سعود المولى
فمؤسس ورئيس قسم علم الإجتماع في جامعة هارفارد الأميركية، وصاحب الثلاثين مؤلفاً (بعضها من عدة مجلدات في مئات الصفحات)، كان أيضاً صاحب معرفة موسوعية وذكاء خلاق، إلى جانب تمرسه الأكاديمي العميق في ست لغات أوروبية على الأقل، وفي تاريخ العالم القديم والحديث، وتاريخ الديانات والأفكار والفلسفات والحضارات.. وهو يقف إلى جانب أوغست كونت وكارل ماركس وماكس فيبر وألكسيس دوتوكفيل كعملاق سوسيولوجي من حيث كمية ونوعية كتاباته، والميادين الكثيرة التي عالجها، ومن حيث النظريات التي بلورها وصاغها..لا بل أنه يتفوق عليهم جميعاً.. وهو أضاف إلى التحليلات الإجتماعية تلك اللمسات التاريخية والإنسانية حول الحضارات وحول الموقع الرئيس للقيم الثقافية في النسق الإجتماعي الكلي..
إلا أنه كان فوق ذلك وقبل ذلك أحد كبار الثوريين الإشتراكيين الذين شاركوا في ثورة الشعب الروسي ضد القيصرية..ودفعوا ثمن مبدئيتهم وإستقامتهم سجناً وعذاباً وتشريداً ونفياً..
فهل يعقل أن لا نعرف نحن العرب شيئاً عن بيتيريم سوروكين، أو أن لا نعيره أدنى إهتمام في معاهد وكليات العلوم الإجتماعية عندنا ؟
نعم كان ذلك ممكناً طوال العقود الماضية (للأسف)! وأنا أقول ذلك عن خبرة ومعرفة وبعد دراسة فاحصة لبرامج ومقررات العلوم الإجتماعية ولمجلات ومؤسسات الدراسات السوسيولوجية في البلدان العربية وفي لبنان خصوصاً..لا بل أن موقع ويكيبيديا الكبير يخصص خمسة أسطر لا أكثر لبيتيريم سوروكين!!..هذا في حين لا تذكره مراجع وكتب علم الإجتماع الفرنسية والألمانية والبريطانية..يكفي أن نقرأ الكتاب الضخم لعالم الإجتماع البريطاني أنتوني غيدنز وعنوانه "علم الإجتماع" (وقد صدر في عشر طبعات حتى اليوم؛ وصدرت ترجمته العربية في 3 طبعات حتى اليوم) لنكتشف خلوه من مجرد ذكر إسم سوروكين؟؟؟ فهل يعقل هذا ؟
Sociology by Anthony Giddens (5th Edition, Polity press, UK, 2006).
نعم يعقل!! ولعل السبب هو أن سوروكين كان روسياً، مؤمناً متديناً، ومناضلاً ديموقراطياً، شارك في ثورة شباط المجيدة، وشارك في حكومتها إلى جانب كيرينسكي، قبل أن ينقلب عليهم البلاشفة .. تاريخه "الهرطوقي" إذن ، وموقعه "الثوري الفلاحي"، و"الإشتراكي الديموقراطي"، أسقطاه في نظر التيار الماركسي-اللينيني الذي هيمن لعقود على مجال العلوم الإجتماعية في جامعاتنا وعلى التفكير اليساري أيضاً... فهو خائن مرتد عمل مع كيرينسكي "البورجوازي"، ثم وقف ضد الثورة البلشفية، وسُجن وأُضطهد قبل أن يهرب إلى أميركا !! ولكن مصيره في الجانب الآخر لم يكن أفضل حالاً.. فلم يحظ سوروكين في حياته في جامعات أميركا (وفي الغرب الأوروبي) بالتقدير الذي يتناسب مع عبقريته وعظمته.. ولكن سوروكين برغم ذلك هو عالم إجتماع كبير ومبدع: فهو من نقل المدرسة السلوكية والأمبيريقية إلى علم الإجتماع الأميركي.. وهو نفسه من قاد عملية النقد السوسيولوجي الحاد والذكي للمجتمع الأميركي ولعلم إجتماعه ومدارسه، ولثقافته وتحولاتها في القرن العشرين..وهو من كان له المشاركة الكبيرة في نهضة العلوم الإجتماعية في الإتحاد السوفياتي ، بعد سنوات الدمار التي إستمرت من العام 1922 وحتى مطلع الستينيات...
ولكن ما يدعونا اليوم إلى إستذكار سوروكين أنه صاحب نظرية حوار وتفاعل وإنفتاح الثقافات والحضارات لا صدامها أو هيمنة واحدة عليها..فهو كان واحداً من القلائل جداً من علماء الإجتماع الذين عاشوا وكتبوا في النصف الأول من القرن العشرين وكان عندهم في تلك الايام رؤية تحليلية عميقة تشبه النبوءة حول كل التحولات التي شهدتها أميركا في الثلث الأخير من ذلك القرن، بحيث أن أفكاره ونظرياته التي صاغها وطرحها مطلع القرن وجدت مصاديقها في أواخره.. وها نحن اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين نستعيدها ونستعيد معها عظمة ذلك المفكر والفيلسوف والسوسيولوجي والإنساني المبدع.