سعود المولى
ينتظر اللبنانيون، بكثير من الخوف والترقب، أية اشارة ولو بسيطة تسمح لهم بفهم مآلات الوضع في سوريا.. وخبرتهم الطويلة وتجاربهم الأليمة هي التي تملي عليهم موقف الترقب وعدم إستعجال إطلاق الأحكام ولا الأحلام والأمنيات. فالأمر يتعلق بسوريا!! وهم ما تعودوا، ولا تجرأوا، ومنذ عقود ، على مجرد الإشارة اليها تصريحاً أو تلميحاً..
فمنذ أكثر من أربعين عاماً (تاريخ وصول آل الأسد إلى السلطة) تحولت سوريا الشقيقة الجارة إلى "طوطم ـ تابو"، عملت الطبقة السياسية، التي حكمت وما تزال تحكم لبنان، على إخراجها من نسيج حياتنا اليومية، أي من نسيج علاقات القربى والرحم والجوار،ومن إطار التاريخ والجغرافيا ، ومن الإستراتيجية والمصالح والمنافع ، لتحيلها "موضوعاً" سياسياً- أمنياً بإمتياز، حيث لا ناقة للمجتمع الأهلي ولا جمل (لا في لبنان ولا في سوريا). ومنذ أكثر من أربعين عاماً غابت سوريا الحقيقية، سوريا الناس البشر، عبق التراث، وحاضر الشرق، قلب العروبة النابض، تظاهرات الشوارع، قوافل التجار، أفراح الأعراس، أنموذج العيش المشترك والتفاعل بين الأديان والمذاهب والتيارات... وحل محلها في أذهان اللبنانيين وعقولهم: سوريا المخابرات والإغتيالات والتعديات، والتدخلات السياسية، وغير السياسية، في تفاصيل الحياة اللبنانية: الخاصة والعامة.. وأصبح الكلام "عن" سوريا و"حول" سوريا "همساً" في صالونات الطبقة السياسية أو "نكتاً" شعبية ساهمت وتساهم في تأجيج نار العنصرية التي لا ينجو منها شعب من الشعوب..فكيف إذا أبتلي، هو وجاره الشقيق ، بالوبال الإقتصادي وبالإنهيار السياسي وبالإنحطاط الأخلاقي للطبقة السياسية-الأمنية-العسكرية الحاكمة ؟
الحديث إذن عن تأثيرات ما يجري في سوريا علينا في لبنان هو حديث خطير لكن يحتمه تصاعد الثورة الشعبية الشجاعة النبيلة، مجبولة بدماء شهدائها الأبطال الشرفاء، وسط تمادي العجز العربي وتخاذل المجتمع العربي عن مجرد النصرة بالقلب واللسان.
أولاً: يكفي أن الثورة السورية المجيدة ، وبغض النظر عن خواتيمها، قد أسقطت الإرهاب الفكري-المعنوي والعسكري-الأمني المتمثل بشعار المقاومة والممانعة الكاذب.. لقد صال "الممانعون" وجالوا في إنتاج خطاب سياسي ـ أمني (هو مشروع سلطوي بامتياز) مفارق للمجتمع، متغلب عليه وقاهر له، يفكك مرجعياته الرمزية والتاريخية، ويضرب ذاكرته الجمعية، ويقهر قواه الحية، ويصادر حقوقه الأساسية: خطاب إحتكرته نخب "قومجية" "إسلاموية" قمعت الفكر والرأي والتعبير وحتى الأحلام... والحق أنها ما كانت غير قوى تبعية واستزلام وإستقواء، خارج التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والرؤية الواقعية، نجحت في تأجيج نار الديماغوجية الشعبوية بحيث استطال الوهم واستحال رعباً حقيقياً لم يعدم بعض الحزبيين وسيلة لجعله إرهاباً أرعنا، نشهد يومياً عينات منه في حملات التكفير والتخوين واستباحة دماء المعترضين أكان بالاغتيال الجسدي المباشر أم المعنوي-الإعلامي أو كما يجري مؤخراً في الإعتداءات على المتظاهرين من المثقفين الداعمين لحرية الشعب السوري.
ثانياًً: بينت الثورة السورية المجيدة أن محاربة الامبريالية والصهيونية ومخططاتهما لا تكون في الأرهاب الأعمى والاجرامي الذي يستهدف قتل البشر وتدمير الحجر وإنهاك الناس وتمزيق نسيج المجتمعات واستنزاف خيراتها وتاريخها وتوتير المذهبيات والعصبيات الجاهلية.. وأن لا مقاومة ولا ممانعة في ظل القمع والإرهاب والسجون والمعتقلات والتخوين والتكفير...أي أن لا مقاومة دون ديموقراطية وحرية وعدالة وكرامة ، ودون سلم أهلي راسخ ووحدة وطنية متينة..
نعم: الخارج الاستعماري يتربص بنا، يمنع تقدمنا، يعرقل وحدتنا، يجهض ثوراتنا، يتدخل في شؤوننا.. ولكن المشكلة هي فينا نحن! فهل يعقل أن نقارع الامبريالية والصهيونية عبر قتل الأبرياء وتدمير المدن والقرى وترويع الناس وإرهابها وعبر الظلم والإذلال والإفقار والتهميش والتجويع والتشريد ؟
نعم لا معنى لأية ثورة ولأية مقاومة ولأي نضال إن لم يكن من أجل الإنسان : حياته أولاً ثم كرامته ثم حريته ثم حقوقه في الأمن والأمان وفي الاستقرار والازدهار...
ثالثاً: لقد همشت النخبة الحاكمة في سوريا، وضربت وقهرت المجتمع الأهلي والمجتمع المدني في لبنان وسوريا معاً..وهي أفقدت الإنسان حريته وكرامته وحتى لقمة عيشه ومأواه وصولاً إلى احتقار وجوده وإنسانيته. هذه النخبة الطاغية ، لن تخلي الطريق أمام دواعي الإصلاح والتغيير والحرية والديموقراطية. وبالتالي فإن بقاءها أو ذهابها يهم اللبنانيين كثيراً..
والحال أنه لا تغيير حقيقياً في لبنان دون حصول تغيير حقيقي في سوريا.
فالسلطة السورية كانت وما تزال هي المسؤولة الأولى والمباشرة عن إنتاج السلطة السياسية الحالية في لبنان؛ وهذه الاخيرة جرى تركيبها ببطء وأناة منذ بداية التدخل السوري في لبنان عام 1973، وعبر محطات دراماتيكية أهمها الحرب الأهلية 75-76، ثم حرب إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان 1983-1988، فالإنقلاب على الطائف 1992، وصولاً إلى اغتيال الرئيس الحريري في 2005 وعدوان تموز 2006 وعملية 7 أيار 2008، والإنقلاب الأخير في كانون الثاني 2011...
وبالتالي فان آليات التغيير الديموقراطي في لبنان كانت وما تزال معطلة أو "مكربجة" بفعل اليد الضابطة السورية-الإيرانية؛ لكون التغيير في لبنان سيطيح برموز الوصاية السورية ومن خلال ذلك بكل المنافع والإمتيازات التي حصلت عليها الطبقة الجديدة الحاكمة في البلدين... من هنا فإن ما يجري في سوريا سيدفع المثقفين والناشطين اللبنانيين والسوريين إلى إعادة التفكير في تلازم المسارين: الاستقلال والسيادة للبنان والحرية والكرامة لسوريا..
رابعاًً: إن عناوين الإصلاح في سوريا تتركز على ضرب الفساد المستشري في السلطة على المستويات الإقتصادية والسياسية والإدارية. وإن نجاح ذلك سيكون له إنعكاسات كبرى على لبنان. ذلك أن ضرب الفساد والمفسدين في السلطة السورية يعني ضرب مصدر الفساد والافساد وهو الطبقة الطفيلية اللبنانية – السورية- الإيرانية ، الأمنية - العسكرية - المالية. وبالتالي فإن المستفيدين من النظام الأمني السوري-الإيراني سيقاتلون بشراسة للدفاع عن امتيازاتهم، ولو عبر الحروب الأهلية...
وفي مواجهة ذلك علينا، كسوريين ولبنانيين، توليد خطاب سياسي - ثقافي - اجتماعي - اقتصادي متصالح مع المجتمع الأهلي، مع ذاكرته ومرجعياته الرمزية أولاً، ومفتوح على آفاق التطور الديموقراطي في لبنان وسوريا ثانياً، وعلى تشكيل نظام إقليمي عربي جديد ثالثاً... وهنا بالذات تكمن مسؤولية اللبنانيين والسوريين في الحوار الجاد الصريح من أجل أنتاج تسوية ذات أبعاد ثلاثة:
1- تسوية داخلية في كل من لبنان وسوريا على قاعدة مصالحة وطنية حقيقية ، وعفو عام حقيقي، وإطلاق سراح كل المعتقلين في سوريا، وإطلاق الحريات الإعلامية والسياسية في البلدين، الأمر الذي يسمح بإنتاج دولة ديموقراطية فاعلة تستند إلى قوى مجتمعها، وتتصالح مع المجتمع أولاً، ما يسمح بالتالي بايجاد تسوية تاريخية للعلاقات اللبنانية - السورية لكي نتقدم ونتطور معاً
2- تسوية تاريخية في العلاقات اللبنانية - السورية على قاعدة الإعتماد المتبادل والتعاون والأخوة والتنسيق، وضمن أطر وهياكل تنظيمية مشتركة واضحة وشفافة، وفي سياق إعادة بناء النظام الإقليمي العربي وجامعة الدول العربية بعد ربيع الثورات العربية..
3- تسوية خارجية حول دور لبنان وسوريا في الوطن العربي وفي العالم تنطلق من الإلتزام بالشرعية الدولية وبالعلاقات الشفافة مع المجتمع الدولي ومؤسساته وتعمل مع الدول الصديقة على صياغة نظام عالمي جديد يكون أكثر عدلاً وأكثر توازناً.
خامساً: إن وثيقة الطائف هي الإطار المرجعي ـ الفكري الذي يوحّد اللبنانيين في رؤية مشتركة لشؤون حاضرهم ومستقبلهم. وهي قراءة للعلاقات اللبنانية ـ السورية تنطلق من ثابت مركزي مرجعي موحد (عروبة لبنان وروابطه الوثيقة مع سوريا) لا من موقف سياسي مرحلي أو من إعتبار فئوي متقلب. وهذا الأمر يسمح بإرساء العلاقة والحوار مع سوريا على قاعدة متينة، ثابتة ومستمرة، لا تخضع لتقلبات الأهواء أو للأمزجة الشخصية أو للمصالح الحزبية والفئوية والطائفية الضيقة، فلا تتغير تالياً بتغير الأشخاص أو الظروف أو بتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية.
لقد حسم إتفاق الطائف المسألة السياسية المركزية: لا توجد أدوار سياسية ـ أمنية ـ عسكرية متناقضة بين لبنان وسوريا (سلماً أم حرباً في المنطقة). وانتهت إلى الأبد تلك المرحلة التي كان يمكن فيها إستخدام لبنان مقراً للتآمر على سوريا أو معبراً للهجوم والإنقضاض عليها. وتكرس مبدأ الإعتماد المتبادل والتعاون والتنسيق في المجال الخارجي (الموقف حيال المفاوضات والتسوية في المنطقة كمثال) كما تكرست حقائق وجوب حماية الخاصرة السورية وعدم السماح بأي إختراق أمني ـ عسكري لسوريا من لبنان... أي أنه لا يمكن إختراق سوريا من لبنان، ولا تضعف سوريا إلا إقليمياً أي في حال ضعف موقعها ودورها في المعادلة العربية وخصوصاً لجهة علاقتها بمصر والسعودية. أي (وبصريح الكلام) إن عوامل الضغط على سوريا ليست موجودة اليوم في لبنان إنما هي في سوريا ذاتها (الوضع الداخلي) وفي الموقف العربي والإسلامي والدولي الذي كان يؤمن لها الغطاء والسقف (كما أمّن للمقاومة اللبنانية غطاءها وسقفها السياسي وحماها وساعد في إنتصارها). وبالتالي فإن المرحلة المقبلة (مهما كانت نتائج الثورة المجيدة) لا بد وأن تشهد إعادة تموضع سورية عربياً ودولياً على أساس تضامن عربي مبني على الصراحة والوضوح والشفافية والتعاون المشترك على الخير والسلم..وهذا بالطبع سيكون له أفضل الإنعكاسات على استقرار لبنان وازدهاره..