني هذا منذ بضعة اسابيع الى الشؤون المصرية – بل حتى الى الافلام السينمائية المصرية على شاشات متخصصة بها – ولا زال يتيح ان ادخل في تجربة من نوع خاص، دعوني اسمِّها تجربة اعادة التعرف على النخبة المصرية خلال الانتفاضة وما بعد بدء المرحلة الجديدة.
كانت ولا تزال اسابيع استماع الى كل فئات النخب المصرية: عسكريين، سياسيين، فايسبوكيين، ادباء، مثقفين، قضاة، صحافيين، فنانين، وزراء، اقتصاديين، اكاديميين. جميعهم باتت تحفل بهم التلفزيونات المصرية وغير المصرية، عقائديين، قادة احزاب، ولاسيما "الاخوان المسلمين" الذين اخذنا نراهم ونسمع آراءهم، بل نتفرس في وجوههم ولحاهم وكلماتهم... في هذا المحفل النقاشي الهائل الذي افتتحته الانتفاضة بل "الثورة المصرية" كما بات اهلها – وهم هؤلاء انفسهم – يحبون تسميتها، محفل متواصل ليل نهار كأننا نتعرف مجددا على هذه النخبة بل النخب حتى لو كنا نعرف – بما فيه على المستوى الشخصي - اسماء عديدة بينها منذ زمن طويل.
من هذه المناظرة الدائمة التي اطلقتها "الثورة المصرية" تولدت لدي بضع ملاحظات لا شفاء لي من وطأتها او من قلقها اذا لم اضعها في الضوء.
1- بدءا من ميدان التحرير – الذي اصبح عاصمة المستقبل العربي مهما آل إليه هذا المستقبل؟! - وحتى في ذروة الاحتشاد الذي قيل انه ذات يوم تجاوز المليون (فعلا وليس على الطريقة اللبنانية في الاحتساب الـ8 والـ14 آذاري) كان لدي انطباع ان هذه الحشود هي اساسا انتفاضة النخب المصرية بأقصى ما تعنيه الكلمة: اوسع تجمع للطبقة الوسطى بكل شرائحها، ولكن طبعا تحت قيادة اذكيائها وموسريها ونشطائها ومثقفيها ومعظم موظفيها في القطاعين العام والخاص وبعقائدييها من كل الاطياف وابناء عقائدييها الذين يمارسون الآن حرية يغبطهم عليها آباؤهم... والذين كان بعضهم يمشي الى جانب ولده "الفايسبوكي" وهو – اي الأب – على عكاز او كرسي مدولب! (واعرف حالات محددة).
… انها اذن انتفاضة نخب... واسعة... "جماهير نخب" في القاهرة اساساً والاسكندرية والسويس والعديد من المدن... وليست انتفاضة كل الشعب المصري الذي لا تزال اغلبيته الريفية، اي المقيمة في الارياف، تتلقى نتائج ثورة النخب المدينية والقطاعات المتصلة بها، كما تلقت عام 1952 انقلاب "الضباط الاحرار" باسم الدفاع عنها وببرنامج اجتماعي اقتصادي جذري وغير ديموقراطي نفذه الجيش... مع فارق ان عام 1952 كان عام مجموعة صغيرة قادت المؤسسة العسكرية التي حكمت مصر حتى سقوط الرئيس حسني مبارك وان كانت شريحة من "رجال الاعمال – السماسرة" دخلت على خط القرار السياسي في السنوات الاخيرة من عهد الرئيس مبارك بينما ثورة 1919 التي كانت ثورة وطنية لتحقيق استقلال مصر اعتمدت على نخبة مدينية بقيادة بورجوازية المجتمع المتنورة.
اليوم... نحن امام ثورة لا شك ان صفتها الاولى انها ثورة ديموقراطية... وطنيتها – اي السياسة الخارجية – هي حصيلة غير معلنة لديموقراطيتها... في هذه المصالحة التاريخية التي يقدمها لنا ميدان التحرير للمرة الاولى منذ العام 1948 تاريخ تأسيس اسرائيل بين الديموقراطية والوطنية.
ازعم... ان كل هذه الانطباعات بل هذا التقييم هي وهو حصيلة مشاهداتي التلفزيونية. فالذي رأيته وأراه ثورة نخب، ثورة الشرائح الاكثر وعياً وحداثة وحيوية في المجتمع المصري... الذي تنتظر ملايينه الثمانون ان تحملها الديموقراطية الى واقع معاشي افضل؟!
انها هذه النخب المجمعة على قنوات التلفزيون على منع الفلتان الامني حيث يختلط تآمر "النظام القديم" بانفجار احتقان الفقراء والعشوائيات، او بانفجار الامية الطائفية التي يتسبب بها مواطن غيور على شقيقته المسلمة التي احبها شاب قبطي وأحبته... فقتله مفجراً رغم وعي النخب ازمة علاقات تهدد النسيج الوطني المسلم المسيحي... وادت الى سقوط عدد من القتلى في القاهرة نفسها.
الخلاصة التلفزيونية الاولى: هي ثورة نخب واسعة، ثورة طبقة وسطى، لا ثورة فقراء وفلاحين.
2- الخلاصة التلفزيونية الثانية: هي ان هذه الثورة الديموقراطية الهامة والواعدة مصريا وعربيا، لا تحمل حتى الآن برنامجها الاقتصادي. جميع الذين اسمعهم على التلفزيونات، بمن فيهم الاقتصاديون والمسؤولون الرسميون، يركزون على استمرار تشجيع الاستثمارات، زيادة الحد الادنى للأجور، الحفاظ على الاقتصاد الحر و"دولة الرعاية" معا. لكن هذه ليست برنامج وضع جديد واستراتيجية شاملة. انها افكار تشبه في المجال الامني الدعوة الى اعادة الشرطة الى الشوارع. الجدل الوحيد الجديد هو الجدل الدستوري لأنه البرنامج الوحيد للثورة منذ لحظة قيامها.
3- تُظهر الثورات العظيمة على ما يبدو افضل ما في الافراد... ما في النخب:
فبمعزل عن التنوع الهائل بين القيادات والشخصيات والناشطين والشباب... الجميع يظهر حساً عالياً بالمسؤولية في الكلام العام... كأنما كل هؤلاء من مختلف مواقعهم، يعبرون عن نضج كبير في الشأن العام... ولفت نظري بصورة خاصة – بعد انتهاء الانفعال الشخصي في لحظات محددة وخطرة – ان الشباب الفايسبوكيين كانوا لا يقلون نضجاً ومسؤولية عن الأجيال الأخرى... والكل تحفل بهم قنوات التلفزيون، بل استطيع ان اقول ان بعض من انشر لهم في صفحة "القضايا" كتبوا مقالات مهمة وجذابة خلال الاسابيع المنصرمة...
4- الخلاصة الرابعة التي لا بد من التوقف عندها هي المتعلقة بالزملاء الصحافيين التلفزيونيين المصريين. فقد سمحت الاحداث لي بالتعرف على كفاءات مميزة لعدد من مقدمي البرامج، نساء ورجالا... وفي مجالات مختلفة... كان اداؤهم قويا وتحضيرهم لامعا وذا مجهود، كما ان ملاحظاتهم الحوارية كانت كفوءة وندية. وأخص بالذكر هنا السيدة منى الشاذلي التي اصبح برنامجها "الساعة العاشرة" على "قناة دريم" بالنسبة لي مرجعاً يومياً للمتابعة... وهذه مناسبة لأنصح عددا من زملائنا اللبنانيين بمتابعة هذه التجربة المصرية الجديدة أو المتجددة في البرامج السياسية والثقافية والحوارية ودراستها...