طارق متري
تتكرّر لازمة عدم التدخل في شؤون سوريا الداخلية، كلما دفع عنف النظام السوري لبنانيين من مشارب فكرية وسياسية متنوعة الى اعلان ادانتهم الأخلاقية لممارساته المتمادية. في الظاهر، يؤكد هذا الترداد ما هو بمثابة المؤكد، طالما ان لا خلاف بين اللبنانيين على المسألة. غير انه، في حقيقة الأمر، أقرب الى التورية عند البعض لتأييد النظام السوري، على قلّة الحاجة الى التورية. وهو ذريعة للضيق بأي موقف لبناني متعاطف مع الشعب السوري. والضيق يتحوّل تهجّما على المتضامنين او إرعابا لهم. ونشهد، يوما بعد يوم، دعما لبنانيا رسميا صريحا لحكّام دمشق وضغطا على كل من يقف الى جانب الشعب الشقيق.
ويستوي في الموقف المنحاز الى الحكم السوري "الممانعون" و"الممانعون الجدد" وأهل الحذر واللغة المزدوجة من القوى المؤتلفة في حكومة لبنان. يتبادلون الحجج ويتناوبون، كل على طريقته، في تبرير ذلك الموقف.
ولا يقلق اصحاب الممانعة ان فكرتهم الناظمة للسياسة في لبنان والمنطقة والعالم، لم تعد تفسّر كل ما يجري في غير بلد عربي، و لا سيما في سوريا. ولا يضعون تحت السؤال عمارة نظرية فيها اسقاط للماضي على الحاضر واضفاء الشرعية والصدقية على مصالح ومقاصد ونوازع لا تدور، بقدر ما تدّعي، حول مقارعة اسرائيل. ويمارس الكثيرون منهم سياسة تنشغل بالحفاظ على نظام سمى نفسه ممانعا والانضواء في احلافه والإسهام في تحسين مواقعه عند المساومات ومحاربة "اعداء الداخل". ويولون كل ذلك أهمية تفوق نصرة فلسطين. ولا يقرّون، في أيامنا هذه، ان فكرتهم المذكورة لم تحرّك شعوبا منتفضة لطالما نطقوا باسمها. ويصرّون على اولية المؤامرة، ومعها خطط الخارج، على التحوّلات الداخلية العميقة والمذهلة. ولا يربكهم الاضطرار المتكرّر الى تغيير رواياتهم عن هوية المتآمرين ومآربهم. ولا تحرجهم الوقائع التي تبيّن قوة الانتفاضات الشعبية واستقلالها عن تردّد السياسات التي تنتهجها الدول القريبة والبعيدة وتقلبها وتشوّشها.
فالقول بالممانعة مكتف بذاته. وكثيرا ما يفسّر نفسه بنفسه. ويفترض ان ما يعنيه او يشي به لا يحتمل المناقشة. ويحسب ان صحته أقرب الى البداهة. ويضمر حكما قيميا لا يحتاج الى مسوّغات. ويختصر المسافات و الأزمنة ولا يقيم وزنا لاختلاف السياقات. وهو ممتلئ بذاته ومتعال في كليته وعموميّته عن جزئيات الوقائع والدوافع والذرائع. ويستعجل عدد من اصحاب هذا الكلام تصنيف الناس والإشادة ببعضهم والتنديد بمن عداهم. ولا يفصحون عن معاييرهم في اصدار الأحكام. و لا يفرّقون الا قليلا بين ما يراه الآخرون ويعلنونه وما ينسبونه اليهم او يصمونهم به. ولا يميّزون بقدر كاف بين ممارساتهم الفعلية ونياتهم المفترضة. وعلى هذا النحو يتحوّل الإنصاف، ومعه النزاهة الفكرية ورصانة المعرفة، الى عبء لا يرغبون في تحمّله. فثقله يشوّش ثنائية الرؤيا التي تضع الممانعين في مواجهة المتآمرين.
والقول بالممانعة يعي نفسه بصفته مواجهة للمؤامرة. والمؤامرة عند فئة كبيرة من الذين يفترضون انها سبب البلايا كلّها عملية مستمرة، ذات جوهر ثابت، ولا تحتاج الى ادلة أو براهين. وهي واحدة في الأصل وان اتّخذت اشكالا متعددة. لا تتغيّر بل تتلوّن. والمتآمرون كثر، في الخارج والداخل، وهم يجتمعون على وحدة القصد في النيل من الممانعين. ولا يغيّر في وعي المتصدين للمؤامرة واقع يعصى على نظرياتهم، بل يدحضها غير مرة.
من جهتهم، يحار "الممانعون الجدد" في أمر التحاقهم المتأخر بأهل الممانعة. يصمتون حينا ويغالون في اظهار قناعاتهم المحدثة حينا آخر. يستعيرون كلمات سواهم. تبدو غريبة على ألسنتهم لأنها آتية من خارج ثقافتهم السياسية وتجربتهم. وفي بعض الحالات لا ينفكّون يردّدونها، وان من دون حماسة كبيرة ولا عناد ايديولوجي. فيخال بعضهم او يوحي انه يرى ويسمع أوضح ممّا يراه او يسمعه الآخرون، فيصف على هواه مجريات الأحداث، وأهمها ما يتصل بالقمع الدموي الذي لا رادع له. و يغيب عن انظاره توق الناس الى الحرية ورفضهم للاستبداد وتأكيدهم ان كرامة الوطن لا تصان على حساب كرامة المواطنين. أكثر من ذلك، يستخف كبيرهم بمرجعية حقوق الإنسان الكونية بذريعة ان دولا غربية تكيل بمكيالين. وينزلق آخرون الى التشكيك في حركات الاعتراض والتغيير العربية خوفا من ان تكون تنفيذا لمخطّط عدو يعمل على شرذمة العالم العربي وتفكيكه. وتوقعهم خشية ما يخبئه المستقبل في أسر الأقلوية التي غالبا ما ترى الأقلية، والأقليات مجتمعة او متحالفة، في حالة مواجهة خطرة مع الغالبية.
اما أهل الحذر فيشاركون الممانعين ومقلدّيهم في الإنكار تارة، وباسم الواقعية يبتعدون عنهم طورا. والحذر عندهم يستعين بالخدعة احيانا، ويستدعي المهارة دائما. ولعلّ السياسة عندهم حذر ومهارة محض.
وفي حالتي الإنكار والحذر، انكار الممانعين والسائرين في ركابهم وحذر اصحاب الآراء الملتبسة، تتساهل السياسة في أمر الحق واخلاقه.