بعض من سيرة بيروت لبنانية ومتوسطية وكوسموبوليتية ... منكرة وكريهة
المستقبل - الأحد 28 نيسان 2013 - العدد 4674 - نوافذ - صفحة 13
وضاح شرارة
على شاكلة سليمان تقي الدين (اليسار اللبناني وتجربة الحرب/ منظمة العمل الشيوعي اللحمة والتفكك- دار فارابي، بيروت، شباط 2013، 314 ص) ربما، أعتقد أن موضوع عمله، أو روايته ونقده، أي «منظمة العمل الشيوعي»، وروافدها وفروعها، «اعتصرت عمر مئات الشبان والشابات» كان منهم أو فيهم سليمان، كاتب العمل، وكاتب التعليق على عمل سليمان. وهو يذهب الى «استحقاق التجربة» الرواية، ويسوغ حقها هذا بقضاء بعض الشبان والشابات «مستشهداً تحت راية افكارها»، وبخيبة بعض آخر و»مرارته وتشرده ومعاناة حال التهميش والحصار وشظف العيش وعدم الاستقرار». وأحسب ان الشق الثاني من التجربة، على معنى الابتلاء، كان الانتساب الى المنظمة العتيدة هو السبب فيه، من غير ان يوضح الكاتب لقارئه لماذا ترتبت الخيبة والمرارة والمعاناة... على الانتساب هذا، واستوت و»الشهادة» جزءاً لازماً يجزي لا محالة الاشتراك في مثل هذا «العمل». وتنم الاشارات التي مرت، وغيرها مثلها كثير في مقدمة العمل، بتنبه كاتب العمل على قوة العامل الشخصي والذاتي «العاطفي» الذي لابس، على انحاء كثيرة، استواء اجتماع الشبان والشابات وتماسكهم على هذا المقدار أو ذاك، منظمة أو حركة سياسية يؤرخ الكاتب لولادتها والتحامها ولا يشك في تفككها منذ وقت طويل.
ويتوقع قارئ الكتاب، وهذه حالي، تولي المؤرخ «مهمة» عسيرة مأتى عسرها اضطرارها الى الجمع بين وجهين متفرقين وربما مختلفين: وجه العام السياسي ووجه الدواعي الشخصية، الثقافية والاجتماعية، الخاص والسيري (نسبة الى سيرة أو سير). فلما لم يفتتح المؤرخ تأريخه بالنبرة الذاتية التي تقدمت بعض عباراتها، والامثلة عليها، يحسب القارئ ان سليمان تقي الدين عازم على سرد حوادث سياسية وتنظيمية وفكرية على شاكلة تلك التي سردت مثلها مئات الاعمال التي تناولت حركات سياسية سابقة ولاحقة. فحين تناول محمد ابراهيم دكروب، مؤرخ الحزب الشيوعي اللبناني الرسمي، تدوين اخبار رفاقه ووقائعهم، لم يحمله الامر، على رغم غنائية وملحمية مظفرتين وموروثتين من «سقي الفولاذ» في السهول الاوكرانية والسهوب السبيرية واجتثاث الكولاك، على التنويه باعتصار العمر ولا على طلب الثأر للخائبين والمريرين والمهمشين. ولست أذكر أن مؤرخ حركة القوميين العرب أو أحد أواخر مؤرخيها، توسل بهذا النحو في الكتابة والإخبار.
وتقريب النحو من «أخبار» الجهاديين المحدثين، ومن مديحهم قتلاهم وإقدامهم وشجاعتهم وإيمانهم، ليس من قبيل الغمز ولا التحامل، بل هو (التقريب أو المقارنة) دلالة على ضرب من التناول والمعالجة يدير الظهر، عمداً او عفواً، لمعيار الانقطاع أو التعليق الذي يفترضه التأريخ. فالخوض في جملة من الحوادث والوقائع والاخبار يأتلف منها موضوع واحد، هو منظمة سياسية في هذا المعرض، يقتضي تمييز زمن الرواية من زمن الراوي، وبواعث «اصحاب» الحوادث من بواعث كاتب الرواية...
ولعل مزج الازمنة والاوقات والبواعث بعضها ببعض، والاحتجاج باللاحق منها على «خطأ» السابق أو «صدقه»، من عيوب التأريخ الفادحة. ولا يتفادى صاحبنا بعض هذه العيوب. فيكتب أنه «خرج» من منظمة العمل الشيوعي في 1982، وهو كان معارضاً في 1979 ومستقيلاً من «المسؤولية» ثم «منكفئاً» سنة كاملة. ولم يلبث «الحزب» ان «تلاشى» في 1983 1987، على قوله. فيخلص الى «عبرة» أظن أنها لا تتفق وعمل التأريخ الذي ينسب إليه الكاتب نفسه وكتابه، وهو ليس كتاب عبر، ويكتب:»... أي ان ذلك (التلاشي) يفسر موقفي عام 1982». فالعبر لا تستقيم، أي لا يستقيم استخراجها واستنباطها، إلا إذا حملت حوادث التاريخ على غاية لاهوتية أو قصداً أخروياً أو على «قوانين» يستشهدها مناضلو المنظمات والاحزاب اللينينية والستالينية، ويتواتر التذكير بها في بيانات منظمة العمل الشيوعي وتقاريرها الداخلية في اثناء الحروب اللبنانية الفلسطينية (العربية): قوانين العمل الجبهوي ص 143 ، قوانين الصراع السياسي والعسكري، وغيرها مثلها يقع عليها قارئ الوثائق في الكتاب.
الاسماء
وإذا ألمحت المقدمة الى ما يشبه سير الذين اشتركوا في هذا الضرب العام والمشترك من السياسة والعمل والتفكير، فمباشرة التأريخ والرواية انصرفت عن تناول السير على وجوهها كلها. فلم يبق من هذه إلا لائحة اسماء صماء وخرساء لا تنم بأضعف التعريف أو اقله. وانتزعت الاسماء من أبوابها المشتركة، تلك التي تصف أو تعرف «تاريخ الحياة»، على قول بعض الاجتماعيات، وتسرد سرداً جامعاً وضيقاً معاً بعض الحيوات وسيرها وتراجمها (وكتب «السير والتراجم» فن من فنون الاخبار وصنعة الإخباريين). فيبقى «الشبان والشبات» في سنهم الواحدة، لا يتقدمون فيها، ولا «تخني عليهم»، على قول شاعر ليس من الجهل في شيء، على رغم انقضاء الاعوام. والسن الجامعة في باب اجتماعي مشترك، وهي تصلح تعليلاً لتقاسم نازع متقارب يصل بين افراد معاصرين ويعاصرون بدورهم من ليسوا من جماعتهم ولا من دائرتهم، هذه السن تبقى في التأريخ المفترض من غير مضمون.
والسن باب مشترك، من وجه، وباب متجدد، من وجه آخر: فلا يبقى الشبان شباناً، بديهة، ويدخل فتيان مراهقون في سن الشباب وحدِّه تباعاً على شاكلة المدعوين الى الخدمة العسكرية وأفواجها، بديهة كذلك. ويفوق هذه البدائه معنى ومكانة ما تتيحه هذه السن لأصحابها في وقت من الاوقات، هو الثلث الثاني من الستينات المنصرمة، خيالاً وآلات وعملاً ورغبات ومواصلات، ولم تتحه لجيل أو نصف جيل سبق، في مطالع الخمسينات على وجه التقدير والتخمين. فما كان معنى او معاني الدخول في العقد الثالث، ومراحله ومحطاته المتفرقة، في ستينات القرن الماضي التي «يؤرخ» سليمان تقي الدين لها؟ ومن معاني الدخول الدراسة، وفروعها وحقولها وهيئاتها وبلدانها وجمهورها، والمهنة، ودوائرها وعلاقاتاتها ومحلها ومداخيلها وحراكها؛ والجنس، والاسرة، ومخلفاتها الكثيرة من ثقافية وطائفية ومادية ومحلية... والسكوت عن هذه، وبعضها معرفته متاحة وغير خافية، يقود التأريخ المفترض الى طريق ليس طريق «التجربة»، لا على المعنى «الرومانطيقي» الذي يضمر «المعاناة» ولا على المعنى الوصفي الذي تنشده الاجتماعيات. وهي ليست طريق فهم نشأة الجماعات السياسية، وما يكتنف نشأتها واستقرارها على هذه الصفة من عوامل ليست ابتداء أو مباشرة سياسية مثل الثقافة والسوابق العائلية والمحلية والجنس وغيرها.
فلما ترك الكاتب هذه الطريق، او هذه الوجهة، وهي بدت لوهلة أولى مناسبة لحال الذين يؤرخ لهم ولغلبة النزعات الثقافية و»الذاتية» على اجتماعهم، توجه وجهة سرد سياسي تقليدي وذهني، فافترض للحوادث والوقائع المروية على ابواب «صحافية» أو خطابية سائرة ومعروفة دلالات ومفاعيل متوقعة. فيكتب أن «لكل مهنة في العالم شكلاً تظهر به (و) على الحزبي اليساري ان يتخذ لنفسه علامة فارقة في الشكل ثم المضمون. عليه أن يتبع (الموضة) السائدة في وسط بيئته المحلية او العالمية. عليه أن يتصرف اقتداءً بأئمته...» (ص 59-60). وكان مهد الكاتب لبرهانه الاستدلالي والدائري بالقول: «اتخذ اليسار لنفسه (طريقة)، فهو بداية عمل سري يحتاج الى اقنعة كما يحتاج الى وسائل تواصل مخفية عن عيون الرقابة السلطوية، كما يحتاج الى ان يختبر تماسكه الداخلي قبل ان يطرح نفسه على الجمهور. كانت بدايات اليسار محاولة لتجريب فعالية الانتماء والالتزام والقدرة على الحركة» (ص 58 59). ويستخرج الكاتب سماتٍ وأفعالاً من لائحة «الحاجات» الرمزية هذه. وهي، في هذه الحال، رغبات وليست حاجات. ويقتضي تعليلها افتراض مبانٍ رمزية اجتماعية على شاكلة المبنى الحسيني الحزب اللهي، أو المبنى العصبي والتأويلي الحلولي التقدمي الاشتراكي الجنبلاطي، أو المبنى الامبراطوري البطولي والاسطوري والادونيسي القومي السوري... وهو يدمج الرغبات في الذرائع العملية والظرفية التي يحدس فيها: الاحتياج الى «احتكاك مادي جسداً الى جسد مع سلطة مادية أخرى لكي يستفز طاقاته الثورية» (ص 61). وصادفت تظاهرات 23 24 نيسان 1969، فكان «الاحتكاك»، و»الاستفزاز» و»الثورة»...
امتحان «الجماهير»
ويحصي «اليسار اللبناني وتجربة الحرب» مسارح تحريض مطلبي ومهني متفرقة جغرافياً واجتماعياً، ويرصفها رصفاً على شاكلة رصفه اسماء العلم عارية مما يُعلِمها ويدل عليها ويصفها ويدرجها في جُمَل و»عائلات» وروابط. وما يُعلم ويدل ويصف هو جملة الفروق التي تنعقد منها فرادة الحادثة أو الحوادث، من الدواعي الى النتائج الجزئية والظاهرة المقدرة. فيقص على القارئ أن حركة طالبية ناشطة نهضت في «اواسط الستينات» حيث «حضور (...) أحزاب اليمين الطائفي المسيحي... كثيف» (ص 162). وسليمان تقي الدين يكتب هذا او ينشره على الملأ في 2013، ولا يرى داعياً يحمله اليوم إما على نسبة الألفاظ ومعانيها الظرفية الى وقتها وإما على الاستدراك على هذه المعاني وتعريفها من جديد. فيخلص القارئ الى ان الجامعة اليسوعية ببيروت كانت «بيئة محافظة»: على معنى «محافظة» التدريس الإمامي في النجف، على ما وصفه محسن الامين او محمد مهدي الجواهري؟ أم على المعنى التربوي والمنهجي الذي انتقدته حركات الشباب او الطلاب في 1968؟ أم على المعنى الاجتماعي والمعياري «الخلقي» الذي طعن فيه أو عليه تلامذة «اتحاد قوى الشعب العامل» الناصريين والثانويين يومها؟ أم على معنى الانطواء على (نفس) الجماعة، وعاداتها وتقاليدها ومهنها وبلادها، الذي بدا للطلاب اللبنانيين الشيعة المخلفين قبل نصف قرن من يومنا وراءهم مراقبة أهلهم في الضيعة أنه (الانطواء) صفة بارزة في السنة والدروز العروبيين والناصريين و»التقدميين» وفي «الثوريين» الشيوعيين العراقيين والسوريين والفلسطينيين؟
ونعتُ الطلاب الجامعيين المسيحيين، وعلى الاخص الكتائبيين منهم، باليمين الطائفي قصد به يساريون فرادى وطلاب، قوميون عروبيون أو سوريون، ومسلمون، وشبان عموماً، نسبة آرائهم أنفسهم، دون خصومهم، الى عمومية سياسية وغير أهلية، غافلين عن صدور عموميتهم المزعومة عن خصوصية أهلية، طائفية و»يمينية» من ضرب آخر، تفوق خصوصية الخصوم الاهلية. ويتصل التقسيم والتفاوت هذا الى دوائر الجماعات الأخرى: فـ»حركة الوعي» ضوت طلاباً في الجامعة اللبنانية، جاؤوا من «الارياف المسيحية المهمشة ومن البيئات الفقيرة»، أما حركة «كفاح الطلبة» فنشأت في الجامعة الاميركية و»ضمت أطيافاً مختلفة من شباب اليسار والقوميين العرب والبعثيين...» (ص 62). فيُعفى اليساريون والقوميون العرب والبعثيون، شأن من يمتون الى حركات أو جماعات تتستر على أهليتها الاسلامية أو المسلمة العميقة بعمومية جامعة صورية، إيديولوجية وذرائعية عملية، يعفون من نسبهم الأهلي. ويسكت عن تعليل عموميتهم السياسية المعلنة، هم المتحدرون تاريخاً وعصباً من جماعات غالبة وحاكمة في دول وسلطنات الاسلام أو احد مذاهبه دينُ طبقاتها الحاكمة، وسند مشروعيتها وحقها «الطبيعي» في الحكم. وعلى هذا، فالتنبيه الى مذاهب الحاكم، وأهله و»طبقته» أو أعوانه، يحسبه الحاكم طعناً في مشروعيته، وتمييزاً من الكثرة الغالبة وتفريقاً، وتأليباً عليه. والمثال السوري، العلوي، قرينة صارخة على هذا: فالاشارة الخفية أو الهامسة الى مذهب الحاكم وعسكره وأجهزة أمنه ومراقبته عدوان «طائفي»، ويميني، على قول صاحبنا، وقريباً، في بعض الصفحات اللاحقة حين يعالج مراحل انفجار الحروب المتناسلة، عدوان فاشي. وفي الاثناء حل نعت التكفيري محل الفاشي. ومن يطلق النعوت المعيارية، ويعفي نفسه من تقييد المعاني وتعريف المفهومات هو من يجلس في واهمته، على قول بعض الكتاب النهضويين، في كرسي «الدول» التقدمية. وحسبان «اليسار»، أو الجماعات (اللبنانية والعربية) التي تنسب نفسها الى تراث سياسي واجتماعي وفكري أوروبي قام على نقض المراتب في تثبيت شروط المساواة وعمومها، أنه فوق الفروق والحدود الطائفية والمذهبية امتحنه وقوضه خروج هذه الجماعات من المعارضة، ومن الدائرة الاجتماعية الضيقة والطالبيةعلى الاغلب، الى رحاب الساحة والخط الجماهيريين العريضين، والى التربع في السلطة من طريق الانقلاب.
وسبق الحركة «الوطنية» اللبنانية المزعومة، والعروبية العصبية والجهازية فعلاً، الى الولوغ في الصبغة الطائفية قبل ولادة حركات مذهبية متسلطة ومسلحة، إسفارُ البعث «العلماني» في سوريا والعراق عن نظامين اهليين علوي وسني، حال سطو الجهاز الحزبي العسكري أو الميليشياوي على السلطة، وسعيه في إرساء عصبية متماسكة يستمدها جيشَ أنصاره وموظفيه ومواليه والمقاتلين دونه إذا حم الخطب وفشت الحرب الاهلية، وهي أفق الانظمة العلمانية والتقدمية والقومية (العربية) الماثل على الدوام. فليست العلمانية أو العمومية السياسية التي تبيح للكاتب اليوم وأباحت لمن هم مثله في ايام سابقة، إعمال أبواب اليمين واليسار والطائفية والفاشية والوطنية والطبقية... في التأريخ والرواية إلا فضيلة قلة لم يمتحنها «خط الجماهير»، ولم يعركها الحكم وموازين القوة والنفوذ والتمثيل التي تلازمه.
وقد تبدو هذه الملاحظات استطراداً ينحرف بالتعليق على كتاب سليمان تقي الدين عن موضوعه وغرضه. والاستطراد لا شك فيه. ولكنه لا يخرج عن سويته وقصده. فالمسألة الراجحة في نهاية المطاف، وهي لا يسهم التاريخ المفترض في تناولها من قريب أو بعيد، تتناول تحول روافد حركة مدنية ووطنية وديموقراطية اجتماعية من سماتها هذه الى فصيل مقاتل على جبهات حروب عصبية وجهازية استخبارية وإقليمية لا يحيط (الفصيل) ولا يلم بأثخن حبالها فكيف بخيوطها الدقيقة. والحق ان ما جمع شتات الاشخاص والرغبات والحاجات والمصالح الذي ائتلفت منه المنظمة السياسية لاحقاً، وصدرت عنه روافدها، أو رافداها المتشابهان على رغم بعض الفروق، هو نقضان متلازمان: نقض على الحزب الشيوعي اللبناني ونهجه المحابي للثقافة السياسية السوفياتية وتسويغاتها الجهازية والقمعية في الداخل والخارج، ونقض على الناصرية وعروبيتها الفوقية والاهلية وإنكارها حقوق المعارضة والمنازعة ووصايتها على الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية. وافترض النقض المزدوج أو المتصل جواز أو إمكان، وفي الاحوال كلها افترض ضرورة تلقائية اجتماعية داخلية أو وطنية تضع الامور في نصابها الحقيقي والصحيح. فتستقر النزاعات والتحالفات على مصالح معلنة ومفهومة؛ وتنكفئ الجماعات من هذه الطريق الى مسرح داخلي وطني ترسم حدوده الفاصلة وقواسمه المشتركة غير المنكرة مفاوضةٌ دائمة هي جزء من إعلان المصالح والحياة السياسية الوطنية داخل الهيئات الدستورية وخارجها؛ ويماشي الإقرار بانفصال المجتمع وحكم الدولة واحدهما من الآخر إقرار بمزاولة الحق في المعارضة والمنازعة بوسائل غير الانتخابات النيابية وتقوم على المواجهة والتأليب والخلاف وامتحان موازين القوى علناً.
وعول النقض المزدوج على هذه الوسائل في سبيل استرجاع «العائلتين» الشيوعية والناصرية الى دائرة سياسية لبنانية مركزها في داخلها. وراهن أصحابه على مفعول مراكمة الاختبارات و»وعيها» وتخزينها، إذا جاز القول. ولم يقتصر معنى «المركز في الداخل» على الاستقلال السياسي و»الامني» الوطني (كان الوقت وقت عبد الحميد السراج والمكتب الثاني...)، فتعدى السياسة والنفوذ الى الحركات الاجتماعية والثقافية، او الى الرأي والاسهام فيها. فلم يبدُ «اللعب» بالاعيان والاحزاب والوزراء وكبار الموظفين والضباط وقبضايات الاحياء ومدراء المصارف ومسؤولي النقابات وأصحاب الامتيازات الصحافية أشد فداحة ووطأة على نضوج «الثورة» أو «الحياة» الاجتماعية والديموقراطية من إقحام الشيوعيين والنصاريين وغيرهم أنصاراً ومحازبين كسالى ولا مبالين ومطيعين على الانتخابات النقابية الحركات المطلبية. وتصورت المواطأة العامة على إدارة مرافق الانتاج والعمل والامن والتأهيل والرأي والخلاف «حبياً»، على ما يقال، ومن وراء ظهر الجمهور أو اصحاب العلاقة، على ما كان اصحاب النقض المزدوج يفضلون القول، في صورة الفضيحة. فنازع أصحاب النقض المزدوج أو دعوتهم ودعواهم، كانت الى بلورة مصالح قاطعة، وناتئة القسمات، يحتكم أصحابها ومنظماتهم علناً الى منافشة لم تكن يومها تسمى هابيرمازية (نسبة الى هانس هابيرماز داعية اخلاقيات المناقشة في دائرة علانية عامة ومشتركة)، والى منازعة تستبعد العنف المباشر ما أمكن.
طبقات صريحة
وكان سائق هذا الرأي أو النازع هو إيقان «ماركسي» بميل الطبقات الحاكمة، وعلى رأسها البورجوازية طبعاً، الى «تغليف» سيطرتها ومصالحها الفظة بـ «مخلفات» أبنية السيطرة السابقة والآفلة وشاراتها، الدينية والقومية والاخلاقية والجمالية. ويقود «التغليف»، وخداعه، الى تضييع الادوات والهويات التاريخية المرسومة والمرجوة معاً، والى تبديد الطاقات في مسرح ظلال وأقنعة لا تتميز مداخله ومخارجه بعضها من بعض. فبورجوازية صريحة وسافرة خير ألف مرة من تكتل أعيان أهل وطوائف وتجار مهاجرين أثرياء وأصحاب مهن حرة بارزين يتسترون على «ديكتاتورية» البورجوازية فيما هم يسعون بين يديها وفي خدمتها لقاء مقايضات باهظة، سياسياً وتاريخياً. وعلى الجهة الاخرى من الصراع الاجتماعي والسياسي، لم يشك دعاة النقض المزدوج في اضطلاع «الوسطاء» بتغليف فادح لموارد «الطبقات الكادحة» النضالية التلقائية، وتزييف لقدرتها على صناعة مثالات اجتماعية وثقافية. واقتضى الامران، إعمال الموارد وصناعة المثالات، تولي من احتار أصحابنا في تسميتهم «بروليتاريا» عصية على الفهم الحسي، «طبقات كادحة ومستغلة» تنم بشكوى وظلامة لا تليقان بالدور الموعود، «طبقات شعبية» غائمة وعائمة، «شعب» يليق بالأعيان السابقين- التصدي لأدوارهم وقضاياهم بأنفسهم، ومن طريق اختباراتهم هم وليس من طريق قيادة بصيرة وعالمة، قوية الشبه بالإمامة المعصومة.
ولم يشك أحد من دعاة النقض المزدوج في «تناقض» هذه الطوبى- من «يوتوبيا» أو جزيرة الواق الواق المنفية من «البلدان» والمحال- وتداعيها. وهي كانت طوبى، أي رجاءً أخروياً وبلورياً كينونياً، تليق بالشبان العشرينيين (والشابات العشرينيات) الذين (واللواتي) طوى العقد الاول من تشاغلهم السياسي، بين الثلث الاول من الستينات ونظيره من السبعينات، صورة رجائهم، ما خلا شطراً راجحاً منهم مضى على بعض خطابة الطوبى وألبسها جسم الفصيل «الوطني» المقاتل تحت لواء «الشعب الفلسطيني اللبناني» و»قواته المشتركة» وفتوحها الدامورية والمتينية والعيشية والصنينية، و»كوادره» المجيدة التي ينشد البك الحاد البصر وجوق هوميرييه بطولاتهم العربية وفروسيتهم الخالدة على الدهر. ولم تكن الطوبى وليدة عمى عن الوقائع الاجتماعية والسياسية، أو جهل مدقع بها. ولا كانت ثمرة هوى بالأفكار و»النظريات» والمناقشة، على قول رائج، وهو هوى لا ينكر. فمصدر «التناقض»، على زعمي، أصلي وتاريخي: نُسبت الى القوى الاجتماعية والسياسية، والى الجماعات على قدر أقل، عقلانية باطنة وجوهرية، من جهة، ودعيت «طليعة» مفترضة، تستحي بطليعتها المدعاة، الى استخراج هذه العقلانية، وصوغ معاييرها، وخزنها وديعةً في متناول القوى الاجتماعية والسياسية، من جهة أخرى.
والعقلانية الباطنة، حين يتحقق وجودها وفعلها وتدرك على هذه الصفة، إنما هي صناعة وإيجاب لا يخلوان من التعسف أو الخلق «الشعري» (والروائي والموسيقي والتصويري...)، ولا تضمن «بنية» دوام فعلها ولا عموم هذا الفعل. فهي رهن الفاعلين: فالعمال قد لا يتماسكون طبقة أو في طبقة، ولا يدركون مصالح مشتركة غير قائمة والحال هذه، ولا يريدون ما يتجاوز تلبية احتياجات ملحة من أي طريق جاءت هذه التلبية. ومثل هذا يصدق في الطبقات الاخرى، وفي الجماعات المتفرقة. والغالب هو حمل القوى الاجتماعية والسياسية على اللحمة أو «الوحدة» أو الهوية من خارج، وفي ظروف تصاحبها الفرادة والاستثناء. فكان النقض المزدوج على الوصايات والرعايات الآمرة والمحرِّفة، وهو افترض قوة وتعبئة وإرادة فاقت بما لا يقاس طاقات المتجندين للمهمة، مقدمة سالبة نيط بها التمهيد لخروج الايجاب التاريخي والثوري الى العلانية والفعل. وأغفل التعويل الجدلي، فيما أغفل، على رغم ملابسته تجريباً ميدانياً أو حقلياً جزئياً، يبالغ سليمان تقي الدين كثيراً في وصفه وتثمينه، تاريخية الرغبات والاهواء والحاجات والاحوال التي تدلف منها القوى الاجتماعية الى الفعل على صوره المعروفة او المجهولة، أو تُسلِّطها على دفعه الفعل وعرقلته وكبحه.
فالمثال المتخيل للعمل السياسي والحياة الشخصية والمهنية والاجتماعية اثناء عقد الستينات اللبناني وافق ربما، لبعض الوقت، رغبات أفراد قليلين وأحوالهم وهم كانوا شطراً محلياً ومولَّداً من جيل «انفجار المواليد» («بايبي بوم») العالمي في اثناء الحرب الثانية وغداتها مباشرة. وكانت بيروت الكوسموبوليتية، على قول طوني جو(د)ت وقبله جون دوس باسوس (روائي ثلاثية «يو إس إيْ»)الاميركيين، والمتوسطية والعثمانية والغربية والاميركية الجنوبية كانت بيروت هذه حضن الرغبات والاهواء والحاجات التي شبهت لبعض شبانها طوباهم، واستدرجتهم اليها، وشاركوا فيها. والقول ان بيروت هذه عجزت عن القيام بأعباء كوسموبوليتها وتبعاتها، فأقام الشطر الغالب من أهلها داخل اسوار خططهم وضواحيهم وبوابات هذه وتلك، قد يكون منقاداً الى التسويغ والاعتذار. ودليلي على صدق هذا القول، أو برهاني، هو أن مناخ سموم الحروب الملبننة، حروب الجماعات والاهل والطوائف والاجهزة والدول والعصابات والشبكات، وطواعينها التي هبت على اللبنانيين، كانت بيروت اللبنانية والمتوسطية والكوسموبوليتية عدوها الكريه واللدود، ومسرحها الاثير.