الخميس، 2 مايو 2013

سعود المولى: السلفية والسلفيون في لبنان


غالب الظن أن نشأة "التيار السلفي المنظّم" في لبنان ترجع إلى دعوة الشيخ سالم الشهال في طرابلس منذ عام 1946 . والحقيقة أن هذا التاريخ يشكل بداية الانتظام الاسلامي السني اللبناني في حركات دعوية سلفية أو سياسية إسلامية ولكنه لا يختزل تاريخ السلفية وجغرافيتها في لبنان... 1- السلفية ما هي؟ نسبة الى السلف، فهي دعوة الى الإقتداء بالسلف الصالح أي أهل القرون الأولى من عمر الأمة الإسلامية ترجمة للحديث المشهور عن الرسول (ص): "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" .. والسلف في لغة العرب معناه ما مضى وتقدم، من سَلَف يسلف بضم اللام ومنه السلاف والمتقدمون وسلف الرجل آباؤه المتقدمون. وفي القرآن الكريم يأتي معنى السلف في معنى واحد وهو السبق والتقدم في الزمن. وفي لسان العرب لإبن منظور "السلف من تقدمك من أبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لإبنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "فإنه نعم السلف أنا لك".. وبداية استخدام المصطلح لعلها كانت عرضاً خلال المجادلات الكلامية التي دارت بين الحنابلة والمالكية من جهة والمعتزلة من جهة أخرى، في مسألة خلق القرآن والقول بنفي الصفات عن الذات الإلهية ومسألة القضاء والقدر في أفعال الإنسان.. وذلك في القرن الثالث للهجرة. والحال أن الإمام أحمد ابن حنبل هو أول من استخدم كلمة سلف حين دافع عن موقفه بعدم خلق القرآن قائلاً: "رُويَ عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.. وهو الذي أذهب إليه". واستخدمها شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في القرن السابع/الثامن للهجرة حين وضع "علماء المسلمين من السلف" في مقابل الفلاسفة وعلماء الكلام... ثم استعادها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر ميلادي) حين وصف مذهبه بأنه "مذهب السلف الصالح" في مواجهة مذهب الأحناف والطرق الصوفية المعتمد في الدولة العثمانية. وما يسمى بالسلفية عموماً هو إتجاه "أهل الحديث" في مقابل "أهل العقل والرأي" في مسألة فهم النص القرآني والحديث بعد وفاة الرسول (ص) حيث يرى السلفيون أن صحابة الرسول (السلف الصالح) هم أولى الناس بتأويل النص وتفسيره وأن علينا الرجوع إليهم في ذلك. ويُقابل هذا الاتجاه عند الشيعة الإمامية: "الإخباريون" الذين قالوا بأخذ الحديث عن أئمة أهل البيت وبأن الحديث المأخوذ عن الأئمة يكفي لمواجهة كل أمور الدنيا والدين. وقد واجهوا الإتجاه المعروف "بالأصولي" (نسبة الى علم أصول الفقه) ورفضوا الاجتهاد كما رفضوا المرجعية والتقليد وقالوا لا نأخذ إلا بالأخبار الواردة عن الأئمة في تأويل النصوص وشرح الأمور. وإذا كان إبن حنبل وإبن تيمية هما أبرز أعلام المذهب السلفي، فإن إبن قيم الجوزية (تلميذ إبن تيمية) ومن بعده إبن كثير الدمشقي الذهبي ثم إبن قدامة هم رؤوس الحنابلة التي اعتمدت السلفية الجهادية المعاصرة على كتبهم في صياغة أفكارها ومعتقداتها.. وصولاً الى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر للهجرة، وقد أرسوا جميعاً دعائم السلفية وقواعدها.. وبحسب الشيخ السوري السلفي زهير الشاويش (المقيم في لبنان منذ مطلع ستينيات القرن العشرين) فإن السلفية " لم يكن لها أصل من هذه التسمية إلا بعد زمن طويل من عصر الدعوة التي حمل رايتها وأرسى قواعدها جميعاً محمد رسول الله وصحبه الكرام وقد كانوا يوصفون بأنهم "السلف الصالح". وتسمية "السلفية" لا بد لها ممن سلف يسبقها تنتهي إليه، وهي تكون خلفاً لسلف.. وكان هذا السلف من تابعي التابعين..وقد تبع كل السلفيين وغيرهم من المذاهب من كل الفرق بعضاً من التابعين، حتى أصبح الفقه، بل والعقيدة، وحتى الأخلاق، أنواعاً كثيرة جداً..وفي بعضها إختلاف ظاهر من اتباع الأثر، أو التمسك بالنص والدليل، أو الجنوح إلى الرأي وقولة "نحن رجال وهم رجال".. وبعضهم اقتصر على ما دلتهم عليه عقولهم....والسلفية طريقة في المعتقد والفقه، مفادها الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول –السلف الصالح- في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك- كما في باقي المذاهب أنها ترجع إلى من انتسبت إليه.. والسلفية تنكر التأويل اللفظي والباطني على السواء..وهي تعتمد على الصحيح الواضح من الكتاب والسنة والوقوف عند اتفاق الصحابة وما تتابع بعد ذلك بعمل وفهم التابعين من القرون الثلاثة التي شهد لها سيدنا محمد بالخيرية.. وتتابعت بعد ذلك بأقوال أهل العلم والمعتقد والحديث والدعوة".." .. وقد تركزت أقوال هؤلاء العلماء عند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 240 هجرية) أيام الخليفة المأمون العباسي (ت 218 ه) بدءاً من فتنة خلق القرآن وما تبع ذلك من اضطهاد وحبس ونفي وضرب وقتل تعرض له الحنابلة والشافعية حتى انتصرت في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله (ت 247 ه).. ومضى الزمن والخلاف بين الأخذ والرد حتى ظهر إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206 ه).إذذاك نشأت معارضة شديدة لهم من قبل العثمانيين الأتراك وحاكم مصر محمد علي باشا وأولاده... ويتفق السلفيون على أن المقصود بالسلف الصالح هم "الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي الحافظون لسنته، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وانتخبهم لإقامة دينه، ورضيهم أئمة لأمته، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، وأفرغوا في نصح الأمة ونفعهم وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم".. وذلك على أساس الآية 100 من سورة التوبة: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ( والحال أنه لا يوجد سلفية واحدة بل هناك سلفيات عدة مع مسميات متنوعة: منها التقليدي التاريخي أو الأثري أو العلمي، ومنها الإصلاحي الوطني وحتى النهضوي، ومنها الجهادي الوطني ومنها التكفيري النظري، ومنها التكفيري المسلح ومنها الجهادي السلفي الأممي أخيراً. ومن هنا صعوبة التصنيف والتقسيم.. 2- سلفية رواد النهضة المشرقيين إجتهد الأفغاني وجاهد لإقناع المسلمين (النخب المتعلمة والقادرة على الحركة) برؤية "صحيحة لأصول الدين مستمدة من القرآن الكريم والحديث الشريف"، وذلك للرد على السؤال المركزي لعصره: كيف تصبح البلاد الإسلامية قوية ومزدهرة لتتغلب على الأخطار الداخلية والخارجية؟ وفي حين إنبهر رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) بالأفكار والمخترعات الأوروبية الجديدة حاول الأفغاني رؤية القوى الكامنة خلف تلك الأفكار والمخترعات متمثلة في النفوذ الأوروبي الساعي لبسط السيطرة على بلاد المسلمين.. وقد دعا الأفغاني إلى إيجاد لحمة داخلية للشرق على قاعدة الإسلام..إذ رأى أن علة الشرق وسبب انتكاس المسلمين هو إبتعادهم عن الدين الصحيح.. وأن الطريق السليم هو إحياء الإسلام باعتباره الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المسلمين، مع تجديد الشريعة وتخليصها مما علق بها... وحين دعا الأفغاني إلى وجوب استعمال العقل في تفسير القرآن فإنه شرط ذلك بأن يكون المفسّر عالماً باللسان العربي وذا عقل سليم وعارفاً بسيرة السلف الصالح الذين كانوا من حراس الدعوة الأمناء.. كانت سلفية الأفغاني ثورية وفلسفية في آن ، تدعو الى الإصلاح وإلى نزعة عقلانية طوّرها لاحقاً تلميذه محمد عبده. فقد دعا عبده إلى إلى تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارف الأمة إلى ينابيعها الأولى..وأعاد عبده التذكير بالعصر الذهبي أو المجتمع الأمثل الذي لم يتحقق في نظره إلا في القرون الأولى حيث الجيل الأول من الطاعة ومن جزاء الطاعة، جيل الفلاح السياسي والنمو الفكري على نحو لا مثيل له في سرعته وكيفية إزدهاره.. . وقاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا حركة سلفية إصلاحية نهضوية في المشرق العربي تدعو الى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى" (بحسب محمد عبده)، وقالت بأن "معرفة الإسلام الصحيح تستمد من القرآن والحديث وفهم الصحابة والسلف الصالح" (بحسب محمد رشيد رضا... .. وقد أعاد عبده التذكير بالعصر الذهبي أو المجتمع الأمثل الذي لم يتحقق في نظره إلا في القرون الأولى حيث الجيل الأول من الطاعة ومن جزاء الطاعة، جيل الفلاح السياسي والنمو الفكري على نحو لا مثيل له في سرعته وكيفية إزدهاره. ..أما رشيد رضا فقد انحاز الى السلفية الوهابية. وكان منذ تأسيسه المنار يدعو إلى وحدة إسلامية أساسها الإسلام الحق الذي أعلنه محمد والسلف الصالح، الذي هو إسلام الجيل الأول الذي عرف النبي، والإجماع الوحيد المقبول به هو إجماع هذا الجيل..وقد اتبع رشيد رضا المنهج الحنبلي في تفسيره للإسلام واستعاد الكثير من مؤلفات ابن تيمية وابن عبد الوهاب ونشرها في المنار..وكان من أشد الدعاة إلى محاربة البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال وروجت بين المسلمين أسواق الدجل والخرافات مثل بدع الموالد وعبادة القبور والمشاهد.. وكان في ذلك من أشد مهاجمي الطرق الصوفية .. وقد حظيت السلفية بانتشارات كبرى في بلاد الشام من خلال: العلامة جمال الدين القاسمي (ت1332ه 1914م) والشيخ طاهر الجزائري (ت1338ه 1920م) وعبد القادر بدران (ت1346ه 1928م) والشيخ محمد سعيد الباني (ت1351ه 1933م)، وتلامذتهم ومنهم الشيخ محب الدين الخطيب (ت1389ه 1970م) وآل البيطار وآخرهم الشيخ محمد بهجة البيطار (ت1396ه 1976م)... ومن بعدهم صار انتقال الكثير من العلماء إلى السلفية الوهابية وعلى رأسهم الشيخ محمد أحمد دهمان (ت 1408 هـ 1988 م) مؤسس المطبعة السلفية بدمشق، والشيخ المفتي علي الطنطاوي (ت 1990) الذي وصف مرة شيخه محمد دهمان فقال:"كانت الوهابية تُعَدُّ تهمة خطيرة مخيفة ، وكانوا يحذروننا من الاجتماع بهم ، فوقفت مرة في حلقة ابن بدران ، العالم الحنبلي المعروف ، وكان هناك طلاب يمرّون في الأسواق ، فرأوني في حلقة ابن بدران وقدّموا فيّ تقريراً إلى المشايخ ، فضُربت (فلقة) في رجلي"، والشيخ زهير الشاويش والشيخ مصطفى السباعي. .. كما قامت جماعة اعتمدت الحديث النبوي رأسهم العلمي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت1420ه 2000م) وقام المكتب الإسلامي (لصاحبه الشيخ زهير الشاويش) بنشر الكثير من مؤلفاته... وعلى نفس المنهج الحنبلي الوهابي كان العلماء من أسرة الألوسي في بغداد الذين وضعوا تفسيرا ًمطولاً للقرآن إضافة إلى كراس في الدفاع عن إبن تيمية ما أشار إلى تأثرهم بالوهابية. وكذلك ظهر في الأردن المفتي العام الشيخ عبد الله القلقيلي (ت 1393هـ 1974م) والأستاذ أبو الوليد إبراهيم الترهي (ت 1392ه 1973مـ) وغيرهما ممن تأثر لاحقاً بمدرسة ناصر الدين الألباني.. . وفي سوريا ظهرت جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور مصطفى السباعي والأستاذ عبد الفتاح غندور ...وكان مشاركاً لهما في الجماعة أو قبلها الشيخ عبد الفتاح الإمام (ت 1384هـ 1940م) والشيخ علي الطنطاوي...وفي حلب الشيخ محمد نسيب الرفاعي (ت 1413هـ 1992م ) .. وفي حماه الشيخ سعيد الجابي (ت 1376هـ 1957م)، والشيخ القاضي محمد محمود الحامد (ت 1389 ه/ 1969م) والشيخ نعسان معطي (ت 1412ه 1992م)..ـ وبحسب الشيخ الشاويش أيضاً فإن ثورات وانتفاضات فلسطين منذ عام 1920 وحتى اليوم ما قام بها إلا من تمثلوا العقيدة السلفية مثل الحاج محمد أمين الحسيني (ت1394ه 1975) والشيخ فرحان السعدي (ت1356ه 1937م) والشيخ محمد الأشمر (ت1380ه 1961م) والشيخ عز االدين القسام (ت1354ه 1935م)..وغيرهم... والدال على سلفية هؤلاء بحسب الشاويش "الكتاب الذي ألفه عز الدين القسام مع الداعية الشيخ محمد كامل القصاب (ت 1373ه 1954مـ)، وسمياه النقد والبيان، وقدّمت له ببحثْ ضافٍ مع التوسع في التراجم... وكل هؤلاء وغيرهم هم تجمعات وأخوان وأتباع يربط بينها إتفاق عام على أكثر الأمور السلفية وإختلافات فرعية في العديد من الأمور" ... وعلى مقلب آخر، وبسبب الهجمة الاستعمارية الكبيرة في القرن التاسع عشر والهادفة الى إحتلال بلاد المسلمين وضرب الدولة العثمانية، تطوّرت حركات سلفية من طبيعة مختلفة عن الحركة الوهابية. وكان محور عمل هذه الحركات مقاومة الاستعمار والدفاع عن الوطن وإحياء مفاهيم الجهاد والخلافة.. كما نرى ذلك في الحركات المهدية في السودان والسنوسية في شمال أفريقيا ووحركات الشيخ أبو شعيب الدوكالي ومحمد بن العربي العلوي في المغرب.. وقد اختلفت جميع هذه الحركات عن الوهابية في أنها لم تعادِ الحركات الصوفية بل جاءت من قلبها، وفي أنها سعت بوضوح الى السلطة وتعاطت الشأن السياسي، في حين أن الوهابية أعطت آل سعود امتياز احتكار السياسة والسلطة. وللتذكير فإن السنوسية دعت إلى العودة بالإسلام إلى نقائه الأول، واعتبار الكتاب والسنة مرجعي الشريعة الإسلامية، وفتح باب الإجتهاد، وتنقية الدين مما علق به من بدع وضلالات (وهذه المبادىء مستلهمة من إبن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب)، والإيمان بما تدعيه الصوفية من رؤيا واتصال وكشف، وحصر الإمامة في قريش، والإيمان بالمهدي المنتظر.. وبين إتجاه السلفية النهضوية الإصلاحية وإتجاه السلفية المقاومة الوطنية، يمكن إدراج المفكرين الوسطيين الذين حملوا معالم الإتجاهين، خصوصاً لجهة إحياء الدعوة الوطنية والإصلاحية وقضايا النهضة ومقاومة الاستعمار.. ومن هؤلاء نذكر شكيب أرسلان (1869-1946)، وعلال الفاسي (1910 ـ 1974) وعبدالرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) وعبدالحميد ابن باديس (1889 ـ 1940) ومحمد إقبال الباكستاني (1877-1938) وغيرهم.. وبحسب قول منسوب إلى علال الفاسي فإن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معاً، بحيث أن المنهج الذي أتبع في المغرب أدى إلى نجاح السلفية بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين. 3- السلفية الوهابية المعاصرة في مطلع القرن الثامن عشر ميلادي كان هناك حلقتان من حلقات تدريس فقه ابن تيمية: واحدة في دمشق (وهي لم تعمرّ أو تثمر كما أختها) والثانية وهي الأهم في المدينة المنورة وكان يشرف عليها محمد حياة السرهندي وتخرج منها رجلان كان لهما الدور الأكبر لاحقاً في إحياء وتعميم فكر ابن تيمية..الأول هو ولي الله الدهلوي (اشتهر في الهند) والثاني هو محمد بن عبد الوهاب في نجد.. والشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف التميمي، وُلد عام 1115 هجرية (1703م) وتوفي عام 1206 (1791م).. وكان معاصراً لشاه ولي الدين الدهلوي والشيخ محمد حياة السرهندي والشيخ التهانوي الهندي والعلامة محمد بن اسماعيل الأمير الصنعاني (الزيدي) ومحمد ابن فيروز الإحسائي كبير الحنابلة في الإحساء وعلماء الحجاز... ابتدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1157 (بعد وفاة والده) دعوة إصلاحية إحيائية سلفية انطلقت من نجد في شبه الجزيرة العربية وكانت شرارتها قد امتدت الى بقاع أخرى مثل الهند (شاه ولي الدين الدهلوي) واليمن (محمد بن علي الشوكاني- الزيدي) والعراق (شهاب الدين محمود الألوسي) وأفريقيا (عثمان دان فوديو وسيدي أحمد الشريف السنوسي-الصوفي).. وكانت الوهابية تدعو الى التمسك بظاهر النص، كوسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية، وعلى محاربة الطرق الصوفية من أجل الرجوع الى نقاوة التوحيد. وبرزت الوهابية بقوة بسبب تحالفها مع آل سعود ومحاربتها للدولة العثمانية.. ومع أن كلمة وهابية ليست صفة مدح أو ذم فإن الوهابيين يكررون القول أنها صفة أطلقها عليهم الخصوم.."غير أن علماء الدعوة الوهابية القدماء والجدد كانوا يجيزون إستخدام المصطلح ويرددونه في كتبهم بل هم ألفوا الكتب والرسائل في عقائد الوهابية ودعوتهم، ومن هؤلاء العلماء سليمان بن سحمان وقبله محمد بن عبد اللطيف وغيرهما... وكذا المدافعون عنها كالشيخ حامد الفقي ورشيد رضا وعبد الله القصيمي وسليمان الدخيل وأحمد بن حجر أبو طامي ومسعود الندوي وإبراهيم بن عبيد صاحب التذكرة وغيرهم، يستخدمونها..مع أن الشيخ حامد الفقي قد حاول أن يشكك في نيات كل من إستخدم هذا المصطلح وإقترح أن يطلق عليها الدعوة المحمدية نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وليس إلى والده عبد الوهاب.. وقد قلّده من المتأخرين الشيخ صالح الفوزان". .. ومن أشهر معارضي الوهابية في زمانها الشيخ سليمان بن عبد الوهاب التميمي وهو أخو الشيخ محمد لأبيه وأمه (ت 1208ه) وكان أعلم منه ومن قضاة نجد وفقهاء الحنابلة الكبار وقد ألّف كتاباً في الرد عليه.. والشيخ سليمان بن الشيخ سحيم الحنبلي النجدي من قبيلة عنزة (1130-1181) فقيه أهل الرياض، وقد كفرّه ابن عبد الوهاب كفراً أكبر يخرجه من الملّة ووصفه بأوصاف بذيئة..ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي الإحسائي (1100-1164ه) من علماء وفقهاء الإحساء الكبار..وعبد الله بن عيسى التميمي المشهور بالمويسي والمويس (ت 1175ه) من أجل شيوخ نجد وفقيه أهل حرمة بوسط نجد..وعبد الله بن أحمد بن سحيم (ت 1175ه) فقيه أهل المجمعة بالقصيم والقاضي الحنبلي ، وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الإحسائي وهو من شيوخ محمد بن عبد الوهاب ومن اشد معارضي دعوته، ومحمد بن عبد الله بن فيروز الإحسائي (ت 1216ه) وهو تميمي من الوهبة قبيلة الشيخ محمد ومن كبار علماء الحنابلة، ومحمد بن علي بن سلوم (ت 1246ه) من سدير ومن كبار فقهاء الحنابلة فر الى البصرة مع شيخه ابن فيروز هرباً منم الوهابية..وغيرهم الكثير من كبار الحنابلة والمالكية والشافعية في الجزيرة..وكان لهؤلاء آراء وانتقادات في دعوة ابن عبد الوهاب تركز معظمها حول إستسهاله تكفير المسلمين والغلو في ذلك .. ويرى الدكتور رضوان السيد أن "السلفية تيار عقدي إسلامي، يهدف في الأصل إلى تصحيح العقيدة والعبادة، وتنقيتهما وتنقية إعتقادات المسلم وممارساته من البدع الموروثة والطارئة. وكما كان الإمام أحمد بن حنبل في القديم، على سبيل المثال، أحد أعلام السلفية الكبار، لكنها ما كانت مقصورة عليه؛ فكذلك الأمر في الأزمنة الحديثة والمعاصرة؛ إذ كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب علماً من أعلام السلفية في نجد وشبه الجزيرة العربية؛ بيد أن السلفية ما اقتصرت على نجد والجزيرة، بل إنتشرت في القرنين الأخيرين في الحجاز واليمن وأفريقيا والهند والمغرب ومصر والشام... وأن السلفيـة الحديثة بدأت ظواهرها في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلاد... في حين أن هناك سلفية جديدة ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة " .. و يرى آخرون أن مسمَّى الحركة السلفية يعني المدرسة النجدية ذات الجذور الحنبلية، التي أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد؛ وأنه لايوجد سلفية واحدة بل هناك سلفيات عدة مع مسميات متنوعة: منها التقليدي التاريخي، ومنها الإصلاحي، ومنها الجهادي النظري، ومنها الجهادي التكفيري. ومن هنا صعوبة التصنيف والتقسيم التي هي في النهاية مجرد محاولة منهجية، يقتضيها البحث، لفهم الظاهرة وتسهيل دراستها وتحليلها، ليتيسّر نقدها وتحديد الطريقة التي يجب التعامل بها معها.. ويعتقد أتباع السلفية الحديثة كما صنفها الدكتور السيد أو الوهابية كما هو متعارف عليها أنها حركة دينية سياسية كانت غايتها الإصلاح الديني، وتصحيح العقيدة الإسلامية، وتطهيرها مما علق بها من أدران الشرك والبدع والخرافات، والعودة بالإسلام إلى ما كان عليه زمن النبي محمد والقيام بتطبيق أحكام الإسلام وحدوده وشعائره الظاهرة والباطنة. وأهم مصادر هذه الدعوة: القرآن الكريم، السنّة النبوية، آثار السلف الصالح، وخاصة أحمد إبن حنبل، وإبن تيمية، وإبن القيّم الجوزية... وتحولت هذه السلفية إلى إتجاه مذهبي داخل الفكر الإسلامي، وهي "تتّسم بالتشدّد الإعتقادي، والتصلّب في تطبيق الشريعة... ويلاحظ نواف القديمي أحد الناشطين في التيار السلفي السعودي وجود خمسة تيارات إسلامية في المشهد الديني داخل السعودية في هذه الأيام وهي: التيارات السلفية التقليدية: وتشمل (1) التيار السلفي الرسمي ممثلاً بهيئة كبار العلماء، وهو تيار له إمتدادات علمية وجماهيرية محدودة. و(2) سلفية تميل للبعد التكفيري والجهادي، وتتسم بالحدَّة والصرامة مع المخالفين، وبموقف صارم وعنيف من السلطة السياسية، و(3) سلفية ذات نزعة إرجائية تتسم بطاعة مطلقة لولي الأمر، وهي قريبة نسبيًّا لخط الشيخ "الألباني" ويطلق عليها خصومها مسمَّى (الجامية – المدخلية). (4) التيارات السلفية الحركية ويمثلها تيار حركي يُطْلِق عليه خصومه مسمَّى (السرورية) نسبة إلى مؤسسها، وهي مدرسة تنظيرية فكرية سياسية دعوية يقوم منهجها على مزيج من الحركية الإخوانية والفكر السلفي الوهابي، كما أن هناك تياراً حركياً آخر(5) هم (الإخوان المسلمون)، وهو تيار لا يُصنَّف، إجرائيًّا، داخل إطار التيار السلفي. التيار العقلاني أو تيار التنوير الإسلامي، هذا التيار عبارة عن مجموعة من النخب المهتمة بالشأن الثقافي والسياسي، ويقدمه أحد ناشطيه على أنه: "... تيار أجندته ليست سياسية؛ لكنها ثقافية في المقام الأول، تقوم على نقد التيار السلفي، وتفكيك بنيته التقليدية، ومنظومته في التفكير، والتعامل لتجاوز التأزمات التي أنتجها في المجتمع، والتي أسهمت في إعاقة مشروعات النهضة والتطور الحضاري. إذن فهو تيار فكري ثقافي أكثر منه سياسي؛ لذلك فهو- إلى الآن- غيرُ معنيٍّ بشكلٍ مباشر بالإصلاح السياسي بقدر عنايته بالإصلاح الثقافي، لذا لا توجد له مشكلة مع السلطة السياسية" . 4- كيف انتشرت السلفية في لبنان؟ يمكن إرجاع تاريخ انتشار السلفية في لبنان الى تلك المرحلة المفصلية من أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك بتأثير من حلقات دمشق أولاً (جمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري ومن بعدهما محمد بهجة البيطار وعبد القادر بدران) ومن صحف القاهرة ثانياً (وبالتحديد المنار لرشيد رضا والفتح لمحب الدين الخطيب).. ولعل حضور الشيخ محمد عبده الى بيروت عقب نفيه من مصر (1882-1884 ثم 1885) وحلقاته وسهراته ودروسه في منزل آل حماده في المصيطبة، كما تدريسه في المدرسة السلطانية وغيرها، كان لذلك كله أثر كبير في انتشار نوع من الفهم السلفي للدين ، كما يظهر ذلك جلياً من تأثر أمير درزي كبير من جبل لبنان هو شكيب أرسلان بالمدرسة السلفية الاصلاحية لمحمد عبده ورشيد رضا (على حد تعبيره)، ودفاعه عنها ثم عن المملكة السعودية حين نشأتها ... وفي مطلع القرن العشرين كان تأثير مدرسة رشيد رضا وجريدة المنار قوياً الى درجة كبيرة في أوساط المتعلمين اللبنانيين الذين تابعوا أيضاً بدايات دعوة الشيخ محمود السبكي الذي أسس في القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر "الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية"، وقد تسجلت رسمياً وفق قانون الجمعيات العثماني العام 1912؛ وتأثر بعض اللبنانيين أيضاً بتيار الشيخ محمد حامد الفقي الذي أسس في العام 1926 جماعة "أنصار السنة المحمدية" (أيضاً في مدينة القاهرة)... كما تأثر البعض الآخر بجمعية الهداية التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين (التونسي1876–1958) الذي عاش فترة في دمشق وصادق شيوخ السلفية يومذاك القاسمي والبيطار ودرّس في الجامع الأموي وفي المدرسة السلطانية وغيرها. وكانت جمعية الهداية تقوم على الدعوة إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدع، وكان منتموها يهتمون بالهدي الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس واللحية وشعر الرأس والحجاب، وغيرها من هذه الأمور. كما نشط بعض اللبنانيين ضمن جمعية الشبان المسلمين التي أسسها الخضر حسين (1876م -1958م) مع السوري السلفي محب الدين الخطيب في نفس سنة تأسيس جمعية الهداية 1926...ومن هؤلاء اللبنانيين بعض الدروز من تلامذة الأمير شكيب أرسلان أمثال عجاج نويهض وهاني أبي مصلح وكانا من أركان جمعية الشبان المسلمين في فلسطين ... هذه السلفية الأولى الناشئة في مصر وسوريا كانت إصلاحية ووطنية عامة ونهضوية عملت لمواجهة الاستعمار والصهيونية من جهة، وعملية التغريب من جهة أخرى في ما رأت أنه تنحية للشريعة الإسلامية عن الحياة العامة، وتغيير مسار التعليم ومناهجه... وقد تصدت لبدايات حملة التغريب التي ظهرت في تلك الفترة، وما صاحبها من دعوات تقلل من قيمة المرأة ومكانة الشريعة الإسلامية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وظهور وتفشي البدع والخرافات... ولكن هذا التأثير المصري السوري كان فكرياً ثقافياً سلوكياً ولم يتحول الى عمل حركي أو دعوة منظمة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية...ولا شك في أن التأثير السوري المباشر كان هو الحاسم وذلك بسبب دراسة علماء لبنان في دمشق وعدم تفضيلهم السفر الى أزهر القاهرة، كما بسبب الروابط الخاصة ما بين طرابلس وبر الشام أو الداخل السوري.. وبالتالي فإنه لا بد هنا من تسجيل ملاحظة أن الطرابلسيين كانوا يرتبطون بالسلفية المصرية الناشئة من خلال أعلامها السوريين في القاهرة (رشيد رضا ومحب الدين الخطيب) كما من خلال أعلامها الكبار في دمشق وعلى رأسهم جمال القاسمي ومحمد بهجة البيطار وعبد القادر بدران وغيرهم... 5- النشأة المتأخرة والملتبسة "كانت مدينة طرابلس في الشمال أول من استحضر الفكر السلفي إلى لبنان، ومنها انطلق إلى باقي مناطق هذا القطر، فهي بحق معقل السلفية الأول في البلاد، ويوجد بها ما يقارب عشرين جمعية سلفية" ... ولكن السؤال الذي لم يطرحه أحد هو لماذا كانت طرابلس بالذات هي مهد نشوء الحركة السلفية ومعقلها كما كانت أيضاً مهد نشوء وقوة الجماعة الاسلامية وحزب التحرير وحركة التوحيد وغيرها من الحركات؟ يسهل لدى البعض القول بأن مدينة طرابلس محافظة ولذلك انتشر فيها التيار السلفي...والحقيقة أن صيدا وبيروت وقرى الشوف وغيرها هي أيضاً محافظة..خصوصية طرابلس تاريخية سوسيولوجية... فبورجوازية طرابلس المرتبطة اقتصادياً وتجارياً بالداخل السوري لم تقبل أبداً بفصل لبنان عن سوريا وبقي ذلك الموقف ظاهراً وخفياً في أساس الكثير من الأمور مثل وجود نقابات مهن حرة في طرابلس مستقلة ومنفصلة عن بقية نقابات لبنان الموحدة في نقابة واحدة مركزها بيروت... فطرابلس رفضت مركزية بيروت وجبل لبنان وهي طالبت وما زالت تطالب (على سبيل المثال لا الحصر) بإعادة تشغيل المرفأ والمطار ومركز المعارض، الأمر الذي لا تحققه لها السلطة المركزية برغم وجود طرابلسي على رأس حكومات كثيرة (آخرهم السيد نجيب ميقاتي ومعه 5 وزراء طرابلسيين)... وكانت طرابلس مركزاً للحركات المطالبة بالوحدة مع سوريا في العشرينيات والثلاثينيات... واستمرت على هذا الموقف حين رأت البورجوازية البيروتية ضرورة الاستقلال اللبناني بعد عام 1936... ومواقف زعيم طرابلس الشيخ عبد الحميد كرامي من الاستقلال اللبناني معروفة... وانتشار المد العروبي الوحدوي (الناصري كما البعثي) في الخمسينسيات والستينيات أيضاً تاريخ معروف ولعله يفسر ضعف التيار الاسلامي الحركي وعدم امكانية تشكله بقوة في تلك المراحل برغم نشوء الاخوان عام 1928 وانتشارهم الى فلسطين وسوريا منذ العام 1936 (تاريخ الثورة الفلسطينية الكبرى)... وإلى موقف الارتباط بالداخل السوري وبالمحيط العربي، حافظت طرابلس على وضعها كمدينة قاعدتها الاجتماعية الأساسية تتشكل من صغار الحرفيين وذلك بفعل التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرضت له... كما أنها حافظت لنفس السبب على الوجود القوي والمميز للصوفية التي تنتشر بين عائلاتها الرئيسة، الأمر الذي يفسر أيضاً سبب تأخر تشكل ثم انتشار التيار السلفي فيها...وباعتقادي أن بدايات التطلع الى عمل سلفي دعوي منظم أرهصت منذ العام 1932 وهو تاريخ الاعلان عن قيام المملكة العربية السعودية ثم انضمام جماعة المنار والفتح الى الدعوة لها والترويج لفكرها الوهابي... وقد كان الطرابلسيون يتأثرون جداً بدعوة المنار والفتح كما رأينا... ولعل فاصلة الحرب العالمية الثانية قطعت أواصر الصلة والعلاقات بين طرابلس والخارج العربي..الأمر الذي يفسر عدم تشكل تيار اسلامي سلفي قبل العام 1946؛ هو تاريخ يعني بالنسبة لنا ثلاثة أمور: 1- استقلال لبنان 1943 ثم سوريا 1946 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. 2- انطلاق دور المملكة العربية السعودية عربياً وخصوصاً لجهة افتتاح معاهد تدريس دينية كان أولها المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة (1926) والذي تولى الشيخ (السوري) محمد بهجة البيطار إدارته عند افتتاحه... 3- اشتداد قوة الاخوان المسلمين في مصر وبدايات تشكلهم في سوريا (وكان مصطفى السباعي أول مراقب عام لهم 1946-1964).. وقد اختلطت بدايات السلفية الطرابلسية ببدايات الإخوان المسلمين السوريين (مع مصطفى السباعي ورفاقه ومنهم الشيخ عبدالقادر بدران والشيخ عبد الفتاح غندور والشيخ زهير الشاويش)... وفي الفترة من 1946 الى 1964 ارتبطت طرابلس بتطورات الحركة في سوريا وفلسطين... وبحسب شهادات كثيرة أمكن جمعها قامت في سنة 1946 في طرابلس جماعة (شباب محمد) ، التي غدا اسمها فيما بعد «مسلمون» بقيادة «أميرهم» الشيخ سالم الشهال ، وكانوا يؤثرون اتباع السنة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ فأطلقوا لحاهم، بحيث لا تقل عن قبضة اليد، وكانوا يستحسنون تخضيبها بالحناء الحمراء (وهو ما اعتاد عليه أميرهم سالم الشهال بصورة دائمة). ووضعوا العمامة (الطاقية البيضاء ملفوف عليها شملة بيضاء مع ارتخاء ذيل لها على الظهر)، مع بيعة للأمير على أنه (أمير المؤمنين) لوجوب البيعة في الإسلام (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) فكانت جماعة «مسلمون» بحق أول حركة إسلامية شعبية في طرابلس، التزمت الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنهم لم يكتفوا بالأمر والنهي القوليين بل حاولوا تغيير المنكر، وفق رأيهم، باليد، ولم يتردد بعضهم من استخدام ماء الفضة المحرق فرشوا بقليل منه ثياب بعض النسوة، اللواتي نزعن غطاء الرأس، وبدأن يكشفن عن سواعدهن وسيقانهن بقصد إرهابهن ولكن دون إيذائهن. وقد أثار ذلك ضجة كبيرة في البلد، وقاموا بحملة ضد السينما وإعلاناتها، حيث كانت تلك اللوحات الإعلانية تنتشر أمام سرايا طرابلس العثمانية، فقاموا بتكسيرها؛ وقد شارك في الحملة الشيخ سالم الشهال نفسه، والشيخ عثمان صافي وهو أحد خريجي الأزهر الشريف... وقد قامت الجماعة بحركة كبيرة ضد نقابة المحامين التي كانت دعت لمشروع قانون مدني للأحوال الشخصية يتضمن إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد قضايا الأحوال الشخصية في الإطار المدني... لكن هذه الحركة السلفية البدائية ما لبثت أن انطفأت وماتت في النصف الثاني من الخمسينيات وخصوصاً بسبب انتشار المد القومي العربي الناصري في طرابلس الباحثة عن هويتها العربية الاسلامية في وجه أيديولوجية الكيان اللبناني الجديد ... فاصلة فلسطين: عباد الرحمن في العام 1948 وإثر نكبة فلسطين عاد محمد عمر الداعوق البيروتي من حيفا وكان قد عرف هناك وصاحب قيادات إخوانية بارزة.. وكان شديد التأثر بما حدث في فلسطين ويعتقد بقوة بأن سبب النكبة هو ابتعاد المسلمين عن دينهم وتقليدهم للغرب، فابتدأ يطوف المساجد داعياً إلى التكتل الاسلامي... وخلال بضع سنوات صار عدد أعضاء جماعة عباد الرحمن يفوق العشرة آلاف شاب.. وفي طرابلس نشأ فرع الجماعة من قلب جمعية إسلامية عريقة هناك هي جمعية مكارم الأخلاق.. وصارت الجماعة تنافس أكبر تنظيم سني لبناني يومذاك وهو حزب النجادة... لا بل أن الداعوق وقّع عام 1951 مع بيار الجميل زعيم حزب الكتائب المسيحية على وثيقة تنص على تعاون الطرفين في نشر القيم والمبادئ الأخلاقية ورد الاعتداءات الخارجية عن لبنان ..وفي العام 1953 زار المرشد العام للإخوان الشيخ حسن الهضيبي لبنان بمناسبة انعقاد المكتب التنفيذي للإخوان في مصيف بحمدون..وقد حضر اللقاء إضافة الى الهضيبي كل من مصطفى السباعي عن سوريا وعمر الداعوق عن لبنان ومحمد محمود الصواف عن العراق ومحمد عبد الرحمن خليفة عن الأردن، وغيرهم.. وكان ذلك إشارة واضحة الى ارتباط عباد الرحمن بالتنظيم الدولي للاخوان برغم النفي الشديد والمتكرر... وكان مصطفى السباعي مراقباً عاماً للاخوان في سوريا ولبنان معاً منذ العام 1946 وحتى وفاته عام 1964.. وفي 16 كانون الثاني/يناير 1952 لجأ السباعي إلى بيروت بعد أسابيع على الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي وقراره حل جميع الأحزاب السياسية في سوريا .. مجيء السباعي الى بيروت كان بداية الأزمة والصراع داخل جماعة عباد الرحمن التي كانت تعتبر نفسها مستقلة عن الاخوان ولا تخضع لرئاسة المرشد العام السوري...ويبدو أن جناح الجماعة في طرابلس اقترب أكثر من المنحى السياسي للاخوان وممثلهم الكبير السباعي، وابتعد رويداً رويداً عن المنحى الدعوي الاجتماعي التربوي الاخلاقي (السلفي) لعباد الرحمن... في عام 1956 تأسس أول مركز لجماعة عباد الرحمن في طرابلس، وكانت الجماعة في بيروت تنشر فكرها وتوسع نطاق عضويتها دون أن تعتمد مساراً سياسياً محدداً، في حين كان مركز طرابلس يصدر مواقف سياسية من الصراع الداخلي اللبناني خلال فترة حكم الرئيس كميل شمعون ومن القضايا الإقليمية كالموقف من الوحدة العربية ومشروع إيزنهاور وحلف بغداد والصراع العربي الإسرائيلي، وأصدر نشرات غير رسمية كمجلة "الفجر" عام 1957 و"الثائر" عام 1958..وفي تلك المرحلة اتسع الاتصال والتعاون بين السباعي ومجموعة طرابلس .. وعندما اندلعت أحداث 1958 وما صاحبها من فرز وطني وطائفي كان لجماعة عباد الرحمن بطرابلس موقع سياسي وعسكري واضح ، فأنشأت معسكراً للتدريب وأقامت محطة إذاعة "صوت لبنان الحر" كانت هي الوحيدة في الشمال حتى الشهور الأخيرة للأزمة.. بينما اكتفت الجماعة في بيروت بدور اجتماعي إغاثي، مما أدى أوائل الستينات إلى أن يستقل العمل الإسلامي في الشمال عن عباد الرحمن، وأن يبدأ تشكيل جماعة جديدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مركز طرابلس أصدر أول مجلة إسلامية أسبوعية (المجتمع) في 5/1/1959 استمرت في الصدور حتى صيف 1965. .. و قد ولدت (الجماعة الاسلامية) التي تنتمي إلى مدرسة (الأخوان المسلمين ) في طرابلس عام 1964 وذلك على يد (فتحي يكن) و(فيصل المولوي) و(محمد علي الضناوي) و(عبدالله بابتي) (وكلهم من طرابلس)... ويمكن أن نقول بأن قرار فتحي يكن الانشقاق عن جماعة عباد الرحمن وتشكيل الجماعة الاسلامية تم بتأثير كبير من فكر سيد قطب الذي اعتبره يكن مرجعه الأول وهو عمل في بدايات التنظيم على تعميم وتبسيط فكر قطب من خلال كتابات اشتهرت في كل الجماعات الاسلامية .. والحال أن الانفصال السوري-اللبناني لم يحصل إلا في العام 1964 أي بعد وفاة السباعي... وبالمناسبة فإن 1964 هو تاريخ انفصال الشيوعيين اللبنانيين بحزبهم عن قيادة خالد بكداش السورية...وتصادف تلك المرحلة أيضاً بدايات حركة فتح الفلسطينية التي لا تنفصل أبداً عن الحراك داخل الاخوان المسلمين الفلسطينيين في غزة من جهة، وعن نشوء جماعة عباد الرحمن في بيروت من جهة أخرى.. والسبب برأيي يعود الى بداية انهيار التيار العروبي الناصري بعد الانفصال 1961 ثم وصول حزب البعث الى السلطة في سوريا والعراق عام 1963 واندلاع النزاع بين التيارين الناصري والبعثي في سوريا كما بين القومي العربي والشيوعي في العراق.. أما العامل الأهم والأبرز فهو بلا شك بداية محنة الاخوان الثانية في مصر عام 1964 والتي كانت ذروتها الاعلان عن اكتشاف تنظيم جديد يعيد تشكيل جماعة الاخوان في العالم بقيادة حركية ثورية جديدة، وصولاً إلى إعدام قائد هذه الحركة الشهيد سيد قطب في آب 1966.. وهكذا كان لا بد من أن يكون عام 1964 هو عام إعلان الشيخ سالم الشهال عن التيار السلفي بعد عودته من رحلة الى المدينة المنورة... الحركة السلفية في طرابلس: البدايات بحسب علي عبد العال فقد تأسست الحركة السلفية في لبنان عام 1946 على يد الشيخ سالم الشهال، الذي "بدأ سلفيته على نحو (عصامي) وليس من خلال جامعة أو مؤسسة"، وإنما تعرّف على الدعوة السلفية "من خلال مجلة (المنار) التي كان يصدرها محمد رشيد رضا، ثم من خلال كتب قرأها للشيخ ناصر الدين الألباني وابن عثيمين وابن باز"، "إلى جانب رحلاته المتعددة إلى المملكة العربية السعودية"...وقد استقى عبد العال معلوماته من الشيخ الشهال نفسه الذي يعتبره الجميع رأس الحركة السلفية المنظمة..وهذه الحركة المنظمة كانت ككل حركات السلفية في البلاد العربية معنية فقط بالجوانب الدعوية والتعليمية والأعمال الخيرية، بعيدة تقريباً عن أي شكل من أشكال الصراع الداخلي أو العمل السياسي المباشر، "فبرغم من حياته الدعوية الطويلة، والتي امتدت لنحو 50 عاماً، فإن السلفية التي حملها الشيخ سالم الشهال (توفي عام 2008) بقيت دعوة سِلمية قائمة على الحوار والموعظة الحسنة، ولم يؤثر عنه خلالها الخوض في أي خلاف أو صراع مع جهة من الجهات اللبنانية" .وبحسب هذا الوصف يبدو لنا الشيخ الشهال مسلماً عادياً تأثر بتيار العودة الى الجذور والسلف الصالح ولم يكن عنده أي أفق فكري أو دعوي ناهيك عن السياسي...الأمر الذي يفسر انفراط عقد الملتفين حوله عام 1964 وتحول معظمهم الى الاسلام السياسي الحركي (الجماعة الاسلامية ثم حركة التوحيد).. يقول الشيخ سالم الشهال إنه أرسل أبناءه الثلاثة: داعي الإسلام، وراضي، وأبو بكر، لتعلم العلم الشرعي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فتخرجوا فيها متأثرين بقوة بالمنهج السلفي في الجامعات السعودية في تلك الفترة... ومع تقدم الشهال الأب في السن وانصرافه إلى العمل الدعوي آلت زعامة الحركة السلفية إلى نجله "داعي الإسلام" الذي مثّل المرحلة الثانية من العمل السلفي، فجمع بين العمل الدعوي والسياسي، وأسس في سبعينيات القرن الماضي "نواة الجيش الإسلامي".." .. ولعل التأسيس يعود إلى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 وانتشار السلاح ودعم المنظمات الفلسطينية للعديد من التشكيلات العسكرية في طرابلس، ثم الحرب الخفية تارة والمعلنة مراراً ما بين سنة طرابلس ونصيريي جبل محسن المدعومين من الجيش السوري.. وقد مارس الجيش الإسلامي العمل العسكري في طرابلس خلال الحرب الأهلية وخصوصاً بعد سيطرة حركة التوحيد على طرابلس أعوام 1982-1985... وبالمناسبة فقد كان الشيخ سعيد شعبان مؤسس حركة التوحيد واحداً من المجموعة التي أسست التيار السلفي مع الشيخ الشهال العام 1964... كما أنه ساهم في تأسيس جماعة عباد الرحمن بين عامي 1950 و 1951 وأصبح بعد ذلك عضواً في الجماعة الإسلامية التي كانت تشكل فرع الإخوان المسلمين في لبنان. وتدرج الشيخ سعيد في مواقع العمل في الجماعة، وتولى فيها مسؤولية طرابلس والشمال عام 1976 وأصبح بعد ذلك عضواً في مجلس الشورى في الجماعة حتى تركها في العام 1980 بسبب الاختلاف في منهجية العمل الاسلامي.. . وحين انهزمت حركة التوحيد أمام الجيش السوري والأحزاب اللبنانية-الفلسطينية المتحالفة معه، جرى حل الجيش الاسلامي عام 1985 من قبل المسؤولين عنه. ولا يمكن فهم توسع وتعاظم دور التيار السلفي في لبنان مع بداية الثمانينيات الا بالاشارة إلى استفادته واستظلاله بحركة التوحيد الإسلامي التي شكل حضورها العسكري والسياسي (المدعوم من حركة فتح) نوعاً من الغطاء لتوسع نشاط السلفيين الذين كانوا قريبين من أميرها الشيخ سعيد شعبان، "خاصة داعي الإسلام الشهال، فقد كانت بينهما علاقات شخصية جيدة" ... بعد هزيمة حركة التوحيد في طرابلس عام 1985 وحل الجيش الاسلامي، هرب العديد من قادة تلك التجربة الطرابلسية الى مناطق أخرى داخل وخارج لبنان... وهكذا انتقل داعي الإسلام إلى العاصمة بيروت أولاً. ولكن اندلاع حرب المخيمات وسيطرة حركة أمل وحزب الله المتحالفين مع سوريا على بيروت جعله ينتقل إلى إقليم الخروب في الشوف، ثم إلى صيدا التي لم يكن بامكان الجيش السوري دخولها بفعل اتفاق ضمني مع الاسرائيليين على تقاسم النفوذ في لبنان يومذاك... وفي صيدا عُرف الشيخ داعي الاسلام الشهال من خلال حركة أطلق عليها اسم " الدعوة السلفية"..ولعل حركته هذه كانت بداية الدخول السلفي الى مدينة صيدا ومخيم عين الحلوة.. وفي العام 1988 أنشأ الشهال "جمعية الهداية والإحسان" التي شكلت الإطار الرسمي للحركة السلفية وكان عملها يشمل الجوانب الدعوية والتربوية من جهة، والعمل الاجتماعي من جهة أخرى، بهدف سد حاجات أهل السنة والجماعة في هذين المجالين". وقد انصرف وبدعم سعودي واضح وكبير الى تأسيس العمل الدعوي السلفي عبر المدارس الدينية، والتسجيلات الإسلامية، وكفالة الأيتام، وبناء المساجد، وتأسيس إذاعة القرآن الكريم، وغيرها من النشاطات... وانتشرت خدمات الجمعية من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه، إلى أن أصدرت السلطات اللبنانية قرار حلها عام 1996؛ بسبب ما أدعته من "إثارة النعرات الطائفية في بعض الكتب التي تعتمدها الجمعية في معاهدها الشرعية"، وكانت حجتها في ذلك أن أحد الكتب المقررة للتدريس في المعهد ضم فقرة عن فرقة (النصيرية) باعتبارها فرق ضالة خارجة عن الدين بسبب معتقداتها المسيئة للإسلام، وهو قرار سياسي بالدرجة الأولى كان مصدره جماعة النظام السوري في لبنان. وقد سجل للشيخ داعي الاسلام الشهال حضور بارز في أحداث الضنية (1999 - 2000)، وأخذ دوره كمفاوض مع جماعة (فتح الإسلام) إبان أحداث مخيم نهر البارد 2008. وهو عاد إلى العمل من جديد بعد أن أُسقطت عنه التهم التي أُلحقت به، وأُعيد لجمعية "الهداية والإحسان" الاعتبار من قبل مجلس شورى الدولة ليستأنف العمل على تحصين "أهل السنة والجماعة في لبنان" من خلال الإذاعة، وفتح المعاهد، وأسس مع بعض الشخصيات "اللقاء الإسلامي المستقل" على الرغم من ما سجله من تحفظات عليه. يعتبر تاريخ حل جمعية الهداية والاحسان عام 1996 بقرار سوري-لبناني محطة فاصلة في انفلاش العمل السلفي الهرمي وانشطاره، وقد أعقب حلّ الجمعية ظهور جمعيات ووقفيات عديدة، أسّسها تلامذة الشيخ الشهال، حيث انقلب كثير منهم على فكر الشيخ، وانقلب تلامذة التلاميذ على أساتذتهم، وراح الكلّ ينافس الكلّ على كسب الشارع الإسلامي، وما عزّز هذا التحوّل هو كثرة الجمعيات والهيئات، والشخصيات الخليجية الممولة مالياً وعقائدياً لهذه الوقفيات والجمعيات السلفية.. المدارس السلفية منذ نشأة الحركة السلفية في طرابلس وهي تحت قيادة أسرة الشهال الذين يمثلون الطرف التاريخي للسلفية في لبنان، لكن ازدادت مؤخراً حركة المنتمين إلى التيار السلفي... ولعل أبرز السمات التي يمكن رصدها في السلفية اللبنانية هي نزوع مشايخها إلى الاستقلال بمدارس وجماعات وهيئات؛ فالسلفيون في لبنان ليسوا طيفاً واحداً، بل أغلبهم يتراوح بين الخيري والدعوي، فضلاً عن التيار الجهادي؛ وذلك نظراً لاختلاف المدارس التي تلقوا عنها ووسائلهم في الدعوة والعمل؛ إذ لا يجمعهم إطار تنظيمي واحد ولا منهج واحد يأخذون عنه.. وقد ظهر في طرابلس جيل سلفي جديد تزعمه الشاب صفوان الزعبي (35 عاما) الذي بذل جهوداً كبيرة لحمل السلفيين على العمل الاجتماعي في لبنان، حتى أصبح يحظى باحترام وقبول ويمثل مدرسة مستقلة... وقد ظهر دور صفوان الزعبي قوياً في ظل الخلاف الشخصي بين الشيخ داعي الإسلام الشهال وزوج شقيقته وابن عمه حسن الشهال، وبالأخص عندما وقّع الأخير منفرداً على اتفاقية حوار مع حزب الله استثارت ردود فعل سلفية واسلامية سنية غاضبة ومنددة. والدكتور حسن الشهال هو رئيس "جمعية دعوة العدل والإحسان"، وتربطه علاقات بجمعيات وهيئات كويتية يتردد أنها تدعمه ماليا.. وقد حاول تأسيس إطار جديد لقيادة الحركة السلفية في العام 2004، حيث شكل ما سمي بـ"المكتب السياسي الإسلامي" الذي ضم مجموعات ورموزاً سلفية، وتولى رئاسته؛ وكان الهدف من هذا التأسيس هو "متابعة الأحوال السياسية التي تمر بها لبنان"، وكانت -تقريباً- المرة الأولى التي يعبر فيها السلفيون عن اهتمامهم بالشأن السياسي. وهذا التباين دعا العديد من الباحثين الى تقسيم السلفية الطرابلسية الى مدرستين: المدرسة السعودية: وهي التي استقى منها آل الشهال دعوتهم؛ والمدرسة الكويتية: وهي التي يمثلها (آل الزعبي) بقيادة الشيخ صفوان الزعبي أحد أبرز شخصيات "تجمع المعاهد والمؤسسات السلفية"، ورئيس مجلس أمناء جمعية "وقف التراث الإسلامي"، التي تعد امتداداً لجمعية "إحياء التراث السلفية" الكويتية التي تمولّه وترعاه..ومع بداية الثورة الشعبية السورية (آذار 2011) وتفاعل الشارع الطرابلسي والصيداوي معها نشأت حركات أو تجمعات جديدة أبرزها تجمع الشيخ أحمد الأسير في صيدا وتجمع الشيخ أسامة الرافعي في طرابلس... وهناك أربع جهات عربية أساسية تمول التيار السلفي في لبنان هي: الكويت والمملكة العربية السعودية وقطر والامارات العربية المتحدة إضافة إلى شخصيات إسلامية في العالم. وأبرز الهيئات الكويتية الداعمة في الكويت ((جمعية احياء التراث الاسلامي)) التي يرأسها طارق العيسى وهي تدعم الشيخ صفوان الزعبي والشيخ نديم حجازي. أما بالنسبة للسعودية فيتم التمويل من قبل ((وزارة الأوقاف السعودية)) أو عبر مؤسسات وجمعيات سعودية وأبرزها ((مؤسسة الحرمين)).وأبرز الجمعيات القطرية الداعمة للتيار السلفي ((مؤسسة عبد آل ثاني الخيرية)). ويبدو أن مؤسسات وشخصيات رسمية في إمارة الشارقة تمول بعض الجمعيات اللبنانية أيضاً.. البقاع الغربي: مجدل عنجر مثالاً تعتبر بلدة مجدل عنجر والقرعون، المركز الرئيسي والأول للحركة السلفية في منطقة البقاع، والثانية على مستوى لبنان، بعد مدينة طرابلس في الشمال. ويشير السلفيون إلى أن الشيخ زهير الشاويش، لعب دوراً بارزاً وكبيراً في نشر فكر الحركة، من خلال المطبوعات التي نشرها المكتب الإسلامي الذي يملكه.أما ظهورها في منطقة البقاع الغربي، فبدأ مع عودة عدد من الخريجين البقاعيين من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1986 وأبرزهم الشيخ الدكتور عدنان محمد أمامة والشيخ حسن عبد الرحمن. لم يشارك سلفيو البقاع الغربي في الحياة السياسية اللبنانية، فكان اهتمامهم منصباً على الدعوة والتعليم. فانشأوا المدارس وبنوا المساجد وعملوا على إلقاء المحاضرات والدروس وتوزيع الكتيبات والأشرطة التي تبصّر الناس بأمور دينهم. وفيما يتعلق ببلدة مجدل عنجر فقد أنشأوا مدرسة خاصة تجمع بين العلوم الحديثة والعلوم الشرعية، إضافة إلى مسجد الصحابي عبد الرحمن بن عوف، الذي تنطلق منه دورات ونشاطات إسلامية. وامتد تأثير الحركة الجديدة إلى قرى البقاع الغربي والأوسط وخصوصاً تعلبايا وسعدنايل وغزة وكامد اللوز وجب جنين والمرج والقرعون ، وصولاً إلى مدينة بعلبك وجوارها في البقاع الشمالي (خصوصاً بلدة عرسال).. ونشر الفكر السلفي الدعوي كان يهدف في تلك الفترة الى انكار بعض العادات الدينية في مجدل عنجر وقرى البقاعين الأوسط والغربي ، والتي كان يقوم بها أتباع عبد الله الحبشي مؤسس جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية (المعروفون باسم "الأحباش"). وقد حصل انشقاق كبير في الحركة البقاعية في العام 2003 على خلفية جواز تكفير أفراد المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، فاحتفظ الشيخان إمامة وعبد الرحمن بالفكر السلفي الدعوي، فيما برز الفكر السلفي الجهادي الذي تزعمه محمد ياسين الملقب بـ «أبي حذيفة» وارتبط بالقتال داخل العراق، مع علاقة وثيقة بتنظيم «القاعدة»، وهذا ما جاهر به في كل محطات التوقيف التي تعرضوا لها وكانوا واضحين بالحديث عن علاقتهم بـ«القاعدة» وكيف توطدت العلاقة بين سلفيي مجدل عنجر وتنظيم بن لادن عبر «أمير بلاد الرافدين» أبي مصعب الزرقاوي (الذي قتل في غارة أميركية في العراق العام 2006) ونائبه اللبناني أبو محمد.. وبعد الانشقاق، انطلق «سلفيو الجهاد» الى إعداد العدة للقتال في العراق في ظل تسهيلات واضحة من النظام السوري يومذاك، وهنا برز اسم اسماعيل الخطيب، الذي تولى تدريب وتأمين بعض الشبان واعدادهم لخوض معارك ضد الاحتلال الأميركي في العراق، بالتنسيق مع أبي مصعب الزرقاوي. وكان لشبان مجدل عنجر دور كبير في العراق حتى أن أحد ابنائهم المعروف باسم أبي محمد اللبناني تولى مهام مساعد أمير تنظيم القاعدة في العراق (وكان اسمه أبو الشهيد وعاش فترة في الدانمارك وسماه الزرقاوي أمير المجاميع، وهو قتل بحسب بعض المصادر في نفس الغارة التي قتل فيها الزرقاوي ، في حين تذكر مصادر أخرى أنه قتل في "غزوة أبي غريب" ). وقد ظهر سلفيو مجدل العنجر بشكل واضح في العام 2004 حيت تمّ توقيف «مجموعة اسماعيل الخطيب» التي اتُهمت بالتخطيط لتفجير السفارة الايطالية في بيروت. وبحسب العديد من المراقبين فإن الشق الجهادي هذا كان مرتبطاً بالمخابرات السورية من خلال شخص قدم من سوريا اسمه "أبو معاذ".. ولا بد هنا من الاشارة إلى أن أحد المشاركين في عملية 11 ايلول/سبتمبر 2001 وخاطف طائرة الرحلة 93 التي تحطمت في بنسلفانيا هو زياد الجراح ابن منطقة البقاع الغربي (من بلدة المرج) وهو من نفس عائلة نائب المنطقة الحالي في البرلمان اللبناني الدكتور جمال الجراح... صيدا ظهرت السلفية في صيدا في أواخر الثمانينيات وذلك من خلال عدد قليل من الأفراد. ولكن ما لبثوا ان توسعوا مع بداية التسعينيات من خلال أعمال خيرية ودعوية كان يقوم بها بعض من ينتمون إلى السلفية ممن أتوا من بيروت والشمال كعبد الهادي وهبـي وداعي الاسلام الشهال. ومن مظاهر انتشار هذا الفكر في صيدا وجود بعض الجمعيات ذات التوجه السلفي منها: *جمعية الاستجابة وهي جمعية مرخصة ويشرف عليها الشيخ نديم حجازي ومنهجها سلفي علمي. وتهتم بنشر الفكر السلفي المجرد من دون حمل السلاح، ويتبع الجمعية مسجد في حي الزهور ومصلى في طلعة الاسكندراني، إضافة إلى القيام بأعمال الدفاع المدني عبر سيارات إسعاف تابعة للجمعية. *مدرسة كتاب الصحابي عبدالله بن مسعود في حي الصباغ وهي مؤسسة علمية سلفية مستقلة وتقوم بدور معهد شرعي خاص يدرس الفكر السلفي والعلوم الدينية بشكل مستقل، ويديره الشيخ أبو زكريا هدوي. وهو مقرب من مدرسة نديم حجازي. كما يوجد في صيدا سلفيون متشددون يحملون الفكر الجهادي على طريقة أسامة بن لادن ويؤيدون القتال في العراق وبعضهم ذهب فعلاً إلى هناك. العرقوب وصلت أولى ظواهر السلفية الى بلدة شبعا عبر أحد ابنائها وهو الشيخ قاسم عبدالله والذي كان مهاجراً في المملكة العربية السعودية، كان خلالها يتردد الى بلدته لتقديم المساعدات للمحتاجين، داعياً الى التمسك بأسس الاسلام لتتشكل معه نواة الحركة السلفية في المنطقة... وليس للحركة أية نشاطات عسكرية ويقتصر دورها على تنوير المسلمين بأمور الدين بالاضافة الى تقديم المساعدات للمحتاجين والمرضى. في العام 2000 أي بعد تحرير الجنوب اللبناني، دخلت أطر وعناصر من السلفيين الى القرى في العرقوب لتتواصل مع الناس عبر نشاطات منوعة ومن خلال مؤسسات اجتماعية ودينية وثقافية وصحية وتربوية. وقد استفاد التيار السلفي في العرقوب من الاهمال المزمن بالمنطقة ومن الفقر والمنازل والمساجد التي دمرت دون أن يعاد اعمارها، إضافة الى الشباب العاطل عن العمل والبنى التحتية المعدومة والطرقات الوعرة. هذه الازمات فتحت الباب واسعاً أمام التيار السلفي في العرقوب فاتجه لبناء مساجد ومدارس ومراكز صحية ونظم ندوات دينية ودورات في حفظ القرآن ووزع حصصاً تموينية على المحتاجين وافطارات رمضانية وقدم مساعدات مالية وطبية وساهم في رعاية الايتام وفي تقديم تسهيلات ومساعدات للحجاج. الجهادية السلفية اللبنانية من المفارقات الخاصة بالجهادية السلفية اللبنانية أنها نشأت في حضن تجربتين غير سلفيتين: الثورة الوطنية الفلسطينية التحررية من جهة والثورة الإيرانية الاسلامية الشيعية من جهة ثانية... فقد نشأت الحركة الجهادية السلفية فعلياً على هامش حركة فتح وصراعها الدموي الطويل مع البعث السوري في لبنان ولم يكن لها علاقة بالحركة السلفية الرسمية الطرابلسية المنشأ...ولا يمكن فهم تطور الحركة الجهادية السلفية من دون العودة إلى قراءة تجربة "حركة التوحيد الإسلامي" في طرابلس من جهة، وتجربة "الحركة الاسلامية المجاهدة" في عين الحلوة ونهر البارد من جهة أخرى، وهما تنظيمان كانت ترعاهما حركة فتح في لبنان حتى العام 1991... والنواة المؤسسة لما صار لاحقاً تنظيمات "السلفية الجهادية" في لبنان هي أقلية حركية نشطة انزاحت من الجهادية الوطنية صوب الجهادية السلفية أولاً، بدءاً من ارتباطها التأسيسي بحركة فتح وبالصراع في سوريا، إلى ارتباطها بالثورة الخمينية وبحزب الله، وصولاً إلى التأسيس المستقل لحركتها كسلفية جهادية مرتبطة بالقاعدة وذلك على قاعدة حدثين تاريخيين بالنسبة لها: عودة الأفغان العرب بدءاً من عام 1991، ثم الجهاد في العراق بدءاً من عام 2003... وهي انتعشت وتطورت بين هذين التاريخين بفعل رافد خارجي مؤثر قدّمته المغتربات الأوروبية والأميركية.. فمنذ الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1976 نشأت مجموعات إسلامية جهادية مسلحة في مخيمي عين الحلوة ونهر البارد مولّتها وسلّحتها حركة فتح وكانت قريبة من الشهيد خليل الوزير أبو جهاد.. وكان الشيخ إبراهيم غنيم هو الرأس الفقهي والسياسي لتلك المجموعات.. والشيخ ابراهيم غنيم هو من قرية صفورية الفلسطينية قرب الناصرة هرب الى لبنان بعد النكبة وأقام في حي المسلخ الشهير شرقي بيروت (دمر خلال الحرب الأهلية) وانضم مطلع الخمسينيات الى زاوية صوفية تنتمي الى النقشبندية الخالدية (ومؤسسها السوري الشيخ محمد أحمد جنيد) وهي من الفرق التي لا تعترف بالبدع والشطحات الصوفية وتدعو الى التمسك بالكتاب والسنة وبسيرة الرسول والسلف الصالح... ومن هنا سهولة الانتقال اللاحق الى الفكر الحركي للاخوان المسلمين ثم الى نوع من السلفية المتحركة... انتقل الشيخ غنيم من المسلخ إلى إحدى قرى عكار بتكليف من الطريقة وداهمته ثورة 1958 حيث ازدادت اتصالاته بجماعة عباد الرحمن في طرابلس ومن خلالها بمشايخ ما صار الجماعة الاسلامية في لبنان لاحقاً... وقد انتقل الى مخيم عين الحلوة عام 1963 حيث صار يلقي دروسه في مسجد النور... "عندما حضر الشيخ ابراهيم غنيم الى مخيم عين الحلوة في الستينيات من القرن الماضي، لزمه الشيخ خالد مبروكة (خالد سويلم) يأخذ عنه الفقه والعقيدة فضلاً عن دروس في التزكية، حتى أصبح من أخص تلاميذه، رغم كثرة تلاميذ الشيخ ابراهيم غنيم؛ إذ لا يكاد يوجد عالم في صيدا وجوارها لم يدرس على الشيخ ابراهيم، وفي مقدمتهم الشيخ محرم العارفي رحمه الله ، والشيخ غازي حنينة والشيخ موفق الرواس والشيخ خليل الصيفي" ...ومن تلاميذه في عين الحلوة برز الشيخ عبدالله الحلاق والشيخ جمال الخطاب والشيخ محرم العارفي، وثلاثتهم كانوا قريبين من الجماعة الاسلامية إلا أنهم تميزوا بفكر راديكالي ثوري فاقتربوا أكثر من الشيخ سعيد شعبان في طرابلس... كما كانوا على صلة وثيقة بإسلاميي حركة فتح المشهورين بدعمهم للاخوان المسلمين في سوريا.. وقد قاتلت الجماعات الاسلامية الجديدة ضد الغزو السوري الأول للبنان العام 1976 وبعد مجزرة مخيم تل الزعتر صار العديد من كوادرها ومن كوادر فتح المتهمين بدعمها وتسليحها مطاردين من النظام السوري فلجأوا الى مخيمات الجنوب وأبرزها عين الحلوة... وحين اندلعت الثورة الايرانية نشطت هذه المجموعات من خلال التحالف المعلن بين الثورتين الفلسطينية والايرانية وخصوصاً بعد زيارة ياسر عرفات لإيران...وحين حصل الغزو الاسرائيلي الكبير في 6 حزيران 1982 كان عدد من المشايخ من صيدا وعين الحلوة، وعلى رأسهم الشيخ ابراهيم غنيم، في طهران يشاركون في "مؤتمر المستضعفين".. وحين عودته من إيران استقر الشيخ غنيم في مخيم نهر البارد إلا أن السلطات السورية اعتقلته وأمضى عدة اشهر في سجن المزة وخرج بوساطة إيرانية..وصار بعد خروجه يعمل تحت سقف تجمع العلماء المسلمين المحمي والممول من إيران.. ويبدو أن اندلاع الحرب العراقية-الايرانية 1980، ثم تبلور القطيعة الفلسطينية الايرانية بسبب هذه الحرب 1981-1982، قد ساهم في دفع الاسلاميين الفلسطينيين أكثر إلى التعاون مع إيران في لبنان... وهكذا نشأ تجمع العلماء المسلمين في صيدا 1981 وكان من رموزه من مشايخ السنة: محرم العارفي وماهر حمود وعبدالله حلاق وأحمد الزين... كما نشأت حركة التوحيد في طرابلس 1982 من اندماج عدة حركات كانت جميعها ترتبط بحركة فتح... وفي العام 1984 أعلن الشيخ غنيم مع الشيخ عبدالله الحلاق والشيخ جمال الخطاب عن "الحركة الاسلامية المجاهدة" التي كانت موجودة أصلاً منذ العام 1975.. وأسسوا في مخيم نهر البارد مسجد القدس بتمويل إيراني... والمعروف أن "الحركة الاسلامية المجاهدة" قاتلت في عين الحلوة متصدية للغزو الاسرائيلي الكبير صيف 1982 خصوصاً بعد خروج التنظيمات الفلسطينية منه ما أعطى المجاهدين الاسلاميين صدقية واحتراماً في أوساط شباب المخيمات.. وقد كان تدمير مخيم عين الحلوة بالكامل على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي بعد إخراج أهله منه، مناسبة لتميز الاسلاميين لاحقاً في عملية إعادة البناء وفي القدوم والتمركز في المخيم البعيد عن شبكات النظام السوري الذي كان دخل في مواجهة دموية عنيفة مع الاسلاميين السوريين منذ العام 1975 توسعت واحتدمت مطلع الثمانينيات...وقد انضم آلاف الفلسطينيين القادمين من عدة أماكن هرباً من الصراع الفلسطيني-الشيعي الذي كان قد بدأ يتصاعد في مناطق عدة منذ اختطاف الامام السيد موسى الصدر في ليبيا (آب 1978) وانفجر لا حقاً في حرب المخيمات.. وفي العام 1983 انفجرت الحرب الخفية بين سوريا وحركة فتح بدءاً من البقاع ووصولاً إلى مخيمات الشمال حيث أن ياسر عرفات كان قد عاد واستقر ما بين نهر البارد والبداوي وطرابلس.. وأدت حرب مخيمات الشمال إلى تدمير البارد والبداوي وخروج عرفات من طرابلس في 20 ديسمبر 1983 على ظهر سفينة يونانية وبحماية بوارج سفن فرنسية...واستمرت الحرب السورية ضد حركة التوحيد في طرابلس 1983-1985 وانتهت بهزيمة الحركة لتبدأ بعدها الحرب ضد المخيمات في بيروت والجنوب 1985-1988. وبدءاً من العام 1984 عاد الشيخ غنيم الى عين الحلوة حيث جرى الاعلان عن الحركة المجاهدة، التي لم تكن المنظمة الاسلامية الجهادية الوحيدة... فمن بين تلامذة الشيخ غنيم في عين الحلوة كان الشيخ هشام عبدالله شريدة أحد كوادر الجماعة الاسلامية في صيدا الذي قاتل في المخيم وأسرته القوات الاسرائيلية وبقي في معتقل أنصار حوالي السنة والنصف قبل أن يخرج بعملية التبادل الشهيرة في 23 نوفمبر 1983.. ومع الإعلان عن الحركة الاسلامية المجاهدة في عين الحلوة وجد شريدة نفسه خارج الأطر الاسلامية المنظمة (الجماعة والتوحيد والحركة المجاهدة) فبدأ يجمع الشباب حوله ويؤسس أيضاً في العام 1985 جماعة "أنصار الله" (التي صار إسمها لاحقاً "عصبة الأنصار")...ويمكن هنا أن نذكر التاثير المهم الذي لعبته مجلة الطليعة الاسلامية" (1983-1986) التي صدرت في لندن عن حركة الجهاد الاسلامي الفلسطينية وكانت تُطبع ثانية في لبنان وفلسطين ويعاد توزيعها ناقلة أفكار سيد قطب وعبد الله عزام إلى مجتمع المخيمات المتوتر والمتفجر بعد نكبة الاحتلال الكبير والتدمير صيف 1982...وتلاها في الأهمية مجلة الوحدة الاسلامية التي اصدرها تجمع العلماء المسلمين بدعم وتمويل من الحرس الثوري الايراني (خصوصاً سنوات التأسيس1985-1988).. وقد تأثر الكثيرون من أبناء فتح بالتيار الاسلامي الخميني وبالتيار الجهادي الفلسطيني المتشكل على ضفاف التيار المصري أصلاً. .. ويبدو أن هشام شريدة عقد تحالفاً مع جمال سليمان (قائد كتيبة شهداء عين الحلوة التابعة لحركة فتح والمطرود من الحركة في مطلع كانون الثاني 1990 لاتهامه بالتنسيق مع المنشقين والقيادة العامة التابعة لجبريل أي لسوريا)، وهو كان زميله في المعتقل وتعاونا مع جماعة أحمد جبريل وفتح الانتفاضة وفتح أبو نضال ، ما أشار إلى ابتعاد عن مظلة فتح الفلسطينية لا بل والعداء لها، وبدعم مالي وعسكري كبير من حزب الله (ما يزال مستمراً إلى اليوم بالنسبة إلى أنصار الله التي استمرت كتنظيم بقيادة الفتحاوي السابق جمال سليمان بعد مقتل شريدة في ديسمبر 1991)... وقد قاتل شريدة وسليمان ضد حركة أمل في منطقة مغدوشة عام 1986... ووقفا لاحقاً إلى جانب حزب الله حين اندلع القتال بين الحزب وحركة فتح في إقليم التفاح بدءاً من كانون الثاني/يناير 1990 على هامش القتال المشتعل بين الحزب وحركة أمل في المنطقة منذ العام 1988... ويتبنى تنظيم أنصار الله طروحات حزب الله السياسية، حيث يشكل امتداداً له في الوسط الفلسطيني. ويعتبر عديدون أن أنصار الله حالياً هو حزب الله الفلسطيني. ثمة مظاهر كثيرة لذلك، من بينها إحياء يوم القدس الذي أعلنه الإمام الخميني، حيث يُنظَّم عرضاً عسكرياً يجوب شوارع المخيم، وتُرفع خلاله شعارات وصور قادة الثورة في إيران، وأمين عام حزب الله... ومنذ العام 2003 أبدى تنظيم أنصار الله تعاطفه مع "المقاومة العراقية"، وقد نعى أواخر العام 2003 كُلاً من حسن سليمان ومحمد زيدان، وهما من عناصر التنظيم، والأول هو نجل جمال سليمان، زعيم التنظيم. وفي العام 2004 اتُهم التنظيم بأنه نصب صواريخ لقصف تلفزيون المستقبل، وذلك بناءً على بيان صدر باسم التنظيم برغم نفيه اللاحق.. ولا يخفي التنظيم ارتباطه الأمني والسياسي بحزب الله بل يفاخر به "وعلى رأس السطح" ، وبأن العلاقة تعود إلى العام 1990 ، بحسب حديث المسؤول العسكري في التنظيم .. الابتعاد عن الجهادية الوطنية صوب السلفية في آخر العام 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ونشأت حركة حماس (9 ديسمبر) وفي شباط 1988 جرى في قبرص إغتيال ثلاثة قادة ممن كانوا يعملون على التنسيق بين حركة فتح والاسلاميين الجهاديين الفلسطينيين (هم مروان كيالي وباسم التميمي ومحمد ابحيص) وفي نيسان من نفس العام جرى اغتيال خليل الوزير ابو جهاد في تونس... وهكذا فقدت الطليعة الفلسطينية الوطنية آخر محاولة للربط الخلاق بين الوطنية الفتحاوية والاسلامية الجهادية الناشئة... ولعل هذا ما يفسر رعة ارتماء التيار الجهادي الفلسطيني في عين الحلوة في أحضان حزب الله والحرس الثوري الايراني وبالتالي في شبكة سورية خفية... وبين العامين 1988 و1991 دخل لبنان في حروب داخلية كثيرة ودخلت المخيمات في مرحلة غليان متوتر وصراعات داخلية ناجمة عن مخلفات حرب المخيمات وهي أخذت طابعاً قروياً وعائلياً في التجمعات الفقيرة والمعدمة... وقد سيطرت سوريا على مخيمات الشمال والبقاع ولكنها لم تستطع السيطرة على مخيمات الجنوب ما سمح لحركة فتح ببعض الحرية هناك..وحين تصاعد القتال بين حركة أمل وحزب الله انضمت فتح إلى جانب أمل وخاضت معارك كبيرة ضد الحزب في محيط مخيم عين الحلوة (إقليم التفاح) وذلك من كانون الثاني/يناير وحتى تموز/يوليو 1990.. وفي شهر آب انتقل القتال إلى داخل المخيم ونجم عنه عشرات القتلى والجرحى وانتهى بطرد هشام شريدة وجمال سليمان من المخيم...وهما عادا مع انتصار الجيش اللبناني لاحقاً على المخيم...وبدأا من جديد حملة التعبئة ضد عرفات وفتح الأمر الذي أعاد ادخال المخيم في دوامة التوتر والعنف المستمرين الى اليوم...وفي ديسمبر 1990 جمعت طهران الحركات الفلسطينية المعارضة لفتح في مؤتمر انعقد لعدة أيام وخرج بقرارات انعكست مباشرة في مخيم عين الحلوة .. وحين قتل هشام شريدة (15/12/1991) قاد مظاهرة تشييعه كل من ماهر حمود (القريب من حركة التوحيد)وعبد الله حلاق (الحركة المجاهدة) ومحرم العارفي (الجماعة الاسلامية ) وسيد بركة (ممثل حركة الجهاد الاسلامي الفلسطيني في المخيم). يمكن القول بأن عام 1991 شهد بداية تشكل السلفية الجهادية الجديدة من صفوف الجهادية الفلسطينية واللبنانية في صيدا ومخيم عين الحلوة وطرابلس ومخيم نهر البارد...فبعد مقتل شريدة وانتخاب السعدي خلفاً له اصدر الأخير بياناً أعلن فيه عن اسم التنظيم الجديد (عصبة الأنصار) وعن تبنيه السلفية الجهادية عقيدة له..وكان ذلك أول إعلان رسمي عن هذا المسمى في لبنان.. والعام 1991 هو عام الغزو الأميركي الدولي- العربي للعراق لإخراجه من الكويت، وعام مؤتمر مدريد الدولي (أكتوبر) للسلام وقد ساهمت فيه منظمة التحرير الفلسطينية... وهو عام تفكك الاتحاد السوفياتي (25 ديسمبر) وانهيار حلف وارسو وكل المنظومة الاشتراكية نهائياً.. وهو عام بدء الصراعات الافغانية الداخلية بعد التحرير وعودة الأفغان العرب إلى بلادهم ومنهم العديد من اللبنانيين والفلسطينيين الذين كانوا في بيشاور.. كما أن 1991 هو عام انتهاء الحروب الأهلية اللبنانية (انتهاء الحرب بين حركة أمل وحزب الله من جهة والحرب بين القوات اللبنانية وميشال عون من جهة أخرى) وتعيين نواب جدد والتمهيد لانتخابات 1992 التي شهدت دخول حزب الله البرلمان.. وهو عام انقلاب خامنئي-رفسنجاني ضد تيار الامام الخميني في طهران وطرد أبرز ممثليه من الحكم (مير حسين موسوي- علي أكبر محتشمي- محمد خاتمي- وغيرهم) الأمر الذي ترافق مع طرد الشيخ صبحي الطفيلي من موقعه كأمين عام لحزب الله .... وليس صدفة أن يكون هو أيضاً عام الانقلاب السوري على اتفاق الطائف في لبنان واستكمال وضع اليد على المخيمات من خلال حصار الجيش اللبناني لمخيم عين الحلوة وضربه خلال حرب استمرت لشهور..وقد رأينا كيف أن هشام شريدة وجمال سليمان عادا إلى المخيم بعد سيطرة الجيش اللبناني (المدعوم من سوريا) عليه.. وفي العام 1991 عاد آلاف الفلسطينيين من الكويت إلى مخيمات الأردن ولبنان بعد موجة الطرد التي أعقبت تحرير الكويت من جيش صدام حسين (وبسبب الموقف الفلسطيني الداعم للعراق يومها)...ومع كل هذه التطورات وجد فلسطينيو المخيمات أنفسهم يحملون قوة شبابية هائلة ولكن 50% منها على الأقل عاطل عن العمل بسبب توقف مخصصات منظمة التحرير لمقاتليها وتوقف التمويل الخارجي للحروب وبسبب انقطاع موارد الكويت والخليج ودخول فتح ومنظمة التحرير في أزمة مالية عنيفة انعكست وقفاً للخدمات الاجتماعية والصحية التي كانت تؤمنها في المخيمات...وفي نفس الوقت ازداد تشدد السلطات اللبنانية المرتبطة بالمشروع السوري في لبنان ضد المخيمات..وقد عمل السوريون والمخابرات اللبنانية على استغلال الوضع الجديد في المخيمات وبدأوا بتجنيد العملاء من داخل التنظيمات الاسلامية وبدعم هذه التنظيمات للوقوف في وجه عودة فتح الى الحياة وفي وجه بدء دخول حركتي حماس والجهاد الى المخيمات..ذلك أن إبعاد الدفعات الأولى من قيادات حماس والجهاد إلى لبنان في العام 1988 قد أدى إلى بدء تمركز هذين التنظيمين في المخيمات وهو تمركز لم يأخذ مداه إلا بعد عملية الإبعاد الكبيرة إلى مرج الزهور في 17/12/1992 ... وفي أيلول 1993 كان توقيع اتفاقيات أوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير مناسبة لمزيد من التباعد بين المنظمات الفلسطينية في عين الحلوة ولمزيد من ارتباط الجهاديين بحزب الله وسوريا. ويمكن القول إن سنوات 1982-1996 كانت سنوات التنسيق الكامل بين التيارات الجهادية الفلسطينية وحزب الله لا بل وارتباط بعضها المباشر بالحزب على مثال جماعة أنصار الله..ولكنها أيضاً كانت سنوات بدء التأثر بالتجربة الأفغانية وبالجهاديين العرب وبعبدالله عزام تحديداً وانتقال التراث السلفي الجهادي إلى المخيمات عبر رافدين: العائدون من أفغانستان، والعائدون من بعض بلاد الاغتراب وخصوصاً الدانمارك وألمانيا والسويد وكندا وأستراليا... أما الحضن الفعلي لاختمار التيار السلفي الجهادي فقد كان في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 وبدء انطلاق مجموعات كبيرة من الشباب للقتال هناك بتنسيق وتمويل وتسهيل من المخابرات السورية التي تحكمت بالكامل بهذه العملية وكان لها أن تستغلها وتستخدمها مراراً.. أثر الجهاد الأفغاني (1984-1992) على التيار الجهادي العربي تحولت (بيشاور) المدينة الحدودية إلى جامعة حقيقية لكافة مدارس وتيارات وتنظيمات وجماعات "الصحوة العربية الإسلامية" تقريباً ..وخلال سنوات إزدهار ذلك الجمع مابين (1984) و(1992) أصبحت ميداناً لتلاقي كل الأفكار والمناهج و الطروحات التي كانت تسود الصحوة الإسلامية من دعوية، وإصلاحية، وسياسية، و جهادية.. وازدحمت فيها مئات المؤسسات الخيرية الإنسانية العربية والإسلامية والأجنبية التي قدمت لأغراض شتى تحت ستار تقديم الخدمات لأكثر من (3) مليون لاجئ أفغاني تدفقوا إلى باكستان التي ربما قطن أكثر من مليونين منهم في بيشاور وما حولها..وقد زار بيشاور خلال تلك الفترة، مئات الشخصيات الإسلامية، من علماء، وشيوخ ، وكتاب ، وشعراء، ورموز، وقادة حركات؛ لتقديم جهد ما،أو للإطلاع، أو للدعاية، أو لأي نية أخرى خاصة بالمعنيين.. ومن بيشاور كانت تتدفق المساعدات المالية والعينية والعسكرية وسوى ذلك على الحدود الأفغانية. كان عدد من المتطوعين العرب، ربما لا يصل عددهم إلى عشرة، قد توجهوا إلى باكستان بغية دعم المجاهدين الأفغان بعيد الغزو الروسي المعلن خلال أعوام (1979-1982) . ودخل ثلاثة أو أربعة منهم أفغانستان فعلياً للمشاركة في الجهاد... كما وصلها بعض المسلمين (من أطباء وممرضين خصوصاً) لتقديم بعض العون المادي للمجاهدين الأفغان خلال تلك الفترة.. ولكن التأريخ للجهاد العربي في أفغانستان يبدأ عملياً منذ (1984) عندما تفرغ الشيخ عبد الله عزام كلياً للجهاد الأفغاني ميدانياً.. والشيخ عبدالله عزام كان أولاً في حركة فتح وقاد ما عُرف يومها باسم معسكرات الشيوخ في الأردن (التي ضمت قطاعات متحمسة للجهاد من الإخوان المسلمين) بعد نكسة حزيران 1967 واستمر فيها حتى مجازر أيلول 1970 حين اختلفت منظمات الإخوان مع قيادة حركة فتح حول العلاقة بالنظام الأردني...فانتقل عزام الى السعودية وعاد منها مدرساً للإسلاميات في الأردن قبل أن يلتحق بأفغانستان. عمل الشيخ عبد الله عزام على عدة محاور لنصرة الجهاد الأفغاني كان من أهمها.. 1. تأسيس "مكتب الخدمات" الذي تولى تقديم ونقل المعونات للمجاهدين والمهاجرين الأفغان.وقد افتتح فروعاً له في العديد من المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان وعمل أحياناً تحت مظلة اتحاد الطلبة المسلمين (كما في عين الحلوة).. 2. تأسيس مجلة "الجهاد" التي كانت منبره الرئيسي للدعاية للجهاد الأفغاني والتي صارت تصل إلى آلاف الشباب الفلسطيني في المخيمات ومنها لبنان. 3. تأسيس معسكر "صدى" قرب الحدود الأفغانية، داخل الأراضي الباكستانية في منطقة القبائل من أجل تدريب الشباب العربي الذي بدأت طلائعه تصل بأعداد قليلة منذ (1984). 4. القيام بأسفار ورحلات دعائية ألقى خلالها عشرات الخطب في دول عديدة من أجل الحشد للجهاد الأفغاني، وحث الشباب على الرحيل إليه والاستفادة منه وأداء فريضة الجهاد .. وكان باكورة كتبه (آيات الرحمن في جهاد الأفغان) الذي لاقى شهرة واسعة ، وجدلاً واسعاً كذلك. ثم كتاب (الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان). وقد أفتى فيه بالفرض العين على جميع المسلمين من غير ذوي الأعذار للذهاب للجهاد في أفغانستان.وإستطاع الحصول على أكثر من (80) توقيعاً من كبار العلماء والدعاة في العالم الإسلامي وعلى رأسهم كبار العلماء في السعودية و كبيرهم الشيخ إبن باز، وكذلك من بعض مشايخ الأزهر، وبعض الكبار من علماء ودعاة الإخوان المسلمين من أقطار عديدة، وكذلك من بعض علماء الباكستان وسواهم .. وقد لعب هذا الكتاب وتلك الفتوى دوراً مهماً، بالإضافة لمجلة الجهاد التي سرعان ما تحسن مستواها، وصارت مجلة مصورة تنقل الصور الحية للجهاد والمعاناة في أفغانستان، فصار لها مكاتب توزيع في أوروبا وأميركا وبعض بلدان العالم العربي.. لعب كل ذلك دوراً بارزاً في عملية التحريض خصوصاً بين الطلاب العرب والفلسطينيين الموجودين في باكستان.. وبحسب أشرطة مسجلة للشيخ عبد الله عزام ، فإن عدد الشباب الذن ثبتوا معه في (معسكر صدى)، سنة (84) وصل إلى (12) مجاهداً وتضاعف فقط خلال (1985) فوصل إلى (25) مجاهداً ثم بلغ مع منتصف (1986) أقل من (200) مجاهد بقليل، من مختلف الجنسيات ربما كان معظمهم من السعودية ومصر وفلسطين ... وفي نهاية(1985) أو مطلع (1986) حضر أسامة بن لادن ليشارك ميدانياً بنفسه في الجهاد بعد أن كانت زياراته السابقة لتقديم الدعم ... وأدت عملية الدعاية الواسعة لعمليات الأفغان العرب، والتي غطى بها الشيخ عبد الله عزام عبر وسائله الإعلامية ، وكذلك الجولة الدعائية الهامة التي قام بها بن لادن في السعودية، أدت إلى تقاطر المتطوعين العرب بأعداد كبير ليصل عددهم مطلع (1987) إلى عدة آلاف كان أكثرهم من السعودية واليمن. ومن هناك كانت البداية عملياً حيث تزايد العدد ليصل ذروته أواخر (1989-1990 ) ويتجاوز(40) ألفاً من العرب والمسلمين من كافة بلاد العالم الإسلامي.. كانت "الحركة الجهادية" في مصر، وشطراها الرئيسيان (الجماعة الإسلامية) و(جماعة الجهاد)، قد دخلت في صراع إثر اغتيال السادات (1981) مع حكومة خلفه حسني مبارك ، وأضطر العديد من أبرز قياداتها والكثير من عناصرها للخروج من مصر تحت ضغط الحملات الأمنية لدول الجوار. ومع إزدهار أخبار الجهاد الأفغاني، بدأ العديد منهم يتوجه إلى بيشاور. كما كانت "الحركة الجهادية" التي نشبت في سوريا ما بين (1975-1982) ، قد دُمرت عملياً وإنساح من تبقى من عناصرها في أقطار الأرض ويمم عدد محدود جداً منهم وجهه أيضاً شطر أفغانستان، وإستقروا في بيشاور وعلى رأسهم عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري). كما كان بعض الكوادر الجهادية من الفلسطينيين والأردنيين، من تلاميذ وأصدقاء الشيخ عبد الله عزام قد لحقوا به أيضاً .. وبدأ عدد من الكوادر "الجهادية والعسكرية" من هنا وهناك يتوجهون إلى تلك "الساحة الكبرى للمواجهة" .. وكانت الحرب الأهلية في لبنان قد وضعت أوزارها، وتلقت الحركات الإسلامية السنية ضربات أمنية في شمال لبنان على يد الإستخبارات السورية، فهاجر بعضهم أيضاً إلى تلك الساحة .. وانضم العديد من الطلية الفلسطينيين واللبنانيين إلى اتحاد الطلاب المسلمين الذي شكل قاعدة خلفية للمتطوعين في أفغانستان... كما حضر بعض الإسلاميين من أكراد العراق.. وكانت هذه باكورة تجمع كوادر من التيار الجهادي العربي ليكونوا النواة الأولى للجهاديين وسط هذا التجمع العربي المجاهد في أفغانستان، والذي كان يتضخم بتسارع كبير .. كان الحضور الفكري والمنهجي لتنظيم الجهاد المصري ، بارزاً ونوعياً في الساحة العربية وكذلك كان حضور الجماعة الإسلامية بمصر، وبصرف النظر عن الفوارق المعروفة في منهج الجماعتين، إلا أنهما لعبتا - ولاسيما في القاسم المشترك من أفكارهما الجهادية - دوراً مؤثراً . كما كان لحضور بعض طلاب العلم وبعض الدعاة السلفيين، وبعض السروريين والصحويين من السعودية وغيرها دوراً في ترويج فكر الحاكمية والولاء والبراء وعموميات الفكر الجهادي في الأوساط العربية التي أمت الجهاد الأفغاني. كما أدى حضور بعض تراث التجربة الجهادية في سوريا في الساحة- ومنها كتاب أبو مصعب السوري عن تاريخ التجربة السورية ودروسها- دوراً نظرياً وعملياً ساهم في التبلور الفكري للتيار الجهادي ، الذي بدأ يترك بصماته على الجمع العربي . ولما كان حضور مدارس الصحوة الإسلامية الأخرى قوياً أيضاً في الساحة ،عبر سيطرتها على المؤسسات الطبية والتعليمية وعملها في المجالات الإغاثية الأخرى، ولاسيما من السلفيين التقليديين، والإخوان المسلمين والمنظمات الشبيهة بهم..بالإضافة للحضور الكبير للمؤسسات الإسلامية السعودية الحكومية وشبه الحكومية ، وما حملته معها من بصمات المؤسسة الدينية الرسمية.. وقد أحضر كل هؤلاء كتبهم ومنشوراتهم، ومجلاتهم ومحاضراتهم ، وتراثهم الفكري و الدعوي .. ونظراً لأن نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات كانت فترة تفاعل بين مدارس الصحوة الإسلامية..فقد صارت بيشاور ومضافاتها ومعسكرات التدريب في باكستان وأفغانستان وتجمعاتها مراكزا للتواصل والحوار والتماس الفكري والصدام في كثير من الأحيان بين مختلف تلك الطروحات، وخصوصاً مع الإخوان المسلمين والفكر الديموقراطي السياسي الإسلامي الذي بدأ ينتشر عبر أبحاث ودراسات ومحاضرات كان أصحابه يدعون إليها وحتى في بعض المعسكرات التي يستطيعون الحركة فيها. وفي نفس الوقت إصطدم الحراك الجهادي الجديد مع مدرسة الفقه السعودي الرسمي ، الذي كان يدعو لنبذ فكر الحاكمية (قطب-المودودي) ، وإلى اعتبار الحكام أولياء أمور شرعيين، ويدعو إلى احترام العلماء الرسميين ولاسيما في السعودية ودول الجزيرة ، وهذا التيار السعودي هو ما سمي بالمدرسة (الجامية) ثم (المدخلية)... وشيئاً فشيئاً بدأ الفكر الجهادي يسيطر على ساحة التجمع العربي، وبدأ يكتسب أكثرية الساحة، حيث اقتنع آلاف الشباب القادمين من معظم بلاد العالم الإسلامي بالفكر الجهادي، وبدأت تتبلور وتتكامل مدرسة جهادية جديدة في التيار الجهادي ، أطلق على مجموع مكوناتها فيما بعد ما عرف بـظاهرة (الأفغان العرب). كان تمازج الفقه والعقيدة السلفية مع الفكر الحركي الإخواني القطبي قد بدأ يختمر في مصر خلال السبعينيات ومطلع الثمانينيات..ولعب كتاب (الفريضة الغائبة) دوراً هاماً رغم بساطة محتواه وأسلوبه وصغر حجمه . إلا أن المهم الجديد الذي أضافه للفكر الجهادي ، كان طرح فتاوى إبن تيمية في حكام التتار الذين حكموا بلاد الإسلام ومنها الشام لما غزوها وزعموا أنهم مسلمين ، رغم أنهم بدلوا الشرائع وحكموا بغير ما أنزل الله . كما طرح مسألة المقارنة بين حكام المسلمين وأعوانهم وجنودهم اليوم وبين أولئك التتار وفتاوى العلماء في كفرهم ووجوب قتالهم مع من قاتل معهم على من فيهم من الجاهلين والمكرهين.. وإسقاط تلك الأحكام على واقع الحكومات العربية وفي بلاد المسلمين، وعلى جنود شرطتهم وإستخباراتهم ورجال أمنهم.. وكان لجماعة الجهاد مؤلفات أخرى تحمل نفس أسس ذلك الفكر، وطبعت تلك الكتب ووزعت في بيشاور. وأصدرت الجماعة عدداً من الأبحاث الجهادية التثقيفية ، وتوجت ذلك بكتاب (العمدة في إعداد العدة) لشيخها عبد القادر بن عبد العزيز(الذي تاب وأصدر نقده الذاتي ومراجعاته الفكرية ودخل في سجالات مع أيمن الظواهري وغيره من قيادات القاعدة). وربما كان هذا الكتاب من أهم كتب (الأفغان العرب). وقد سد ثغرة تثقيفية تنظيرية كبيرة في المعسكرات العربية في حينها ، وبقي واحداً من أهم كتب التيار الجهادي. وفي سياق نشاط الجهاديين في التأليف والنشر ، طبع في بيشاور سنة 1990 كتاب أبو مصعب السوري (الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا-آلام وآمال).. وافتتح الشيخ أبو حذيفة المصري، أحد كوادر جماعة الجهاد مركز النور للإعلام في بيشاور ، حيث تولى عدد من الخطباء والمحاضرين من الجهاديين تنظيم سلسلة من الدروس والمحاضرات و خطب الجمعة. وبدأت بعض التجمعات الجهادية الناشئة تدخل على الخط ، وعقدت الكثير من الدورات الفكرية والمنهجية والتربوية ، واستقطبت قدماء كوادر التيار الجهادي للتدريس والمحاضرة ..ثم استقلت بكوادرها وبدأت تتبلور وتنتج.. وبدا جلياً مع هذا المخاض الفكري، والتصادم والإحتكاك بين مختلف التيارات الفكرية المكونة لطيف الصحوة الإسلامية، أن الفكر الجهادي الحركي ممزوجاً بالمؤثرات السلفية الجديدة ، قد بدأ يطغى على الساحة ويكتسح قواعد آلاف الشباب العربي من الذين قدموا لساحة الجهاد الأفغاني رغم أن غالبيتهم لم ينضموا في عضوية عشرات التنظيمات الجهادية القديمة والجديدة، والتي صار لها في باكستان والمناطق الحدودية من أفغانستان مضافاتها ومعسكراتها وتكونت لها هياكل و إدارات، وكوادر وأمراء حيث كان الكثيرون منهمكون على هامش الجهاد الأفغاني، في مرحلة إعداد ونشاط دؤوب لحمل مشعل الجهاد والثورة للبلاد التي قدموا منها ... القشة التي قصمت ظهر البعير: حرب الخليج كان جمع المجاهدين العرب ما بين ( 1987- 1992) في أفغانستان والمناطق الحدودية الباكستانية ، ولاسيما عاصمتها بيشاور، قد بلغ ذروته عام 1990م،وحوى بكل تأكيد كامل طيف الصحوة الإسلامية، ولاسيما العربية بمدارسها المختلفة . وشهد ذلك الجمع ما يمكن وصفه بالزلزال الفكري والنفسي على مستوى المجاهدين العرب خاصة، وذلك بنزول قوات التحالف الدولي بزعامة أميركا في جزيرة العرب تحت شعار تحرير الكويت .. "فقد دخل النصارى هذه المرة بلاد الحرمين، وأحاطوا بجزيرة العرب - عقر دار الإسلام - براً وبحراً وجواً ، وأنزلوا فيها زهاء مليون جندي كان أكثر من نصفهم من الأميركان ونحو عشرين بالمئة منهم من الإنكليز، وكان نحو عشرة في المئة من دول الناتو – أوروبا الغربية - وتشكل الباقون من نحو 31 دولة. وكان لبعض الحكومات العربية والإسلامية مثل السعودية ودول الخليج والباكستان وتركيا وسوريا ومصر والمغرب وغيرها نصيباً لا بأس به من المشاركة أيضاً" . وقد رأى "المجاهدون" أن هذا الحدث الجلل يغيّر المعادلات للأسباب التالية: * الأمة الإسلامية ومقدساتها وثرواتها ولاسيما النفطية هي المستهدفة في "موجة إحتلال صليبي يهودي عسكري مباشر"...."إحتلال يهدف إلى القضاء على الوجود الحضاري للمسلمين بشكل كامل".. * تبع ذلك الزلزال وخلال أشهر قلائل مؤتمر مدريد عام 1991م، وقد شاركت فيه إسرائيل مع دول الطوق العربية ( مصر – سوريا - الأردن - لبنان ) بالإضافة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبحضور دول عربية أخرى على رأسها السعودية.. * إن كافة حكومات الدول العربية والإسلامية ، ودونما استثناء ، قد شاركت أو أيدت الحملة على العراق. "وقام الحكام المرتدون الذين رسخوا أنظمة الكفر في بلادهم ، بتقديم كافة أشكال الدعم والعون والخدمات اللوجستية لقوى الاحتلال براً وبحراً وجواً ودعموها عبر أجهزة إعلامهم، بل لقد قام كثير منهم بالمشاركة العسكرية فعلياً أو رمزياً لإثبات حضورهم وانتمائهم لهذه الحملة على الإسلام والمسلمين لتثبت تلك الحكومات أنها جزء أساسي من هذا النظام العالمي الجديد في محاربة شعوبها ودينهم الحنيف ،وفي خيانة قضاياها وبيع ثرواتها وتسليم مقدساتها" . * أصيب الإسلاميون بخيبة أمل إذ تبين لهم أن عموم الهيكل الديني في بلاد المسلمين ، ممثلاً بالعلماء المستقلين من جهة ، أو بقيادات الصحوة الإسلامية وأحزابها وجماعاتها من جهة أخرى ، "عبارة عن هيكل مفلس منهار، لا يصلح بحال لمواجهة هذه الهجمة..بل الأنكى من هذا أنه قد تبين أن معظم من يسمون علماء أهل السنة وأعلامهم المتبوعين وفقهاءهم المرموقين قد انضموا للحملة الإعلامية لهذه الحملات الصليبية فأسبغوا عليها الشرعية وجوزوها ، بل اعتبر كبار المنافقين منهم أن قدوم الأميركان إلى جزيرة العرب من أكبر نعم الله على هذه الأمة وأنه يستأهل سجود الشكر.!! كما عبّر عن ذلك ( الشيخ أبو بكر الجزائري ) عضو هيئة كبار (العملاء) في السعودية !. فمسخوا حقيقة الصورة ، ليحولوها من صورة احتلال صليبي يهودي للمسلمين ، إلى صورة نصرة مشروعة من دول صديقة إسلامية وغير إسلامية ، لدولة التوحيد (السعودية) ، وحكومة الكويت (الشرعية) ، التي أطاح بها عدو كافر غاشم، باغ على الدماء والأموال والأعراض (العراق)" ... وقد صدر يومها بيان ختامي عن مؤتمر مكة (1991) الذي دعت إليه الحكومة السعودية نحو 400 عالم ، هم كبار علماء العالم الإسلامي ، وزعماء الصحوة الإسلامية.. وممن كان فيهم ووقع على هذا البيان الختامي : هيئة كبار العلماء بالسعودية ، وشيوخ الأزهر من مصر ، وما يعادلهم من العلماء ووزراء الأوقاف والشؤون الدينية والجمعيات الدينية الرسمية وغير الرسمية لكافة دول العالم العربي والإسلامي، وكذلك معظم رؤوس ورموز الحركات الإسلامية،من الإخوان المسلمين ، والجماعات السلفية والصوفية والتبليغية والإصلاحية ..كما أصدرت معظم تلك الجماعات بيانات خاصة بها دارت حول حرمة الاعتداء على القوات الأجنبية، وإعتبارهم "مستأمنين شرعاً ، وإعتبار كل من يجاهدهم ، معتدين على ذمة المسلمين ، مفسدين في الأرض ،عقابهم في الدنيا : ( أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ )".. * "تبيّن أن الجماعات والتنظيمات الجهادية المسلحة التي رفضت ذلك الواقع ودعت إلى جهاد الأميركيين وحلفائهم ، كانت بحكم واقعها الحركي وضعفها وتشردها عن بلادها أعجز من أن تقدم حلاً لهذه الأزمة واقتصرت مواجهاتها على بيانات محدودة الإنتشار في بلاد المهجر، بعيداً عن الأمة . فقد كان موقف قياداتها ورموزها عاجزاً مقهوراً بعيداً كل البعد عن دائرة الفعل والتأثير، أو الأهلية لقيادة المواجهة".. * "تبين أخيراً ونتيجة لهذه الأحوال ، أن الأمة الإسلامية وشعوبها قاطبة ونتيجة لفساد مقومي الصلاح في الأمة ( العلماء ، والأمراء) مغيبة عن الحدث. تماماً كما روي في الأثر: ( صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس : العلماء والأمراء). وأن الأمة وقد كفر معظم ملوكها ورؤسائها وأمرائها ، ونافق أكثر علمائها.. مدعوة لدخول تيه عظيم أكبر من الذي هي فيه. ولأن حكامها المرتدين صاروا في حلف العدو. ولأن أغلب علمائها وقادة حركاتها الإسلامية قد توزعوا ، إما في متاهات النفاق أو في جحور العجز" .. صعود وسقوط طالبان خلال سنوات 1990- 1996 تراجع الأفغان العرب في أفغانستان بعد التحرير بسبب النزاعات المسلحة الدموية بين أطراف الجهاد الأفغاني السابقين.. وخرج بن لادن إلى السودان.. وانصب إهتمام أيمن الظواهري والمصريين على تطوير العنف المسلح في مصر ضد النظام ورموزه كما ضد الأقباط والسياح وكل مظاهر الغرب.. في حين وجد آخرون في الجهاد الجديد في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وفي الشيشان وداغستان أرضاً لمواصلة مسيرتهم الأفغانية.. وبرز إلى السطح العنف الإرهابي الأعمى في الجزائر بعد إنقلاب العسكر على التجربة الانتخابية الديموقراطية التي حملت الإسلاميين إلى السلطة. وهذا العنف الإرهابي لم يكن بعيداً هو الآخر عن أجهزة المخابرات الجزائرية أولاً ثم غيرها لاحقاً.. وشهدت تلك السنوات أيضاً تفريخ عشرات الجماعات والقيادات والأمراء والمشايخ ممن لا فقه ولا علم ولا تقوى عندهم، صاروا يفتون في الشاردة والواردة بالجهاد ضد الكفار وضد مطلق آخر مخالف في الرأي.. ومما زاد في سرعة إنتشار النار التكفيرية في هشيم البلدان العربية، التحالف العربي ـ الإسلامي الذي قادته أميركا ضد العراق بعد غزو الكويت في آب 1990.. وإعتبار مشاركة الدول العربية والإسلامية في حرب أميركية ضد بلد عربي إسلامي من أعمال الكفر.. وجاءت إتفاقية أوسلو (أيلول 1993) بعد حرب العراق، ثم إتفاقات وادي عربة وشرم الشيخ إلخ.. لتزيد من عمق الإحساس بالمهانة والهزيمة ومن عمق التوتر والغضب والتمرّد.. فإن أضفنا إلى ذلك دخول العالم في أحادية قطبية أميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وصعود موجة العداء للإسلام وللعرب والمسلمين في أوروبا وأميركا، واحتدام الأزمات الداخلية في الدول العربية والإسلامية وتفاقم عوامل التهميش والعطالة والفقر والبؤس وأزمات الهوية الممزّقة، ووقاحة الدعم الأميركي للعدوان الصهيوني المستمر ضد شعب فلسطين، وصولاً إلى أزمة الجهاد الأفغاني وصراع تياراته وأثنياته وقبائله، نفهم أسباب نمو مظاهر الغلو والتطرّف في بقاع العالم الإسلامي، ما شكّل أرضية خصبة لتيارات العنف والتكفير.. إلى ذلك كله جاءت ثورة الإنترنت ومواقع التحادث وثورة الفضائيات العربية (أبرزها الجزيرة) لتزيد من عوامل إنتشار مشاعر الإحباط والتمرد وتقنيات التواصل والعنف الرمزي قبل العنف المادي المسلح.. توج ذلك كله صعود طالبان السريع (1995 ـ 1996) واستلامها السلطة في كابول بدعم باكستاني صريح (خوف باكستان من صعود القومية الهندوسية المتطرفة وإستلامها السلطة في الهند، وأفغانستان مركز تاريخي للصراع الهندي الباكستاني وامتداداته الدولية).. وإذا كان تنظيم القاعدة قد ولد من رحم الجهاد الأفغاني، وكانت أهدافه أهدافاً أفغانية في المقام الأول، فإنه إستمر في الإنغماس في الحالة الأفغانية حين تحالف مع طالبان التي سيطرت على 94% من أراضي أفغانستان بعد احتلالها كابول (1996) وهكذا عاد بن لادن إلى كابول، وانضم إليه قادة الجهاد والقاعدة الذين كانوا قد تشتتوا في الخارج، ليجعلوا من إمارة أفغانستان الإسلامية "قاعدتهم" من جديد ولكن هذه المرة مع تحديد أهداف خارج إطار الجهاد الأفغاني. وكانت آخر عملية للجهاد في مصر هي عملية قتل السياح الأجانب في الأقصر (1997) والتي جاءت رداً على مبادرات وقف العنف التي طرحها قادة تنظيم الجهاد الأساسيون في سجون مصر (بكافة أجنحتهم من طارق وعبود الزمر إلى الجماعة الإسلامية إلى كمال السعيد حبيب). ففي حين كان "الجهاديون" الأصليون يخوضون أروع وأجرأ تجربة نقدية فكرية ـ سياسية (لم يسبقهم إليها أي حزب أو تيار في العالم العربي) سميت بالمراجعات، وصدر عنها عشرات الكتب والوثائق التي تنبذ العنف وتدين القاعدة والإرهاب، وكان الإسلاميون في السودان وتونس، وفي المغرب والأردن، وفي تركيا وماليزيا، وفي باكستان ولبنان، يقتحمون غمار التحول إلى حركات سياسية وطنية ديموقراطية سلمية إصلاحية ويؤسسون للوسطية والاعتدال في القول والعمل، كان بن لادن- الظواهري - أبو حفص وبقايا "الأفغان العرب" و"القاعدة" القديمة، يعيدون تجميع قواهم في أفغانستان، الطالبانية، ويعلنون في شباط 1998 تأسيس "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين والأميركان" والتي وضعت لنفسها أولاً هدف دعم طالبان والضغط على أميركا للخروج من الخليج عامة والسعودية (حيث الأماكن المقدسة) خاصة. ثم ليوسعوا لاحقاً من نطاق أهدافهم لتشمل إرغام أميركا والغرب على الإنصياع لمطالبهم سواء في الخليج أو الشيشان وداغستان أو كشمير أو فلسطين. ويلاحظ هنا أن فلسطين لم تحتل عندهم موقعاً مركزياً وأن أهدافهم كانت ضبابية وغير محددة الأمر الذي سمح لهم بنسج العلاقات مع القوى المقاتلة في تلك البقاع (خصوصاً الشيشان وكشمير) وإعادة جذب المجاهدين والمتطوعين إلى أفغانستان لخوض حروب طالبان ضد تحالف الشمال ولدعم التجربة الطالبانية.. وكانت استراتيجية القاعدة تقوم على النقاط التالية: 1 ـ التحدي والإستنزاف العسكري لأميركا وحلفائها بضربات موجعة وإن كانت متباعدة (مثال ضربات السفارات في كينيا وتنزانيا في آب/أغسطس 1999، وضربة السفينة الحربية في ميناء عدن في تشرين الأول/أكتوبر 2000، وغزوة 11 أيلول/سبتمبر الشهيرة، وضربات لندن ومدريد والمغرب والرياض والسعودية في أعوام 2003- 2006). 2 ـ توسيع رقعة الصراع على إمتداد العالم (وهذا ما تعنيه الضربات المذكورة آنفاً). 3 ـ كسب دعم وتعاطف الشعوب الإسلامية بإلباس المواجهة مع أميركا ثوباً دينياً وعبر إعلان الحرب على "اليهود والصليبيين". 4 ـ الاعتماد على أسلوب التحرك الذاتي من قبل المجموعات والخلايا المنتشرة في العالم سواء تلك المرتبطة بالقاعدة تنظيمياً، أو تلك التي تبنت استراتيجية القاعدة لاحقاً وأعلنت عن نفسها كذراع محلي لها. بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية يشير أبو محمد المقدسي إلى مسألة التسمية وعلاقة هذا المصطلح بالجماعات السلفية الجهادية الأخرى ويقول إن تلك التسمية كانت نعتاً أطلقه الناس عليهم بسبب تمسكهم "بما كان عليه السلف الصالح من الإعتقاد والعمل والجهاد، فالسلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت.. فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي والتي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية" هل السلفية الجهادية إستمرار وتكملة للسلفية الحنبلية التقليدية ؟ أم أنها كانت تجاوزاً لها وتباعداً عنها (لا بل قطيعة معها)، خصوصاً لجهة المنظور السياسي لكل منهما ؟ الأكيد أن السلفية الحنبلية تشكل أحد أبرز إن لم يكن أبرز وأهم الروافد الفكرية للسلفية الجهادية؛ وهي تشكل أيضاً الأساس العقائدي لمقولات الجهاديين حول الفرقة الناجية ..نقطة الافتراق أو الإختلاف تكمن بالتحديد في قضية اللجوء إلى العنف ومعارضة الحكام والخروج عليهم..إذ أن السلفية الحنبلية تدين بمفهوم الطاعة لولي الأمر والإنقياد للسلطات والنفور من الخروج عليها (الثورة والتمرد) باعتبار أن ذلك فتنة (والفتنة أشد من القتل)..كما أن السلفية الحنبلية لا ترى جهاد الأعداء إلا بإذن ولي الأمر (الحاكم أو الخليفة)..وهذا ما نراه بالخصوص عند السلفية التقليدية للشيخ المحدث الراحل محمد ناصر الدين الألباني (1914-1999)، وسلفية السعوديين أتباع مدرسة الشيخ الراحل محمد أمان بن علي الجامي (1931-1998) ، وعلماء أمثال صالح بن سعد السحيمي، وربيع ومحمد وزيد أبناء هادي المدخلي، كما السلفية الوهابية التقليدية وشيوخها الكبار في السعودية من أركان الحكم القائم وخصوصاً الراحلين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (1912-1999) والشيخ محمد بن صالح العثيمين (1929-2001) .. وقد رفض الجهاديون مواقف الشيخ الألباني (على سبيل المثال) كما في رؤيته للخلاص من الحكام الظلمة "الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألستنا، وهو أن يتوب هؤلاء المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح..أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم...وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلاح على الحكام بواسطة الإنقلابات العسكرية فإنها مع كونها من بدَع العصر الحاضر، فهي مخالفة للنصوص الشرعية التي منها الأمر بتغيير ما بالأنفس..." . وقد رد عبد القادر بن عبد العزيز على المحدث السلفي الألباني وعلى غيره بالإعتماد على فتاوى أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في تكفير من لم يحكم بالشريعة .....وفي حين يتورع غالب السلفية التقليدية عن تكفير الأفكار الغربية وتكفير اصحابها، وعن تكفير الحكام وتكفير الذين يعملون في خدمتهم، فإن السلفية المتشددة لا تكتفي بالتكفير بل تؤكد على ضرورته..وقد إنحاز بعض السلفيين التقليديين إلى التشدد والغلو من أمثال الشيخ الراحل مقبل بن هادي الوادعي (سلفي يمني) والشيخ عبد الرحمن البراك (سعودي) وغيرهما.. ومع تطور الجهاد الأفغاني إنتقل الجهاديون من تبجيل وتوقير أساتذتهم السلفيين التقليديين إلى المنافحة والمناصحة، فإلى الإتهام والتخطئة والرفض خاصة في ما يتعلق بمسائل الجهاد والحاكمية والتكفير، وخصوصاً بعد حرب الخليج 1990.. وهذه الرسائل والكتابات تهرب بن لادن نفسه في البداية من تدريسها حتى لا يؤثر على أعضاء القاعدة السعوديين ... ففي رسالته إلى بن باز يتهمه بن لادن بأن "النظام السعودي حين قرر البطش بالشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي،إستصدر منكم فتوى سوّغ بها كل ما تعرّض ويتعرّض له الشيخان ومن معهما" ...وكتب السعودي فارس آل شويل الزهراني معلقاً بأن "الكل يعلم إلى أي حد وصل إليه هذان الشيخان (العودة والحوالي) من تغيّر ونكوص بعد خروجهما من السجن، ويعلم مدى الركون إلى الظالمين.." ولعل أعنف نقد للسلفية التقليدية هو الذي صاغه الظواهري في رسالة بعنوان "إبن باز بين الحقيقة والوهم" التي يذكر فيها أنه "كان له رؤية سلبية من إبن باز منذ البداية"، وأن هذه الرؤية "قد صحت مع مرور الأيام"...وأنه "كان يستغرب كيف يقلّد الناس في دينهم رجلاً لم يضح في سبيل الله ولم يبتل فيه، بل لم يقبض راتبه إلا للدفاع عن مصالح الطواغيت.." . كما كتب الطرسوسي في ذم الألباني ومذهبه "الصوفي العصري الذي يترك الجهاد ويعطله"، وفي ذم تلاميذه "أذناب النظام الأردني" ... ولم ترفض السلفية الجهادية فقط الإنشغال بمسائل الفكر المعاصر مثل التجديد الفقهي والإصلاح السياسي وقضايا المواطنة والدولة المدنية وحقوق الأقليات والعلاقة بالآخر الخ... بل هي رأت أن مجرد التعاطي أصلاً مع هذه المسائل جرم كبير، كما أن الوقوع في شبهة الديموقراطية كفر إذ أن الديموقراطية دين آخر (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)..وفي ذلك كتب أبو محمد المقدسي (الديموقراطية دين) وأبو بصير الطرطوسي (حكم الإسلام في الديموقراطية والتعددية الحزبية). . كما كتب ناصر الفهد في تحريم مشاهدة الفضائيات ورفض مفهوم الحضارة الإسلامية...كما دعا المقدسي إلى ترك التعليم في المدارس المدنية والنظامية .. كما كتب أحمد الشريف محذراً ورافضاً لنظرية المواطنة وسيادة الأمة كمرجع للسلطات ومحدد للتشريع باعتيار ذلك من الكفر البواح ... وقد عقد هاني نسيرة مقارنة مهمة وذكية بين موقف السلفية الجهادية هذا من الديموقراطية وبين موقف حزب التحرير القديم خصوصاً كتاب عبد القديم زلوم (أمير الحزب بعد النبهاني) .. ولكن الفارق كما يقول نسيرة بين السلفية الجهادية وحزب التحرير في هذا المجال أن الحزب "يستند إلى تأويل فكري في مسائل الدولة إعتماداً على تصورهم المثالي لدولة الخلافة وإستعادتها في حين ينطلق السلفيون الجهاديون من دائرة التوحيد والحاكمية والمنهج السلفي بشكل رئيس" كما أن إرتضاء أو قبول أي من الإتفاقات الدولية أو أي من مبادىء القانون الدولي والشرعية الدولية مرفوض ديناً عند السلفية الجهادية والتحرير...طالما أنه تشريع وضعي ليس من الله ومن حكم الإسلام..ويعد أدنى قبول به كفراً وخيانة وخروجاً عن أحكام الدين... ومن هنا رفض كل من القاعدة وحزب التحرير إتفاق مكة بين فتح وحماس (8 شباط/فبراير 2007)...ولكن موقف حزب التحرير موقف فكري ينطلق من مركزية مفهوم الخلافة في حياة المسلمين، وفي غياب الخلافة لا يجوز لأحد عقد إتفاقات أو غير ذلك، وحتى الحرب مع المحتل، طالما غاب الخليفة الشرعي..أما السلفية الجهادية التي تلتقي في نتيجة الموقف مع حزب التحرير فإنها تنطلق من المرجعية الأصولية السلفية حول الطائفة المنصورة التي لا تنتظر إذن الخليفة للقيام بواجب الجهاد المسلح...كما أن حزب التحرير لم يكن ليحمل بعنف على مخالفيه بعكس السلفية الجهادية..ففي حين كان النبهاني يُعلن إحترامه للبنا وتأثره به ظل الظواهري يهاجمه ويحمل عليه لا بل يصل إلى حد التخوين والتشكيك كما في كتابه "الحصاد المر" عن تجربة الإخوان المسلمين ... وقد نشب بسبب هذا الإختلاف سجال بين الجهاديين والتحريريين .. كما أن تنظيم القاعدة يعتبر كل مخالفي السلفية من إسلاميين وعلمانيين خونة وقد أخذت السلفية الجهادية فكرة الحاكمية وطورتها على قاعدة أصولية سلفية عقدية وفقهية..وهذا ما نراه بوضوح في الكتاب الرئيسي للسلفية الجهادية وهو كتاب عبد القادر بن عبد العزيز (سيد إمام الشريف قبل مراجعاته) "الجامع في طلب العلم الشريف" ، والذي كان مادة تدريسية في معسكرات الأفغان العرب ثم القاعدة وكان معتمداً من قبل بن لادن...ففي هذا الكتاب يعتمد عبد القادر منطلقات منهجية وتأسيسية مستمدة من النظام العقدي-الفقهي الحنبلي السلفي التقليدي كما يرد عند إبن تيمية وإبن القيم الجوزية وأبي جعفر الطحاوي، وليس من كتابات قطب أو المودودي..ونجد هذا أيضاً في كتابات أبو محمد المقدسي وأبو بصير الطرسوسي وغيرهما من قادة السلفية الجهادية حيث يحضر محمد إبن عبد الوهاب وشيوخ الدعوة النجدية أكثر بكثير من حضور سيد قطب أو المودودي ...يقول عبد القادر بن عبد العزيز على سبيل المثال لا الحصر: " وأنصح الطالب بالإكثار من قراءة في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله مع الأخذ في الإعتبار ما وقع فيه من مخالفات في الإعتقاد والفقه..ونحن نرى أن كتابات سيد قطب كالظلال وغيره لا يؤخذ منها شيء من أحكام الإعتقاد والفقه وإنما يؤخذ منها فهم الواقع المعاصر وتعرية حقيقته الجاهلية" .. هذا في حين ينتقد الطرسوسي قطب ويرى أنه وقع ضحية الدعوى الإشتراكية خصوصاً في كتبه الأولى (العدالة الإجتماعية في الإسلام كمثال) ..أما كتبه الأخيرة مثل "الظلال" و"المعالم" و"هذا الدين"، والتي صدرت إبان مرحلة سجنه، فهي مقبولة ومحبذة. . وفي حين إتهمت السلفية التقليدية الحنبلية (وخصوصاً الجامية منها في السعودية) سيد قطب في عقيدته ومنهجه، فإن الجماعة السرورية كانت محطة بارزة في الجمع بين القطبية والسلفية من خلال ما عُرف باسم تيار الصحوة وتيار السلفية الإصلاحية في السعودية والذي أسهم في بلورة الأفكار الجديدة لما صار لاحقاً تيار السلفية الجهادية، وذلك من خلال الشباب الذين تشربوا تجربة الجهاد الفغاني..وفي هذا يقول أبو محمد المقدسي: "السلفية الإصلاحية كان لها دور في مرحلة من المراحل في توجيه هذا التيار وفي تسديده أو في انتقادات المخالفات للحكومات في الجزيرة، كان لها دور في توعية الشباب من جهة أميركا ومن جهة مخططات الأميركان..لأن السلفية الجهادية جامدة فهؤلاء نقلوا الشباب أو رفعوهم درجة باتجاه ترقية أفكارهم..وأنا حقيقة من الناس الذين دائماً اقول إن هذا التيار السلفي الجهادي المبارك...هو ثمرة ليس فقط لمشايخ هذا التيار بل لكثير من المشايخ السلفيين" والمشايخ الذين قصدهم المقدسي هم سلمان العودة وعائض القرني وناصر العمر وسعيد الزعير . السلفيون الجهاديون في لبنان بتاريخ 22 حزيران 1993 (أي قبل بروز تنظيم "القاعدة") وضع بعض "الشباب المسلم" من بلدة القلمون عبوة ناسفة تحت جسر يؤدي إلى جامعة البلمند المسيحية لاستهداف عدد من البطاركة والمطارنة الأرثوذوكس الذين كانوا يشاركون في اجتماعات دينية في الجامعة، وكانت صربيا الأرثوذوكسية تشن آنذاك حرباً طاحنة ضد مسلمي البوسنة والهرسك. وانفجرت العبوة بواضعيها فقتل أحدهم وأصيب آخر إصابات خطرة. وجرت بعدها اعتقالات واسعة للشباب المسلم في القلمون والشمال. والذين شاركوا في العملية كانوا ينتمون سابقاً لتنظيمات إسلامية حركية لكنهم نفذوا العملية بدون قرار مركزي. وفي أواخر العام 1999- مطلع 2000 (ليلة رأس السنة)، جرت أحداث الضنية حين قامت مجموعة من الشباب من مناطق القبة وأبي سمرا في طرابلس بالتدرب على حمل السلاح في جرود الضنية، وكان يقودها بسام كنج الملقب بـ «أبو عائشة» وهو من اللبنانيين الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني، الى جانب زميل له هو بسام اسماعيل حمود (أبو بكر)، وجرت اشتباكات بين هذه المجموعة والجيش اللبناني أدت الى مقتل كنج واعتقال حمود، ويذكر أن الاثنين كانا قد التحقا بـ «الجهاد الافغاني» الأول في الولايات المتحدة التي كان يُقيم فيها والثاني في السعودية حيث كان يعمل، وعادا الى لبنان ليؤسسا الجماعة التي هاجرت الى الضنية وباشرت منها نشاطها المسلح. وقد كانت جماعة الضنية على علاقة بتجمعات اسلامية في طرابلس وعين الحلوة ومنها استقت عناصرها ولعلها استظلت بعباءتها للتخفي ولم تكن لتعلن عن نفسها لولا الاشتباك الذي حدث صدفة بين قوة من الجيش اللبناني ومجموعة تحرس إذاعة الشيخ الشهال... وتؤكد مصادر إسلامية أن هذه المجموعة كانت أول إطار منظم لتنظيم القاعدة في لبنان، مع أن العديد من الشباب المسلم الذين انضموا لأبي عائشة هربوا آنذاك من المضايقات التي تعرضوا لها في طرابلس والشمال، بعد سلسلة تفجيرات طاولت الكنائس والتي تبين أن بعض الأجهزة الأمنية تقف وراءها. وأبو عائشة كان على صلة قوية بقيادات تنظيم القاعدة ومن الذين قاتلوا في أفغانستان. وبعد معركة الضنية هذه داهمت قوات الجيش اللبناني بلدة القرعون في البقاع الغربي واعتقلت عدداً من شبابها كما جرت اعتقالات عشوائية في طرابلس وعكار وما يزال العديد من معتقلي تلك المرحلة في السجون دون محاكمة ما أدى إلى نشوء قضية خاصة بهم كانت بلا شك أحد أهم اسباب التوتر وتصاعد الغضب الطرابلسي وانتشار التيار السلفي الجديد في المدينة.. أما الحضن الفعلي لاختمار التيار السلفي الجهادي فقد كان في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 وبدء انطلاق مجموعات كبيرة من الشباب للقتال هناك بتنسيق وتمويل وتسهيل من المخابرات السورية التي تحكمت بالكامل بهذه العملية وكان لها أن تستغلها وتستخدمها مراراً.. عصبة الأنصار وعصبة النور بعد مقتل هشام شريدة واستئثار جمال سليمان بقيادة تنظيم أنصار الله وتحويله إلى ذراع لحزب الله، أسس تلميذ شريدة ورفيق دربه في المعتقل وبدايات المقاومة في عين الحلوة وابن قريته الصفصاف، أبو محجن عبدالكريم السعدي "عصبة الأنصار" التي خرج عليها ابن هشام شريده عبدالله وشقيق هشام يحيى وأعلنا تشكيل عصبة النور.. ويرى الكثيرون أن عصبة النور كانت تجمعاً عائلياً تشكل للانتقام لمقتل شريدة ومحاربة حركة فتح في المخيم وللسيطرة عليه من خلال السيطرة على تجمع أهالي الصفصاف وهم الأكثرية فيه.. وبالفعل فقد دخلت عصبة النور في صدامات مسلحة مع حركة فتح وقامت بعدة اغتيالات لكوادر فتح أهمها قتل مسؤول فتح العميد أمين الكايد الذي ينتمي هو الآخر إلى تجمع الصفصاف... وفي خريف العام 2003 قامت مجموعة مسلحة من حركة فتح بتصفية عبد الله شريدي وعمه يحيى.. وبموتهما انتهى عملياً تنظيم عصبة النور، حيث انضم أكثر عناصر هذه العصبة إلى عصبة الأنصار.. وقد برز اسم عصبة الانصار وأبو محجن بشكل كبير بعد اعتقال المجموعة التي نفذت عملية اغتيال رئيس جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية (الأحباش) الشيخ نزار الحلبي في 31 آب 1995، حيث اعترف اعضاء المجموعة بأنهم تلقوا التدريب في المخيم وبأنهم تسلموا السلاح من أبي محجن. ومنذ ذلك الحين أصبح أبو محجن من المطلوبين للسلطات اللبنانية حيث توارى عن الانظار، ويقال إنه يقود العصبة حالياً من مكان سري، ويقول آخرون إنه بات خارج لبنان وفي سوريا تحديداً... ومنذ تلك اللحظة يتولى شقيقه أبو طارق قيادة العصبة. ثم توالى الربط بين العصبة وبعض الاحداث الأمنية التي حصلت في صيدا وبيروت والشمال، لكن المسؤولين عن العصبة ينفون ذلك ويؤكدون حرصهم على الأمن اللبناني. كان العراق الوجهة الاولى التي حددتها عصبة الأنصار لمحاربة الاميركيين حيث خاضت الكثير من المعارك هناك وسقط لها خلالها أكثر من 20 " شهيداً". وتعتبر عصبة الأنصار اليوم من أهم القوى الاسلامية في مخيم عين الحلوة وأكثرها تنظيماً وانتشاراً لناحية العدد والمناصرين، وهي أول ظاهرة عسكرية تتشكل للقوى الاسلامية السلفية المتشددة وصاحبة أول مدرسة سلفية في المخيم تحديداً وفي المخيمات الفلسطينية عموماً. وتذيع عصبة الأنصار من حين لآخر، عبر مكبرات الصوت داخل مخيم عين الحلوة، بيانات نعي لعناصرها الذين يقاتلون في العراق، وتتقبل التعازي والتبريكات باستشهادهم.. ومن أبرز أولئك المقاتلين: محمد أحمد الكردي (أبو محمود)، ونضال حسين مصطفى (أبو حذيفة)، وأحمد ياسين(أبو هارون المقدسي)، وأحمد علي عوض (أبوسمرا)، وسمير حسنين(أبوحمزة)، وعمر ديب السعيد، وعماد الحايك، ونضال المصطفى، وغيرهم• وكانتعصبة الأنصار قد رثت أبا مصعب الزرقاوي بعد مقتله في العراق، علناً، وبايعت على "مواصلة الجهاد حتى تحرير العراق من الصليبيين".. ويتولى قيادة عصبة الأنصار حالياً ثلاثة أشخاص، هم: وفيق عقل (أبو شريف) ، وأبو عبيدة، وأبو طارق، والأخير أبرزهم من حيث كونه أحد أشقاء أبو محجن الخمسة... ويُذكر أن ابن أبو محجن (إبراهيم السعدي) أمضى خمس سنوات في السجون السورية وقد اعتقلته السلطات الأمنية السورية خلال توجهه الى العراق للمشاركة في تنفيذ عمليات «جهادية» ضد القوات الأميركية وأفرجت عنه أوائل شهر آذار/مارس 2012 أي في عز الحديث عن ذهاب سلفيين جهاديين للقتال في سوريا. جند الشام بدأ تنظيم «جند الشام» يتصدر المشهد السياسي اللبناني بعد حوادث أمنية مختلفة لا سيما الاشتباكات التي وقعت بين التنظيم والجيش اللبناني في مخيم عين الحلوة يوم 24 اكتوبر 2005. وكان للتنظيم نشاطات عسكرية في الداخل السوري وعلى الحدود اللبنانية السورية. و«جند الشام» تنظيم إسلامي سُني من جذور سلفية متشددة يستمد أفكاره من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وتعود تسميته الى المجموعة الأولى التي تزعمها أبو مصعب الزرقاوي في أفغانستان العام 1999، حيث أطلق الاسم على مخيم التدريب الذي ضمّ متطوعين من بلاد الشام، أي لبنان وسورية والأردن وفلسطين، وتعود المسؤولية العسكرية لهذا التنظيم في لبنان الى غاندي السحمراني (لبناني الجنسية)، وهو ممن شاركوا في أحداث الضنية في شمال لبنان مطلع العام 2000، وقد عُثر عليه مقتولاً في يناير 2010 في سوق الخضار داخل المخيم. ويبدو أن التنظيم نشأ في العام 2004 في مخيم عين الحلوة، على يد الفلسطينيين: أبي يوسف شرقية، وأسامة الشهابي، وعماد ياسين وغاندي السحمراني. وقد اختير الأول أميراً، لكنه واجه صعوبات في ضبط التنظيم، ما دفعه لإعلان تخليه عن الإمارة ببيان مقتضب وُزع في مخيم عين الحلوة في 6-10-2004، ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن هذا التنظيم، الذي ضم بضعة عشرات من المسلحين، قد انهار، وتفرّق عناصره إلى عدة مجموعات صغيرة، عاد أكثرهم إلى عصبة الأنصار.. وعلى رغم انهياره تنظيمياً فقد قامت عناصر من هذا التنظيم بفتح عدة معارك مع الجيش اللبناني في منطقة التعمير، ومع حركة فتح داخل مخيم عين الحلوة، وكانت عصبة الأنصار تلزم الحياد في معظم الأحوال، لكنها بالمقابل كانت تحول دون القضاء على عناصر جند الشام، لاعتبارات خاصة بعصبة الانصار، تتعدى حق النصرة إلى الخوف من استفراد المجموعات الإسلامية، وصولاً إلى العصبة نفسها. آخر معارك جند الشام كانت المعركة التي خاضتها ضد الجيش اللبناني، في 18/6/2007 للتخفيف عن فتح-الإسلام التي كانت تخوض معارك شرسة ضد الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في الشمال، الأمر الذي دفع عصبة الأنصار وعدد من القوى الإسلامية، وفصائل منظمة التحرير، لتشكيل قوة فصل والإعلان عن حل مجموعات جند الشام نهائياً ووضع قياداتهم تحت الإقامة الجبرية بعهدة عصبة الأنصار. وقد أعلن الناطق الرسمي باسم عصبة الأنصار أبو شريف أن الجماعة قررت حل نفسها وأن 23 من عناصرها انضموا إلى عصبة الأنصار فيما وضع الباقون سلاحهم تحت إمرة الفصائل الإسلامية في المخيم• فتح الإسلام ظهر تنظيم فتح الإسلام للعلن في 24/10/2006 إثر اشتباك في مخيم البداوي، مع عناصر من اللجنة الأمنية في المخيم المذكور، وقد انتقل عناصر التنظيم بعد هذا الاشتباك إلى مخيم نهر البارد، وهناك نما التنظيم بشكل غير طبيعي، وتورّط بمشروع خطير، أدى إلى اصطدامه مع الأجهزة الأمنية للدولة اللبنانية، اعتباراً من 20/5/2007، وقد كانت حصيلة المواجهة تصفية التنظيم وتدمير مخيم نهر البارد. وقد شهدت نهاية هذه المواجهة عملية فرار لعدد من عناصر التنظيم فجر 2/9/2007، تمكّن بعضهم من الوصول إلى مخيم عين الحلوة• ويقال اليوم إن هذه المجموعة تأتمر بأوامر عبد الرحمن عوض، خليفة شاكر العبسي، مؤسس التنظيم. وما يزال عبد الرحمن عوض متوارياً عن الأنظار، فيما لا يُعرف على وجه اليقين إن كان يوجد راهناً مجموعة ترتبط بهذا الرجل في المخيم أم لا. وزعيم الحركة شاكر العبسي المولود في أريحا والأردني الجنسية والإقامة والدراسة، أفرجت السلطات السورية عنه بعدما كانت اعتقلته في العام 2002. مطلوب للسلطات الأردنية التي أصدرت بحقه هو وأبو مصعب الزرقاوي حكماً غيابياً بالإعدام العام 2004. وفي بداية شهر حزيران/يونيو 2007 أصدرت السلطات الأردنية حكماً غيابياً آخر بأعدامه بسبب تجنيد متطوعين من دول مجاورة للقتال في العراق. وكانت الحركة أعلنت عن هويتها في 26 نوفمبر 2006 وقالت إنها «تكفر بالطاغوت وسوف تحكم شرع الله في الارض لتكون كلمة الله هي العليا».وهذه الحركة بدأت كانشقاق مزعوم داخل حركة فتح-الانتفاضة المرتبطة بالنظام السوري (وهي حركة قومية عربية- ماركسية رئيسها أبو خالد العمله اعتقلته السلطات السورية بعد الانشقاق وفرضت عليه إقامة جبرية وأحلت محله في قيادة التنظيم نائبه العقيد أبو موسى). ويقول زعيم حركة فتح الاسلام شاكر العبسي إنه جاء من سورية الى لبنان بهدف مواجهة القرار 1559 الهادف الى نزع السلاح الفلسطيني، وإن تنظيمه يسعى الى قتل اليهود ومن يساندهم من «الغربيين المتصهينين». الصدام بين فتح الإسلام والجيش اللبناني انطلقت شرارته حين قام عناصر من الحركة بقتل عدد من أفراد الجيش وهم خارج الخدمة، فاندلعت معارك عنيفة الى أن سيطرت القوى الأمنية اللبنانية بالكامل على نهر البارد، وتم قتل عدد كبير من عناصر التنظيم، وفر العديد من عناصره وقياداته خارج المخيم.. وبعد فترة أعلن مجلس شورى التنظيم بتاريخ 9 يناير 2008 أنه قام بتعيين أبو محمد عوض خلفاً للعبسي الذي تضاربت المعلومات حول مصيره، فنقلت مصادر مختلفة معلومات حول وقوعه في الأسر ثم مقتله في عداد مسلحي فتح الاسلام في المعارك في تاريخ 3/9/2007، إلا أن ضابطا في الجيش اللبناني قال لوكالة الصحافة الفرنسية انه ربما كان على رأس المجموعة الصغيرة التي تمكنت من الفرار من المدخل الجنوبي الشرقي للمخيم سالكة مجرى نهر البارد وصولا إلى قرية عيون السمك» الواقعة في منطقة الضنية الجبلية الوعرة. وبعض الصحف تناقلت أن العبسي نجح بالفرار من لبنان إلى سورية بعد انتهاء عمليات نهر البارد بعضها قال إن المخابرات الجوية السورية اعتقلته قرب دمشق وبعضها اشار إلى أنها أطلقت سراحه وأنه ما يزال يعيش في سوريا. المغتربات خزان ورافد للسلفية الجهادية من بين شباب بلدة القرعون البقاعية التي اشتهرت ككل بلدات البقاع الغربي بالهجرة والاغتراب في الأميركيتين، برز اسم قاسم ضاهر وهو شاب هاجر مع أهله الى كندا حيث تعرف في المركز الاسلامي في مدينة ادمونتون الى جماعة البوسنة التابعة للقاعدة وساهم معها في جمع التبرعات.. كما برز اسم حاتم علي الذي تعرف الى هذا التنظيم في كولومبيا. ثم تعرّف ضاهر الى «أبي عائشة» عام 1995 ونسق معه ليتمركز مع مجموعة تابعة له في بلدة القرعون البقاعية. وبدأت المجموعة التي تدربت في منطقة الضنية الشمالية، منذ ذلك الحين بنشر ثقافة جديدة في البلدة، وبعد القاء القبض على عناصر هذه المجموعة ادعت مخابرات الجيش أنها اكتشفت في منازل بعضهم أسلحة ومتفجرات برغم نفي أهالي البلدة للمسألة. التطور الثاني الذي شهدته منطقة البقاع حدث مع قدوم مصطفى رمضان الى مجدل عنجر وهو بيروتي لبناني من أصل كردي تزوج من لبنانية من قرية مجدل عنجر أواخر الثمانينيات وهاجرا الى الدنمارك.. في الدانمارك كان قريباً من الأصوليين الأكراد و علاقته مع أبي مصعب كانت من خلال جماعة أنصار السنة الكردية وزعيمها الملا كريكار المقيم في النروج.. قدوم رمضان إلى القرعون ترافق مع مظاهر جديدة عبر اطلالته بثوب افغاني ولحية طويلة ودعوة الى افكار السلفية الجهادية وتكفير كل من يخالف هذه الأفكار... وقد نجح رمضان في استقطاب العشرات من الشبان..وهو كان من ضمن المجموعة التي كانت تتدرب في الضنية عام 1999-2000... واعتقل ثم جرى اخراجه من السجن!!! وفي العام 2003 جاء عبر الحدود اللبنانية- السورية شخص يمني حمل كنية «أبي معاذ» ينسق مع جهات سورية. والتقى «أبو معاذ» رمضان ورتب معه سفره الى العراق حيث تعرف الى أبي مصعب الزرقاوي واشتهر باسم «أبي محمد اللبناني» وأصبح مطلوباً من دوائر الامن الأوروبية والأميركية الى أن قُتل مع ابنه الذي لم يكن يتجاوز السادسة عشرة من عمره وذلك في غارة أميركية غرب بغداد (أبو غريب) في17 ايلول 2004 .. كما قتل من المجموعة اللبنانية 4 أشخاص من مجدل عنجر والمنارة والقرعون... وقد تولى اليمني بعد ذلك نقل شبان من البقاع الى العراق بتسهيل سوري. وكان الجيش اللبناني قد ضبط قبل ذلك 75 صاروخ غراد روسي الصنع مخبأة في قرية البيرة في البقاع الغربي داخل حائط مزدوج في منزل أحد الأهالي. وأوقف خمسة من المشتبه بهم. كذلك أُلقي القبض على اسماعيل الخطيب مع عشرة أشخاص في 22 سبتمبر (أيلول) عام 2004، وذلك بسبب ارتباطهم المزعوم بتنظيم «القاعدة»، وتبنيهم لمخطط مزعوم لشن هجمات على السفارتين الإيطالية والأوكرانية وقصر العدل وغيرها من المباني الأمنية الحكومية في بيروت. والمعروف أن اسماعيل الخطيب كان من الخلية التي ترسل مقاتلين الى العراق برعاية سورية... وهو توفي تحت التعذيب أثناء التحقيق معه. وبتاريخ 14/10/2004 نشرت جريدة الحياة تقريراً من بلدة القرعون أكد فيه سكان البلدة أن الشاب عمر درويش، وهو من أبناء البلدة، قتل أخيراً في مدينة سامراء العراقية أثناء مواجهته مع مجموعة من المقاتلين العرب هجوماً أميركياً عراقياً على هذه المدينة التي كان يسيطر عليها "المجاهدون" منذ نحو سنة. وأشار هؤلاء السكان الى أن درويش وهو شاب سلفي كان توجه الى العراق قبل شهور قليلة مع مجموعة من أبناء قريته، وسرت اشاعات بأنه اعتقل أثناء عودته من العراق على الحدود السورية - العراقية مع مجموعة من اللبنانيين من مناطق مختلفة من العراق، لكن خبر مقتل درويش نفى هذه الإشاعة.. وفي نفس التقرير تحدث سكان من قرى البقاع الغربي اللبناني عن عشرات من الشبان المنتمين الى التيار السلفي توجهوا في الشهور الأخيرة للقتال في العراق وأن الكثير منهم لا يزال مصيره مجهولاً. ومن بين هؤلاء من قتل في مدينتي الفلوجة وسامراء. ومن الأمثلة التي يسوقها السكان على ذلك الخبر الذي وصل قبل نحو ثلاثة أشهر عن مقتل الشاب فادي غيث في الفلوجة، وهو من بلدة القرعون أيضاً. علماً أن غيث هو أحد المتهمين في الأحداث التي وقعت في مطلع العام ألفين في الضنية وكان أفرج عنه قبل نحو سنة بكفالة مالية، وكان سفر غيث الى العراق يشكل لغزاً، خصوصاً أن وضعه القانوني لا يتيح له مغادرة البلاد بالطرق الشرعية بسبب وجود لائحة اتهامية بحقه. وفي السياق نفسه، أكدت مصادر بقاعية أن الكثير من شبان البقاع الغربي الذين توجهوا الى العراق قتلوا هناك، لكن أهلهم لم يعلنوا ذلك، وهم دفنوا على وجه السرعة في عددٍ من المدن العراقية ولم تسع الجماعات التي يقاتلون معها في العراق الى ارسال جثثهم الى أهلهم بسبب ما تعتقده من أن "تكريم الميت دفنه" على وجه السرعة، هذا اضافة الى صعوبة ارسال الجثث وانعدام الاتصالات. وتشير المصادر البقاعية الى أن ما يجمع الشبان البقاعيين المتوجهين الى العراق هو انتماؤهم الى التيار السلفي الذي راح ينمو على نحو واسع في تلك المناطق، خصوصاً في بلدات مجدل عنجر والقرعون والمنارة، ومن البلدة الأخيرة قتل مؤخراً شاب في الفلوجة من عائلة أبو نوح . وفي صيدا، يتحدث كثيرون عن مجموعات تطوعت للـ«جهاد» في العراق... وفي مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين عائلات كثيرة غاب أبناؤها منذ فترات متفاوتة... الشيخ جمال سليمان زعيم تنظيم أنصار الله أعلن أن ابنه الشاب قتل في عملية انتحارية في بغداد، والشاب محمد الفران المقيم في صيدا القديمة قُتل أيضاً في ساحات «الجهاد» العراقية. هذا فيما يؤكد ناشط فلسطيني في مجال تخفيفه من أهمية هذه الأخبار على أن المجموعة التي خرجت من المخيم للجهاد في العراق لا يتعدى عدد أفرادها الـ52 مقاتلاً . إلا أن علماء ومراجع دينية يؤكدون أن الوجود المتنامي للحركة السلفية في البقاع منذ ما قبل الانسحاب السوري عام 2005، لا يزال محدوداً و«تحت السيطرة»، وإن كان بعضها ظهر في صورة إعلامية أكبر من حجمه. ويرى هؤلاء أن نمو «السلفية القتالية» في صفوف الشباب المسلم في البقاع «لا يزال ضمن الإطار الفردي، ولا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في بعض القرى كمجدل عنجر وكامد اللوز وعرسال والرفيد والمنارة والقرعون ومجدل بلهيص والمرج وغزة، وهم، بالتالي، لا يشكلون قوة يجب أخذها في الاعتبار، لأن تأثيرهم، حتى اليوم، يعتبر محدوداً جداً». بيد أنهم يدعون الى «التحسب لحركة نموهم في هذه الأيام وقراءة تطورهم الكمّي والنوعي بعيداً من لغة القمع والقهر» . ويُظهر استطلاع جدول الموقوفين والمحكومين، في سجن رومية في قضية فتح الاسلام، أن السويد وألمانيا وأستراليا والدنمارك وغيرها تشكل بلاد شتات للكثير ممن انخرطوا في أنشطة «جهادية». فمن زياد الجراح اللبناني الذي شارك في هجمات 11 ايلول (سبتمبر)، وعاصم حمود الأستاذ الجامعي الذي درس في كندا واعتقل في لبنان، الى عشرات الأمثلة المشابهة التي تؤكد ان «القاعدة» تمكنت من تجنيد لبنانيين كثر في المغتربات الأوروبية، وصولاً إلى توقيف بعض المتهمين في قضية التخطيط لتفجير السفارة الإيطالية في بيروت. وأشير في حينه إلى أن أحد المتورطين في هذه القضية، سعودي، يدعى أبو عبد الله، من المحتمل أن يكون منسق تنظيم «القاعدة» بين الشرق الأوسط والخلايا المتطرفة في عدد من البلدان الأوروبية.وكان اتهم في الدنمارك وإيطاليا بنقل الأموال من المجموعات الموجودة هناك والمساهمة في إعداد «مجاهدين للمقاومة» في العراق. وارتبط اسم أبو عبدالله باسم إحدى الشخصيات الأساسية في تنظيم «القاعدة»، وأحد مساعدي أبو مصعب الزرقاوي، اللبناني - الكردي الأصل، مصطفى رمضان المعروف بـ «أبو محمد اللبناني». ومن ألمانيا برز اسم الموقوف يوسف ديب، بتهمة محاولة تفجير قطارات وهو شقيق صدام ديب، الذي قتل خلال أحداث نهر البارد في إشتباكات منطقة «المئتين» في طرابلس. ومن بين الذين احيلوا على المحكمة العسكرية شخص من آل خزعل قريب لبلال خزعل، محكوم في استراليا بتهمة الانتماء الى تنظيم «ارهابي». ومن اســتراليا أُوقف أفراد من مجموعة نبــــيل رحيم، ومن بينهم المجـــنّس الاســترالي حسام الصباغ، والذي عاد إلى لبنان مفضلاً العمل كبائع فول في منطقة أبي سمرا في طرابلس، حيث اكتشـــفت استخبارات الجيش مخزناً للسلاح يعود الى هذه المجموعة ويملكه عمر حدبا وهو يحمل أيضاً الجنسية الأسترالية ويعمل كسائق تاكسي في لبنان. ويتم التحقيق مع بعض «المهاجرين» في كثير من الأحيان لمجرد «تورط» أحد أفراد عائلتهم أو الاشتباه في تورطه مع إحدى الجماعات «الارهابية»، وهو ما ينطبق على الفلسطيني الفار محمد عزام، إذ تم التحقيق مع اشقائه: عز الدين، المقيم في الدنمارك منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً، وزكريا المهاجر إلى تركيا، ونبيه المقيم في المانيا، ومن ثمّ إخلاء سبيلهم. الدنمارك ترد اكثر من غيرها في التحقيقات كبلد يجري فيه «تجنيد لبنانيين وعرب في تنظيمات متشددة»، أو على الأقل تمهيد الطريق أمام «الفكر الجهادي لاستقطاب عدد كبير منهم». وإلى جانب تردد اسم مصطفى رمضان، والمعلومات التي تشير الى ان الأخير جُنّد في الدنمارك وجاء الى لبنان وانتقل منه الى العراق، ليقتل مع ابنه الذي لم يكن بلغ السادسة عشرة حينها، برز اسم الدنمارك مجدداً مع التوقيفات التي حصلت أثناء معارك نهر البارد وبعدها. ومن أبرز الموقوفين في هذه القضية وليد حسن البستاني، الذي كان تردد أنه قتل في معارك البارد، قبل أن يعتقل في منطقة الميناء، بعد بدء هذه المعارك. ومن الموقوفين أيضاً في سجن رومية، الفلسطيني محمود فياض أسعد، وهو يتشارك مع البستاني في حيازتهما إقامة دائمة على الأراضي الدنماركية، حيث أمضيا 17 عاماً مع «دنماركي» ثالث موقوف بالتهم ذاتها، وهو علي محمد إبراهيم.. وهذا الأخير هو الوحيد من بين الموقوفين الذي يحمل الجنسية الدنماركية ويدرس الآداب وهو يؤكد أنه عاد إلى لبنان للاستقرار مع عائلته، لأن البيئة الدنماركية ليست مثالية للأطفال من أجل أن يتربوا على العادات والتقاليد. وكان يتردد الى الدنمارك من أجل المساعدات التي ينالها، كمواطن دنماركي لا يزال طالباً. وقد حاول السفر في شباط (فبراير) 2007، إلاّ أنه «فوجئ بمنعه من السفر، تحت عنوان سري». أثار قضيته عبر السفارة الدنماركية وبعد أخذ وردّ اتصلت به القنصلية الدنماركية في لبنان وأبلغته أن بامكانه السفر لأن لا شيء يمنعه من ذلك. ابراهيم الذي كان يتحفظ بالتنقل بعد مقتل شقيقه صدام ديب في أحداث المئتين، توجه إلى سراي طرابلس برفقة والده «من أجل أن يحصل على جواز سفر بدل عن ضائع، كي يتمكن من السفر»، حيث تم القبض عليه. وهو يعتبر أن توقيفه تمّ بسبب شقيقه صدام، بالإضافة إلى شقيقه محمد الحاج ديب (24 سنة) الموقوف في ألمانيا بتهمة محاولة تفجير قطارات في 31 تموز (يوليو) 2006 . الانتشار السلفي التقليدي تنتشر الجمعيات والمعاهد السلفية في لبنان من الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً ببيروت ويبلغ عددها حوالي 25 جمعية وهي تقوم بأنشطة دعوية وأخرى خيرية في مجال علاج المرض ومساعدة الفقراء ودعم الطلبة المتفوقين علمياً والدعوة الدينية ومساعدة الايتام والأرامل والكثير منها لا يتوقف نشاطه على العمل الخيري أو الدعوة بل راكمت نفوذاً سياسياً، وهي: *جمعية دعوة الايمان ومعهد كلية الدعوة والارشاد (طرابلس) ويرأسها د. حسن الشهال. *جمعية الهداية والاحسان الاسلامية التي أسسها الشيخ داعي الاسلام الشهال والتي تعمل حالياً تحت اسم ((وقف اقرأ الاسلامي)). *وقف ومعهد الإمام البخاري في عكار ويديره الشيخ سعد الدين كبـي والشيخ عبد الهادي وهبـي. *وقف الأبرار ومعهد طرابلس للعلوم الشرعية في طرابلس بإشراف الشيخ فؤاد ازمرلي. *وقف ومعهد الأمين للعلوم الشرعية في طرابلس ويديره الشيخ بلال حدارة. *جمعية الاستجابة الخيرية وتنشط في صيدا والجنوب ويرأسها الشيخ نديم حجازي. *مكتبة اقرأ الاسلامية ويشرف عليها د. الشيخ عمر بكري فستق. *وقف إحياء التراث الاسلامي ويشرف عليه الشيخ صفوان الزعبـي ولديه نشاطات عدة في المناطق اللبنانية. *مركز جمعية النور الخيرية وتنشط في شبعا والعرقوب وفي بلدة الكفور قرب النبطية ويشرف عليها الشيخ أبو جهاد الزغبـي. *مسجد حمزة في طرابلس ويتولى إمامته الشيخ زكريا المصري. *الوقف الخيري الاسلامي في صيدا ويرأسه الشيخ أحمد عمورة. *جمعية ومركز السراج المنير (بيروت). *وقف البر الخيري (الضنية). *المركز الاسلامي ومسجد عبد الرحمن بن عوف في البقاع ومجدل عنجر. *جمعية الارشاد ومدرسة الابداع (عكار). *وقف إحياء السنة النبوية (الضنية). *دار الحديث للعلوم الشرعية (طرابلس). *وقف إعانة الفقير (طرابلس). *تجمع سنابل الخير (عكار). *وقف الخير الاسلامي ومسجد ومركز الأقصى (الضنية). *الوقف الاسلامي السني الخيري (زغرتا). *وقف إغاثة المرضى (طرابلس). *جمعية التقوى الاسلامية في بيروت ويرأسها الشيخ جميل حمود. *وقف الفرقان للبحث العلمي (طرابلس). *وقف البلاغ الاسلامي (طرابلس) *أما في بيروت، فلعل أولّ عمل سلفي فيها كان مع افتتاح إذاعة "صوت الإسلام" عام 1993، وقد أشرف عليها "وقف القدوة للعلم والدعوة" في بيروت، وهو عبارة عن اتحاد جمعيتين، هما "جمعية التقوى" و"جمعية العلم والإيمان" بإشراف الشيخ أحمد الميكاوي الذي تأثر بمدرسة الشيخ سفر الحوالي، والشيخ سلمان العودة، والشيخ سعد الحصين الذي كان وزيراً للأوقاف في السعودية. حصل بعدها خلاف داخل إذاعة "صوت الإسلام" بين تيارين، تيار قطبي قريب من أفكار علماء الصحوة في السعودية وتيار آخر محسوب على الشيخ عبد الهادي وهبة المتأثر بفكر الشيخ المدخلي. *وفي تقرير صحفي آخر لجريدة السفير كلام عن وجوه سلفية خارج السياق التقليدي. ومن بين هؤلاء إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي الذي يتنامى حضوره نظرا للحالة السلفية التنظيمية التي نجح في تأسيسها في الزاهرية والقبة والميناء والأسواق، يليه في ذلك الشيخ داعي الاسلام الشهال في أبي سمراء والقبة، والشيخ زكريا المصري في القبة، إضافة الى الحضور الفاعل لعدد من المشايخ ممن يملكون معاهد شرعية ومدارس لتعليم القرآن الكريم. كما انضم كثير من المجموعات الشبابية العاملة في المناطق الشعبية مؤخراً، لا سيما تلك التي انسلخت عن "المستقبل" أو من بقايا ما كان يعرف بـ"أفواج طرابلس"، إلى هذه الحالة السلفية العامة بخلفيات سياسية وإقليمية ودينية للاستفادة من الغطاء لها" ... وتبقى ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في صيدا خير مثال على هذا التطور باتجاه التنظيمات السلفية الجذرية السياسية الحركية (غير الجهادية) وهي نموذج جديد من نوعه لا يمكن وضعه ضمن التصنيفات السابقة. العلاقة بين السلفية اللبنانية والقاعدة يعتبر أكثرية السلفيين اللبنانيين أن «القاعدة» هي صنيعة جماعة «الأخوان المسلمين» التي اضطهد أعضاؤها في البلدان العربية، لا سيما في مصر وسوريا ، وقد أدى القهر والظلم والكبت والتعذيب الذي تعرّضوا له في السجون الى ولادة هذا الفكر المتطرّف لديهم ضد الأنظمة، فهاجر كثير منهم الى السعودية واحتضنتهم هناك الحركة الوهابية، وحصل نوع من «التلاقح» خرجت بموجبه «خلطة سحرية» (أسميتها كوكتيل مولوتوف) أطلق عليها اسم «تنظيم القاعدة»، ثم انتقل هذا الفكر الى أفغانستان، بقرار سياسي عربي- إسلامي- دولي فرضته الحاجة آنذاك (مواجهة المحتلين السوفيات)... وفي أفغانستان انتظم الجمع المجاهد في كيانات واجتهادات تقوم بمعظمها على محاربة كل من يخالفها الرأي والمنهج، وانضمت إليها لاحقاً عناصر جهادية من جنسيات مختلفة حملت فيما بعد اسم الأفغان العرب . ويستند أصحاب وجهة النظر هذه، الى كلام منسوب الى زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن يقول فيه: «إن شيخه هو المجاهد عبد الله عزام الذي غادر مصر هرباً من التنكيل الذي حلّ بالاخوان المسلمين». ويعتبر هؤلاء أن السلفيين الحقيقيين لا يحملون الفكر التكفيري، وهم على نقيض كامل مع أفكار ونهج ومبادئ «القاعدة» التي وبحسب رأيهم تشوه صورة السلفيين الذين «لا يرضون بالقتل والتدمير إلا إذا كان جهاداً دفاعاً عن الأرض أو العرض» . كما يؤكد هؤلاء على وجود مجموعات سلفية تكفيرية في لبنان تلتقي مع «القاعدة» بالفكر والمنهج، لكنها ليست قادرة على أن تتصل بها ومعها تنظيمياً لأسباب عدة، أبرزها التعقيدات الأمنية لدى «القاعدة» والرقابة الأمنية المفروضة على هذه المجموعات، والدليل على ذلك هو أن عدداً من الأشخاص محتجزون لدى القضاء اللبناني بتهمة الفكر الجهادي الذي تحمله «القاعدة»، لا بل يحاكم بعضهم بتهمة الانتماء الى «القاعدة» نفسها . أما وجهة النظر الثانية، فتعتبر أن مدرسة «تنظيم القاعدة» أسسها أحفاد وطلاب أحفاد محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا مضطهدين من جزيرة العرب في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، وتؤكد بالتالي ان هذا التنظيم هو سلفي العقيدة والمنهج، وصاحب دعوة وسلوك سلفي، لا يساوم ولا يهادن ولا يداهن، ولا يبدّد الأحكام لإرضاء الحكام أو لإرضاء العوام، لذلك فإن كل قاعدي هو سلفي العقيدة لكن ليس كل سلفي هو بالضرورة "قاعدي" التنظيم، لأن هناك تيارات سلفية تعادي تنظيم "القاعدة" وتحاربه، وهي تابعة لبعض الأنظمة الخليجية، ومنها السعودية، التي تواجه بشراسة السلفية الجهادية. ويشير أصحاب وجهة النظر هذه، إلى أن السلفية الجهادية لا توالي الأنظمة، وهي تعطي ولاءها لـ«القاعدة» التي أحيت الفكر السلفي على المستوى العملي، وليس على المستوى النظري أو العلمي أو التربوي، وأن كوادرها وعناصرها عندما انتقلوا الى أفغانسـتان تحالفوا مع «طالبان» الذين يحملون العقيدة السلفية الجهادية، وتمّ في حينها تأسيس مجموعة «الأفغان العرب»، ومن ثم تشكيل الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين التي جمعت كل من ينتمي الى هذا الفكر، واستمرت في الجهاد حتى العام 1998، حيث عقد مؤتمر عام بعد استشهاد عبد الله عزام، أعلن في ختامه عن تشكيل «تنظيم القاعدة» تحت إمرة أسامة بن لادن الذي عمل على بنائه عقائدياً وفكرياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وعلى تجهيز رجاله وتوسيع رقعة عملياته، واستمر حتى مقتله في العام 2011 ليتسلم المسؤولية من بعده أيمن الظواهري ... وفي هذا الاطار يرى رئيس «معهد الدعوة والارشاد» الدكتور حسن الشهال «أن السلفية تقدّم الاسلام ببساطته الأولى، لأنه كلما اقترب الناس من الإسلام الفطري قبلوه وتقبلوه لكونه يلائم فطرتهم في كل زمان ومكان، وهذا ما يجعل السلفية تتوسّع في المساجد والمناطق والأحياء الشعبية». ويجزم الشهال «أن تنظيم «القاعدة» ليس وهابي النشأة، بل هو مصري المصدر، لأنه تأثر بالفكر الذي جاء فيه أيمن الظواهري من مصر وكان نتيجة لحالة الكبت والقهر التي سادت في مصر أيام الحقبة الناصرية»، لافتاً الانتباه الى أنه «إذا كانت «القاعدة» تحمل الفكر التكفيري فالسلفية هي نقيضها، فنحن كسلفيين ضد القتل والتدمير في أي مكان، ونعتبر أن مثل هذه الأعمال الإرهابية تمهد لمشروع فتنة على مستوى العالم ككل». ويرى الشهال «أن تنظيم «القاعدة» لا يقدم شيئاً للسلفية بل يعمل على تشويه صورتها عندما يخلط بعض الناس بين القاعدة والسلفية البريئة من هذا الفكر جملة وتفصيلاً، وهي التي خاضت تجربة انتخابية في مصر كانت من أفضل التجارب، فأين فكر القاعدة التكفيري مما جرى في مصر من انتخابات ديموقراطية نزيهة فاز فيها التيار السلفي بعدد من المقاعد؟ وأنا أجزم أنه لو كان هؤلاء تكفيريون لما فاز منهم أحد». ويؤكد هؤلاء أن «تنظيم القاعدة» غير موجود في لبنان، بوصفه بنية مستقلة قائمة بذاتها، لأنه لا يصلح أن يكون ممراً (ساحة نصرة) أو مقراً (ساحة جهاد)، ويكشف هؤلاء ان مجموعة من خبراء «القاعدة» حضروا الى لبنان غداة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأجروا دراسة حول الوضع اللبناني من النهر الكبير شمالاً الى الناقورة جنوباً، وخلصوا الى «أن لبنان لا توجد فيه بيئة حاضنة لعناصر «القاعدة»، وأن الخرق ممكن في حالة واحدة، عندما يعود السنة الى دينهم والى السلفية الحقة، خصوصاً أن معظمهم اليوم يسير في ركب تيار علماني (…) يدّعي الدفاع عن السنة ويوالي النظام السعودي»! وبحسب هؤلاء أيضاً، فإن لـ«تنظيم القاعدة» استراتيجية واضحة، وهي أنه لا يقاتل في بلد أهله لا يقاتلون، وهو بالتالي يفتش دائماً عن البيئة الحاضنة في البلاد التي أصيب أهلها بترويع أو بظلم أو احتلال، فيعمل على توعية المواطنين الى واجبهم الجهادي الشرعي، ويعلن الإمارة الاسلامية وينطلق بجهاده متحصناً بالبيئة الحاضنة، وهذا ما لم يجده في لبنان. ويقول رئيس «جمعية الأخوة والتربية والانماء الاسلامية» الشيخ صفوان الزعبي «إن أصل المنهج السلفي هو الاهتمام بتصفية ما علق في الاسلام من بدع وخرافات وفلسفات بشرية، وبالتالي تربية المجتمع الإسلامي على هذا الفكر المصفّى»، ويعتبر هذا المنهج أن الأجواء السلمية والاستقرار الأمني هما البيئة الحاضنة لهذه الدعوة، على اعتبار أنه في المعارك لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا أحد يسمع لصوت العلم والفكر، ومن يسود هو أشد الناس بأساً سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، سلفياً أم غير سلفي». ويؤكد الزعبي «أن هذا المنهج لا يلتقي مع فكر تنظيم «القاعدة»، وإن كنا نعده أقرب إلينا من تجار الدين والسياسة، ذلك أن «القاعدة» تضحي بنفسها من أجل قضيتها، أما تجار الدين والسياسة فيضحّون بغيرهم من أجل قضاياهم»، وأشار الى «أن تنظيم «القاعدة» موجود في لبنان عبر الفكر التكفيري الجهادي، والسلفية اليوم تمدّ «القاعدة» وغيرها من الحركات الإسلامية بالشباب المسلم لأن الساحة السلفية غير ممسوكة وغير منضبطة ومن دون أي قيادة». ويرى الزعبي «أن السلفية تنتشر اليوم في لبنان لتعبئة الفراغ الناتج عن جنوح كثير من الحركات الإسلامية من الحالة الدعوية الى التلهّي بأمور السياسة والمناصب». ويقدم «شيخ القراء» في طرابلس بلال بارودي مقاربة جديدة لموضوع القاعدة والسلفية، فيرى أن لا شيء في هذه الدنيا اسمه «القاعدة» ولا شيء إسمه سلفية علمية أو جامدة أو جهادية، إنما كل ما يعرف بالحراك الاسلامي اليوم هو من أساس فكر الأمة الاسلامية، وكذلك الجهاد الذي هو فريضة على كل مسلم، عملاً بالحديث الشريف: «من لم يغز أو تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية»، لافتاً النظر الى «أنه في التاريخ الاسلامي لم يكن هناك شيء إسمه «القاعدة» أو الجماعات الجهادية، بل كان هناك فكر للأمة قائم على الدعوة والجهاد، وبهذا الفكر إنتشر الاسلام ففتحت مكة وسائر جزيرة العرب، وعادت القسطنطينية وفتحت القدس وبلاد الشام ووصل الإسلام الى الصين». ويعتبر بارودي «أن الصحوة الإسلامية التي حصلت في الثمانينيات من القرن الماضي بلغت اليوم سن الرشد، وهي تعمل لاستعادة حضورها وقوتها، وقد بدأ ذلك من خلال ثورات الربيع العربي، حيث رأينا كيف أن الشارع العربي إختار الاسلاميين لتمثيله سواء في تونس أو مصر، وهذا أمر يبشر بالخير» . ويرفض مؤسس التيار السلفي في البقاع وأحد أبرز منظّريه ومشرّعيه في لبنان، الشيخ عدنان إمامة، أن يشارك أنصار التيار أو أبناء الطائفة «السنيّة» في العمل العسكري الداعم للثورة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد. يقول الدكتور إمامة إنه يدعو «إخوانه» في التيار السلفي و«الطائفة السنية» إلى دعم إخوانهم السوريين «بما لا يؤدي الى زعزعة الاستقرار في لبنان». يضيف: «لا نريد أن نحرق لبنان في أتون الثورة السورية». ويؤكد أن الثوار في سوريا «ليسوا في حاجة الى رجال، بل إلى مال ومن يؤوي أهلهم وينصر قضيتهم في الإعلام». فبرأيه، «مفاسد مشاركة اللبنانيين العسكرية في الثورة السورية أكبر بكثير من مصالحها». يدرك إمامة أن «فتواه» أو رأيه السياسي - الديني سيتعرض لهجمة من سلفيين متشددين لا يرى أن لهم فعالية تذكر في لبنان، و«هم في الأساس لا يتجاوز عددهم 50 الى 60 سلفياً متشدداً»، داعياً الى «النظر في ميزان المصلحة أولاً». ويوضح: «إذا شجعنا السنّة في لبنان على حمل السلاح ليقاتلوا النظام السوري، فمعنى ذلك أننا نقول للفريق المناصر لنظام بشار الأسد أن يحمل السلاح. ونحن من أنصار ألا تنتقل الفتنة السنية _ الشيعية من العراق الى لبنان، ولا من سوريا الى لبنان» .