ظهر في الثورات العربية ونقدها الكثير من الكتابات والمواقف التي تركز على ثنائية الداخل والخارج• وتبيّن بأن المقصد من هذا الطرح هو أساسا استهداف وتقييم التموضع الجغرافي لرموز المعارضات لحظة تفجر الاحتجاجات الشعبية التي أدت فيما أدت إليه إلى سقوط بعض الرموز الاستبدادية وبدء عملية تحوّل سياسي معقدة حمّالة أوجه ومفاجآت• وبالمطلق، يبدو بأن هذا التساؤل هو عملية طرح لموضوع جدال سياسي وعلمي بامتياز، يركز الضوء على جانب هام من تاريخ الحركات المعارضة العربية أو شخوص المعارضة المستقلين•
ولكن الطريقة التي تم من خلالها التركيز على هذا الجدال جانبت التصنيف الموضوعي لتتبلور في إطار توزيع الشرعية والمشروعية• ووصلت أحيانا حتى إلى البحث في توزيع ''غنائم'' الثورة إن هي انتصرت أو أفضت إلى تغيير جذري في قمة الهرم المتهالك لاحقاً• وقد أصبح من المعتاد أن يسمع بعض المنخرطين ''الخارجيين'' في النشاط الفكري أو السياسي أو الإغاثي للثورة، تقريظا من قبل بعض عتاة المعارضين التقليديين الخارجين حديثا من بلدانهم وملتجئين إلى دول الاغتراب التي ينشط فيها الصنف المستهدف• حديثو الهجرة يواجهون القدماء في هذا الحقل معاتبين أحيانا ومشككين أحيانا أخرى• فمن الجمل التقليدية في هذا الإطار مثلا: ''أين كنت أنت عندما أمضيت أنا سنوات سجني؟ وما هو مصدر مشروعيتك الشعبية؟ وحين كنا ننشط وتتم ملاحقتنا، كنت أنت تمارس عملك بكل راحة بال• وبالله عليك، ألم تكن تتحاشى أن تنتقد النظام بقسوة لتسنح لك العودة وقضاء الإجازة وترى ''الوالدة والوالد''؟
إضافة إلى هذا الخطاب المثبط، يمكن التعرّف أيضا إلى صيغة أكثر حدية تحمل في مفرداتها وفي موسيقاها الكثير من الضغينة والتأفف• تصل أحيانا إلى التشكيك بدوافع وخلفيات الانخراط في العمل الوطني حتى لا نستخدم عبارة الثوري• ويوزع حاملو هذا الخطاب، شهادات الاستحقاق بما يتلاءم بعدد سنوات الاغتراب أو الابتعاد عن المجال الجغرافي المعني بالثورة• أو من جهة أخرى، بما يتناسب مع عدد السنوات التي أمضوها في معتقلات المستبد أو كانوا خلالها معرّضين لملاحقته وتهديده•
وبمحض الصدفة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد، يلتقي حملة خطاب التشكيك هذا بصيغٍ حكومية أو سلطوية، يتلظى بها من ينطقون باسم السلطة المستبدة ويطورونها• فالمعارضة إما داخلية فهي ''وطنية'' أو خارجية فهي ''خائنة''• وتتبنى بعض القوى الدولية هذا التصنيف وتطوّره، مع عدم التمييز بين الدول الداعمة لفظياً للثورة أو تلك الداعمة عمليا للنظام• ويصبح من العادي وبل من المكرر أن تسمع الدبلوماسيين والصحافيين الغربيين يستخدمون البعد الجغرافي كعنصر تحليل أساسي في محاولتهم فهم ما يجري في البلد المعني•
بالتأكيد، يعتبر البعد الجغرافي عن ساحة ''المعركة'' عاملا هاما في تحديد بعض الأبعاد المتعلقة بالانخراط في العمل الثوري• ويمكن أيضا التأكيد على الابتعاد عن واقع البلد المعني لمن غادره جسدياً لفترات طويلة• ولكن هل هذا يكفي لكي يجري إقصاؤهم أو بالحد الأدنى، تهميشهم وإعطاءهم الدور الثانوي في العمل الثوري بكافة أشكاله السياسية والإنسانية والفكرية؟
فمن أهم نتائج الثورات العربية بروز فئة هامة من المهاجرين أو المبعدين التي انغمست في أتون العمل الثوري بكل طاقاتها• وهي بالأساس، إما غير مسيّسة أو تركت السياسة لأسباب متعددة أهمها القهر الذي عاشته وأدى بها إلى الهجرة• ولقد ظهرت تكوينات ثورية هامة مالياً ومعنوياً في بلاد المهجر وأدت دوراً ملفتاً في جانبين أساسيين: جذب أنظار الرأي العام إلى ما يحصل من انتهاكات ومن أعمال قمع دموية في بلد الأصل، والثاني، تعزيز العمل الإنساني من حيث جمع التبرعات أو من حيث تبني العائلات الضحية أو الطلبة الذين أقصاهم المستبد وزبانيته عن تحصيل العلم لمواقفهم السياسية• أضف إلى ذلك، فقد عززت الكوادر العلمية والتكنوقراطية في الجسم المهاجر من قدرات الباحثين عن غد أفضل وفي المساعي التحضيرية لليوم التالي• وساهمت هذه الكوادر بخبراتها العملية في صوغ برامج انتقالية دون أن تضفي عليها مناحي إيديولوجية وأبعاد سياسوية• وكانت في هذا، عوناً هاماً وأساسياً في طمأنة الرأي العام الداخلي بوجود برامج بديلة وبوجود خطة أو خطط مقابل الفراغ الذي سيقع بعد سقوط نظام الاستبداد• وقد لوحظ بأن الخطاب العلمي الذي طوّره هؤلاء، يتجاوز أحياناً بعقود الخطاب العاطفي والحشو اللفظي الذي استمر بتبنيه البعض من المعارضين الخارجين حديثاً• مع وجود غربة كاملة لديهم عن المصطلحات العلمية وعن التجارب في عدد من البلدان الأخرى التي تساعد في تصور نماذج التغيير المختلفة وانتقاء الأنسب منها للوضع المحلي•
إشكالية المكان هي عبارة عن حجة لا سند لها في المنطق• فعلى الرغم من النواقص العديدة لدى من هم في الخارج على مستوى المعايشة اليومية للواقع الداخلي، إلا أنهم يظلون مرتبطين بشكل شبه مرضي بما يحصل في بلدهم الأصل• إضافة إلى أن الكثير منهم لم يختر الهجرة لأسباب اقتصادية بحثا عن لقمة العيش بل هم هاجروا بحثا عن جرعة الحرية التي حرموا منها• هم بالطبع لا يتفوقون في شيء عمن دفع سنوات من عمره في غياهب سجون المستبد وتعرض للتعذيب• ولم يسبق لهم أن نادوا بذلك•
في عملية النضال المشترك تضافر جهود الجميع هو الدعامة الكبرى لكل تغيير صحيح• رمي الألقاب والصفات وتحديد المشروعية ليست في صالح الساعين إلى الجرية والكرامة• المشروعية تحددها صناديق الاقتراع وهذا سابق لأوانه في حالات عدم نضوج العملية السياسية النضالية وتغيير نظام الحكم القائم• والمكان الجغرافي، على الرغم من أنه يعطي بعض المؤشرات الضرورية لفهم عقلية وآلية التحليل للأوضاع القائمة وسبل الخروج منها، إلا أنه لا يمكن أن يستخدم كسلاح سياسي في نزع المشروعية أو في الإقصاء أو في التبخيث• للجميع أدوارهم وللجميع مساحتهم بعيدا عن الفردية المرضية التي تبرز في عدد من الحالات• والابتعاد عن الفخ اللفظي الرسمي المحدد للوطنية بالاستناد إلى العامل الجغرافي، يساعد في بلورة صيغ مختلفة وبناءة لمستقبل الجميع•