إلغاء الطائفية السياسية: فزاعة لم تعد تخيف!؟
النهار 10 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولى
ثلاث مرات طرح فيها موضوع إلغاء الطائفية السياسية حتى الان منذ توقيع إتفاق الطائف (1989) وإقرار التعديلات الدستورية (1990)، وفي المرات الثلاث كان يتم سحب الموضوع بعد صدور موقف واضح وحاسم من المرجعية الإسلامية الشيعية.
في المرة الأولى صدر الكلام "العلماني" المطالب بإلغاء الطائفية السياسية عن الوزير البعثي عبدالله الأمين إثر نداء السينودس الشهير.. وقبل أن يستفحل الفرز ما بين مؤيد ومعارض للمطلب كان الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الثانية صدر الكلام عن الرئيس نبيه بري إثر مشاركة وزراء "أمل" في الموافقة على مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي وعارضه الرئيس رفيق الحريري. يومها صدرت مواقف وتصريحات عنيفة عن المراجع الدينية الإسلامية وصلت إلى حد تكفير المسلمين الذين صوتوا مع المشروع. وقد اضطر الرئيس بري من ناحيته إلى تغطية وزرائه بطرح إلغاء الطائفية السياسية كمقدمة لا بد منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وهو يقصد بذلك "إحراج" المشروع "لإخراجه".
ويومها أيضاً كان للإمام الشيخ محمد شمس الدين الموقف المتضامن نفسه من جهة مع المفتي قباني والقيادات الإسلامية في رفض مشروع القانون المدني للأحوال الشخصية والمعارض من جهة أخرى لطرح مشروع إلغاء الطائفية السياسية. فسحب المشروع من التداول...
أما المرة الثالثة (ولعلها الأخيرة) فقد انطلق الكلام عن الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور من النائب القومي السوري الدكتور مروان فارس، وذلك أثر صدور نداء المطارنة الموارنة الأخير...
وقد حاول النائب فارس جمع تواقيع على عريضة نيابية وما لبثت المحاولة أن انهارت وطواها الصمت المريب ما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة كلها لم تتعدّ التهويل والإستعراض وليس المبدئية والجدية في الطرح... وكما في المرتين السابقتين كان للإمام شمس الدين الموقف نفسه الداعي إلى سحب الموضوع من التداول مع دخول عنصر جديد تمثل في طرح موقف متقدم هو الأول من نوعه بالنسبة إلى القيادة الإسلامية والشيعية منها تحديداً.
لماذا الفزاعة؟؟
وقبل أن نتناول الموقف الشيعي الجديد كما عبر عنه الإمام شمس الدين لا بد لنا من التساؤل عن سر ذلك التناوب "العلماني" على إستخدام موضوع إلغاء الطائفية السياسية كفزاعة كلما صدر موقف مسيحي لا يعجب أطرافاً في السلطة (نداء السينودس، وأخيراً نداء المطارنة) وعلى إستخدام موضوع الزواج المدني أو قانون الأحوال الشخصية، كفزاعة، كلما صدر موقف إسلامي لا يعجب أطرافاً في السلطة ... وفي الحالتين فإن الإستخدام "الإنتهاري" يكشف عن طينة أصحابه وعقليتهم إذ يضعهم في خانة التحرك لتخويف الناس وإثارة الإنقاسامات وإحداث إستقطاب وفرز وهيجان، والتهويل بالفتنة والحرب الأهلية، وصولاً إلى طرح شعار "إما الأمر الواقع وإما الفوضى" .
المهم أن طرح إلغاء الطائفية السياسية يتم في مناسبات إعلامية وبصورة تحريضية، وهو يتكرر كلما صدر موقف مسيحي يطالب بالتوازن والمشاركة..
والغريب في أمر الذين يتولون مهمة اخراج المادة 95 من صندوق الفزاعات، أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء شرح سبب نسيانهم المادة (في غير مناسبة إخراجها الظرفي) أو تغاضيهم عن تفشي الطائفية المذهبية، أو حتى نجاحهم الإنتخابي على لوائح أقل ما يقال فيها أنها ذات لون مذهبي أو طائفي فاقع... فالمادة 95 موجودة في الدستور منذ تعديل 21/9/1990 (أي منذ عشر سنوات بالتمام والكمال) فلم نسمع مرة عن برنامج عمل جدي أو عن مشروع عملي، لخوض نضال حقيقي في إتجاه تنفيذ المادة 95. ومن ناحية أخرى فإن الذين يتنطحون لإعطاء اللبنانيين دروساً في العلمانية والديمقراطية لا يجدون من يسألهم عن مدى علمانية أحزابهم ومؤسساتهم وأنظمتهم وديمقراطيتها وهي أشهر من نار على علم في هذا المجال!!
ماذا في الجعبة اليوم؟؟
واليوم ومع إكتمال عقد السنوات العشر على دستور الطائف، ومع صدور صرخة الأساقفة الموارنة في ندائهم الشهير، ومع إتضاح نضج اللبنانيين وعدم وقوعهم في فخ الإستقطاب التنابذي العدائي، عاد التهويل بفزاعة إلغاء الطائفية السياسية لغاية في نفس يعقوب، وليس خدمة للتطور الديمقراطي للمجتمع اللبناني... ذلك أن تطوير النظام السياسي أو الصيغة اللبنانية الفريدة هو عمل تاريخي لا تقوم به أو تفرضه نخبة "فوقية" مهما لبست من لبوس "ديمقراطي" ومهما إدعت أنها "قومية" إذ إنها في الحقيقة تبقى "ما فوق مجتمعية" و "ما فوق وطنية" أي خارج المجتمع والوطن.
إن التغيير، أي تغيير، هو من عمل الناس أصحاب المصلحة فيه، وبناء على إقتناعاتهم وخياراتهم التي تتكون لديهم من خلال الثقة والأمان...
وليس التغيير أداة لتأكيد عقيدة ما، أو لإثبات نظرية ما، خارج التاريخ. ولقد شبعنا تجارب على حساب الناس ودماء الناس ومصالح الناس. ولقد وعينا دروس التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا أو حتى اليمن الجنوبية، ناهيك عن التجارب القومية في الجماهيرية الليبية أو العراق أو سوريا... من هنا قول الإمام شمس الدين مراراً وتكراراً أن التاجر حين يتاجر فإنما هو يتاجر بماله وبضاعته أما السياسي الحزبي فإنه عندما يتاجر فإنه يتاجر بدماء الناس واموالهم وأعراضهم، وهؤلاء هم من يدفع الثمن في حين يتربع السياسيون الحزبيون على عرش السلطة.. ففي قضايا التغيير والتطوير السياسيين ينبغي التركيز في ما يخص وضعنا الحالي في لبنان (وكما يقول الإمام شمس الدين) "على تكوين اقتناعات حقيقية لقبول بعضنا على قاعدة تنفيذ إتفاق الطائف بأمانة وبنحو يحقق التمثيل الصحيح والمشاركة الفعلية والقوية في صنع القرار السياسي والإقتصادي والتنموي" (راجع تصريحه في صحف الثلاثاء 3/10/2000).
وهو (أي الإمام شمس الدين) صاغ موقفه الجديد بناء على هذا التقدير حتى توصل إلى إقتناع مفاده أن المادة 95 هي من "الأخطاء التي أتكبت في مفاوضات الطائف" لجهة توقيت إلغاء الطائفية السياسية بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة... ويقول الإمام إنّ "هذا التوقيت كان مبنياً على التسرع، وهو توقيت خطأ". وفي التصريح نفسه يذهب الإمام شمس الدين إلى القول أن "النظام السياسي الذي أقره اتفاق الطائف يشكل عنصر إستقرار للبنان إذا استخدم بعدالة وبروح إنسانية، فهو يمثل قوة تماسك في لبنان، والأفضل ألا نزج لبنان الآن في وضع تنظيمي يخلق شكوكاً وإرباكاً".
مقومات الموقف الشيعي الجديد
لم يحمل أحد في لبنان مطلب إلغاء الطائفية السياسية كما حمله الشيعة إلى حد أنه اصبح عنواناً لحركتهم السياسية، كما كانت "المشاركة" عنواناً للحركة السياسية للطائفة السنية. صحيح أن المطلب ورد على لسان كل الأطراف والفئات، ومنذ البيان الوزاري الأول للمرحوم الرئيس رياض الصلح، وانه تحول قضية على يد المرحوم الزعيم كمال جنبلاط، إلا ان مرحلة الصعود السياسي للطائفة الشيعية بقيادة الإمام السيد موسى الصدر هي التي بلورت هذا المطلب كتعبير عن طموح "المحرومين" في المساواة والعدالة وفي التمثيل الصحيح المتناسب مع وزنهم العددي وكفاياتهم... ويكفي هنا أن نتذكر أول مؤتمر صحافي للسيد الصدر عام 1966 وفيه عرض الإجحاف اللاحق بالطائفة الشيعية في وظائف الدولة وفي موازنة الحكومات المتعاقبة حتى ان مقولة الحرمان تلازمت مع مطلب إلغاء الطائفية السياسية... هذا التماهي هو الذي جعل المجلس الإسلامي الشيعي العلى يتقدم صفوف المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية ذلك منذ إنتخاب الإمام الصد رئيساً (1969) وحتى المذكرة الشهيرة إبان الأحداث الفتنة (1976). حتى إن ورود المادة 95 في التعديلات الدستورية بعد الطائف إعتبر وقتها إنتصاراً للشيعة.
وفي ظل اجواء كهذه كان من الطبيعي أن يصدم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حين فاجأهم الإمام شمس الدين في جلسة خاصة دعا إليها في حزيران 2000، بإبلاغهم رسمياً تحفظه على مطلب إلغاء الطائفية السياسية. وكان سبق ذلك قيام وفد من قيادتي "حركة أمل" و"حزب الله" (كل على حدة) بزيارة الإمام شمس الدين للإستفسار منه عن موقفه بعد خطابه الشهير في إفتتاح مؤتمر "التوترات الدينية" الذي نظمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في 9 آذار 2000.
والموقف الجديد للإمام شمس الدين لا يقوم فقط على طلب تجميد السعي لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب المشروع من التداول لأسباب تكتيكية تتعلق بالإستقطاب التنابذي الذي يثيره طرحه، وإنما يتعدى ذلك إلى المطالبة بالعدول نهائياً عنه.
وخلاصة تفكير الإمام شمس الدين في هذا المجال هي أن لبنان أنجز برغم كل تشكيك وإتهام "أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك" وأن الواجب الديني أولاً والسياسي ثانياً يفرض المحافظة عليها وصونها وترسيخها.
أكثر من هذا، يقول الإمام شمس الدين أن "الأطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الأخيرين عن سعي المجتمع اللبناني إلى إلغاء نظامه القائم فعلاً على ما يسمى نظام الطائفية السياسية، هذه الأطروحة أنا أدعو الآن ليس فقط إلى تجميدها بل إلى العدول عنها لأنني أعتقد بأن الصيغة اللبنانية هي إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل في لبنان، وقد تكون نموذجاً ينبغي أن يستفيد منه الآخرون الذين يعيشون في مجتمعات فيها نسبة أخرى كبيرة أو صغيرة من التعددية"..
هذا الكلام صدم ويصدم نهجاً في العمل السياسي كان يعتبر مطلب إلغاء الطائفية السياسية من ثوابت الموقف الوطني ومن مسلمات الوعي والإنتماء الديمقراطي والمدني... فجاء الإمام شمس الدين ليقول بأنه ليس من شعارات عمل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية بل إلى ترشيدها أو إلى ترسيخها على أسس رشيدة... وهو بذلك يريد القول بأن الطائفية السياسية التي هي نظام لبنان أو هي الصيغة السياسية لتوافقه الديمقراطي، هي عنصر استقرار وعنصر قوة وتماسك للبنان إذا "إستخدمت بعدالة وبروح إنسانية" أي إذا كانت "رشيدة"..
وفي حديث خاص قال الإمام شمس الدين أنه يرجح أن تبقى هذه الصيغة هي نظام لبنان وهو يدعو إلى عدم تعريضها لإنتهاكات قد تجعلنا نأسف عليها. ويردد في هذا المجال قول الشاعر: "رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه" وكم مرت علينا من أيام بكينا منها وها نحن الآن نبكي عليها...
تطوير الصيغة اللبنانية
الفكرة الرئيسية في هذا الموقف الصادر عن أعلى مرجعية إسلامية في لبنان، تنبع من النبع نفسه الذي عبرت عنه رسالة الإرشاد الرسولي، والمتعلقة بكون لبنان أكثر من وطن، إنه نموذج ورسالة حضارية في آن واحد. وكان سبق للإمام شمس الدين أن صرح مراراً بأن "لبنان لا معنى له دون مسيحييه، ولا معنى له دون مسلميه، إن معناه يكمن في مسلميه ومسيحييه المتعايشين معاً المتحاورين في حوار الحياة والذين أنجزوا عبر تاريخ عيشهم المشترك تلك الصيغة السياسية الفريدة في العالم العربي".
صحيح أن التجربة اللبنانية قامت على تسويتين: تسوية داخلية بين الجماعات المكونة للبنان، وتسوية خارجية بين القوى الإقليمية والدولية، وصحيح أن ميزان القوى كان غير متكافئ وغير عادل أو متوازن على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أن الصحيح أكثر هو انه كان للتوافق الداخلي على الدوام الدور الرئيسي في إستيلاد الصيغة والسير بها. وهذا لا يعني أن نتجاهل أن الخارج كان أيضاً هو الضامن الأساسي للصيغة ولتوازناتها (منذ نظام القائمقاميتين والمتصرفية وحتى إتفاق الطائف)، إلا أنه علينا أن نستوعب الميزة الأساسية التي تتمثل في أهمية التوافق الداخلي ودوره الحاسم في لحظات الأزمة والإنهيارات الكبرى... حصل ذلك في الميثاق الوطني عام 1943، كما حصل في صيغة "لا غالب ولا مغلوب" عام 1958، وحصل أخيراً في صيغة الطائف عام 1989، إن هذه التجربة الطويلة قد ولدت من قيم العيش المشترك ومكتسبات الحرية والديمقراطية والتنمية، ما جعل اللبنانيين يتمسكون بها ويحاولون استعادة مقوماتها... والحقيقة الأساس التي أفرزتها سنوات التجارب المريرة هي أن الصيغة اللبنانية لا تجد ضمانتها الثابتة إلا في الإتفاق الداخلي والوحدة الوطنية، وان هذه الضمانة الداخلية لا تقوم على الإمتيازات أو المرجحات العددية أو الإنطواء على الذات وإنما على الإنفتاح والحوار وتكوين الإقتناعات المشتركة والتأسيس عليها الأمر الذي ينزع إلى الأبد إحتمالات الإستقواء بالخارج أو توظيف الخارج لقوى محلية في لعبة الصراعات الإقليمية. وما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه كان لـ "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني" (ورئيسه سمير حميد فرنجية) الدور الأكبر في صوغ الإطار النظري لمقومات تطوير الصيغة اللبنانية ومبادئ النظر إلى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان ومنطلقاته. وهذا الإنجاز النظري نلحظ تأثيره الكبير في معظم المقولات السياسية الرائجة اليوم في ساحة الحوار والسجال... وقد طور "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني"، بالترابط والتنسيق مع التطوير الفقهي والنظري لسماحة الإمام شمس الدين، مقولة العلاقة المتوازنة بين المجتمع والدولة في التجربة اللبنانية... فلبنان ليس كياناً عرضياً أو صدفة تاريخية يترك للعوامل الخارجية أمر تقرير مصيره. كما أنه ليس كياناً أزلياً سرمدياً واجب الوجود لذاته... أنه وكما قال الإرشاد الرسولي وكما قال الإمام شمس الدين معنى ودور، يرتبطان بإدارة أبنائه وبقدرتهم على النهوض بمسؤوليتهما (المعنى والدور).
وكما سبق أن قال الإمام موسى الصدر فإن التنوع القائم في المجتمع اللبناني هو مصدر ثراء وغنى ونوافذ حضارية على مكاسب للبشرية في هذا العصر والعصور الماضية. ومن هنا فإن التعددية في المجتمع الأهلي هي تجارب إنسانية تدخل على لبنان وتتفاعل في ما بينها لتنتج هذا العيش المشترك القائم على الحوار والتضامن، ومن هنا فإن الدولة المطلوبة في لبنان هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، لا المنفصلة عنه ولا المستبدة به.
والدولة بحسب الميزان الفقهي لسماحة الإمام شمس الدين ليس لها غائية ذاتية مستقلة تستمد منها شرعيتها، إنها مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإن كانت المؤسسة الكبرى بإمتياز. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل إختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه أو إلغاء له...، وعلى الدولة أن تخضع للغايات التي يحددها المجتمع. فشرعيتها هي شرعية وظيفية يمكن الحكم عليها بمعايير الفاعلية والمردودية وبمدى إنسجامها مع التوجهات الأساسية للمجتمع... إن المعادلة المطلوب إيجادها بين الدولة والمجتمع (في ما يخص لبنان المجتمع المتعدد الطوائف والإنتماءات) هي معادلة قيادة وإنقياد: قيادة الدولة للمصلحة العامة المشتركة وإنقيادها للغايات التي يحددها المجتمع: فلا الدولة وصية على المجتمع تتصرف في معزل عن توجهاته ولا المجتمع قادر أو ينبغي له أن يحل محلها...
والحال أن الوثيقة الأولى لـ "المؤتمر الدائم للحوار" قد عالجت بإسهاب هذه الناحية مستندة إلى التطوير الفقهي والنظري للإمامين الصدر وشمس الدين، وإلى الخبرة السياسية العملية المكرسة في مسلمات كان قد صاغها الزعماء رياض الصلح وبشارة الخوري وحميد فرنجية وكمال جنبلاط وغيرهم ممن قام عليهم الوفاق، وينبغي العودة الدائمة إليها...
وبعد، فلطالما شهدنا من حولنا، في الفكر والممارسة، تعريفات للأوطان تختصرها بحدي السلطة والحدود القانونية، مسقطة تالياً الحرية والديمقراطية إذ تسقط حق المجموعات المختلفة في التعبير عن نفسها... وبعض هذه التعريفات يذهب إلى حد إعتبار سلطته إختصاراً للوطن والشعب... ونعتقد أن لبنان هو الدحض الحقيقي والعملي لكل تلك الإتجاهات الإستبدادية ومن هنا ضرورة صيغته والحاجة الإنسانية إليها، وحاجتنا نحن إلى الحفاظ عليها وتطويرها...