مع الأحداث العاصفة في شهر تشرين حول لبنان وفيه
ما لم يقله نداء بكركي وخلفية المخاوف المسيحية
المستقبل 27 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولىعلى الرغم من أن الأحداث العاصفة التي شهدها (وما يزال) شهر تشرين، قد غطت، ظاهرياً، وإعلامياًَ، على "حدث" نداء بكركي، إلا أنها فعلياً وواقعياً، كشفت عن المضمون الحقيقي لخلفية النداء، وصرحت بما لم يقله المطارنة. ذلك أن الحدثين الأساسيين إقليمياً ووطنياً (الإنتفاضة والوزارة) وما رافقهما وتلاهما من ردود فعل وتفاعلات ساهما في تظهير الصورة الحقيقية للوضع اللبناني عشية الإستحقاقات الكبرى، مأزق التسوية السلمية ومأزق الوضع العربي برمته من جهة، ومأزق المصالحة الوطنية والتوازن والوفاق الداخلي من جهة أخرى.
القصة الحقيقية للنداء هي هنا.. وهي لا ترتبط طبعاً بأي "توقيت مشبوه" كما رأى بعضهم حين حاول تحميل بكركي والمسيحيين في لبنان أوزار "الإرتباط بمخططات خارجية" أو "ضغوط أميركية" تستهدف طرح المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان كورقة ضغط على الحكم الجديد في دمشق.. كما أنها بكل تأكيد لا تمت بصلة إلى "شبكات" صهيونية، ومؤامرات إسرائيلية وأميركية، على الرغم من وجود هذه وتلك، بالطبع اليوم وأمس وغداً، وفي كل منطقة وداخل كل طائفة وحزب وجماعة.
ولا شك بأن الموقف المعلن للرئيس مبارك (في القمة التي جمعته مع الرئيس الأسد) ثم المواقف شبه المعلنة للإدارة الأميركية (والتي نقل بعضها نصير الأسعد من واشنطن في "المستقبل") والتي قالت إن الواقع الدولي والعربي ما زال مؤيداً لبقاء القوات السورية في لبنان إلى ما بعد التسوية الشاملة، قد دحض بقوة تأويلات وتحليلات "جماعة التوقيت". فالمسألة لـم تكـن
وليست مسألة توقيت أميركي مشبوه، أو صهيوني ملغوم، ولا مسألة قطبة مخفية في الفاتيكان أو
فرنسا، بقدر ما كانت تسجيلاً لموقف ضمن حدين، حد الواقع العربي المتفجر والذي يهدد بنسف كل مسيرة التسوية السلمية وبالتالي إعادة تظهير صورة "الأصولية" الإسلامية المتطرفة في المنطقة مع ما يرافق ذلك من خوف مسيحي مشرقي على الوجود والمصير، وحد الواقع اللبناني المتفجر أيضاً على إيقاع المناورات والمداورات والمداخلات التي إرتبطت بالإنتخابات النيابيـة الأخيرة وإستمرت إلى "مشاورات" تكليف وتأليف الوزارة العتيدة.. ولقد تعاملت القيادات السياسية الإسلامية مع نداء بكركي بوعي وحكمة وبروح حوارية منفتحة وسجلت مع ذلك تحفظها على النقطتين، المتعلقتين بطرح موضوع القرار 520 من جهة، وبتحميل الوجود السوري كل ثقل الأزمة الإقتصادية والإجتماعية من جهة اخرى. وهذا الموقف عبّر عنه الرؤساء الحص وبري والحريري والحسيني وكرامي والوزراء جنبلاط وميقاتي، في حين جاء الرد العنيف على النداء من الرئيس لحود ثم من الوزير فرنجية وبعض القوى الحزبية في البرلمان (حزب البعث والقومي السوري والنائب ناصر قنديل).
وقد جاءت مواقف الكتل النيابية والشخصيات السياسية البارزة في البرلمان أثناء مشاورات التأليف لتكشف عن القطبة المخفية الحقيقية: التمثيل المسيحي في الوزارة.. و(هذا عبّر عنه بوضوح كلام الوزير جنبلاط والنائب نسيب لحود).
إذن، جاءت أحداث الإنتفاضة الفلسطينية وردود الفعل الجماهيرية العربية المتضامنة معها (في لبنان خصوصاً) وأحداث "الإنتفاضة اللبنانية البرلمانية" على أسلوب الحكم في التعامل مع الإستحقاق الوزاريٌّ لتفصح عما لم يقله نداء بكركي وهو كان أحجم عن التصريح عن حقيقة الهواجس والمخاوف المسيحية التي ما تزال تعتمل وتتفاعل في نفوس المسيحيين منذ عشر سنوات (أي منذ التعديلات الدستورية وخروج العماد عون من بعبدا وبالتزامن مع حرب الخليج وإنهيار المنظومة الإشتراكية)..
لقد كشفت وقائع الأسابيع الأخيرة التي تلت نداء بكركي عن "هول كبير" في حياتنا السياسية والوطنية لا بد من تسليط الضوء عليه ليسهل الحوار حوله ومعالجته ضمن إطار الوفاق والوحدة والحرية والديمقراطية.
لقد عاد الإنقسام بين اللبنانيين إلى الظهور والتبلور إلى حدود خطرة طالما أنه مكبوت في المشاعر والعواطف وفي الرؤى والتطلعات، هي متعارضة متضاربة من دون بوح وإفصاح ومن دون حوار وفهم وتفاهم..
يتظاهر المسلمون في بيروت الغربية وبقية المناطق دعماً للإنتفاضة ولنداء الأقصى، وبشعور خفي بأن ذلك هو رد على نداء بكركي، يقابله برود لا بل حذر وخوف في المناطق المسيحية يستعيد شعور السبيعنات بأن ما يجري في "الشارع المسلم" هيجان غوغائي وتطرف أكثري سيبتلع المسيحيين ويقهرهم..
حماس إسلامي للجهاد والحرب وفتح الحدود لمساعدة شعب فلسطين وتوجيه ضربات لإسرائيل، يعززه الشعور بالقوة وبالنصر على العدو في الجنوب بعد إندحاره التاريخي، وتزيد من إشتعاله عمليات حزب الله الأخيرة وهي لا تعدم وسيلة الإثارة الإعلامية ـ الأمنية.. يقابل ذلك إستعادة مسيحية لخطاب الجبهة اللبنانية في السبعينات حول خطر الوجود الفلسطيني المسلح وخطر التمدد خارج المخيمات وخطر تعريض لبنان مجدداً لإنتقام إسرائيل... وكاننا عشية مظاهرة 23 نيسان 1969 أو عشية إتفاق القاهرة الشهير.
مطالبة مسيحية بإطلاق الدكتور جعجع وعودة العماد عون ومعرفة مصير المفقودين في السجون السورية، تقابلها شماتة إسلامية حيناً، وصمت وتنصل وهروب من الموضوع حيناً آخر أو طرح قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية أحياناً...
مطالبة مسيحية بإعادة إنتشار القوات السورية في لبنان تقابلها مطالبة إسلامية بوحدة وتلازم المسارين وبتحرير مزارع شبعا..
وكأن حقوق الإنسان، وحريته وكرامته وسيادة البلاد وإستقلالها وتطويرها الديمقراطي، هي شعارات ومطالب مسيحية، في حين أن حقوق الشعوب والنضال والثورة والإنتفاضة والتحرير والتضامن العربي ومزارع شبعا والأسرى والشهداء هي شعارات ومطالب إسلامية.. وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان..
كأن القضايا والهموم والهواجس التي تحرك عواطف ومشاعر فريق من اللبنانيين لا صلة لها أو هي مناقضة لما يحرك عواطف ومشاعر الفريق الآخر.. وكأن وقوفي إلى جانب مطلب الحرية لجعجع وعون وبطرس خوند وكل المتعلقين في السجون اللبنانية والسورية يتعارض مع إندفاعي وحماسي لنصرة القدس وشعب فلسطين..
كأن تلازم المسارين ووحدة الموقف في الصراع مع إسرائيل والصهيونية والتضامن العربي سلماً أو حرباً، يتناقض مع مبدأ الحوار الأخوي والإحترام المتبادل والعلاقات المميزة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا على أساس يحفظ مصالح البلدين ويصون حقوق الشعبين الشقيقين ويحقق الإزدهار لهما مع الحرية والكرامة والديمقراطية وفي ظل السيادة والإستقلال...
كأن نداء بكركي يتناقض مع نداء الأقصى... وكأن الإرساد الرسولي يخالف ميثاق الطائف..
وقد ضاعف وفاقم من حدة هذا الإنقسام اللبناني المتجدد عمل الأجهزة الأمنية والإعلامية وعن عمد وسابق تصور وتصميم على تخويف المسيحيين والتهويل عليهم: تارة بالخطر الأصولي السني (التكفير والهجرة في الضنية ويونس الألماني ـ القصاصات البذيئة الموزعة ضد البطريرك في مظاهرة الأقصى ـ بيانات ومتفجرات الشمال ـ الإعتقالات والبيانات حول شبكات إبن لادن والتكفير والهجرة وغيرها وهي مما لا صلة له بأي واقع إسلامي أصولي في لبنان) وطوراً بالتوطين والخطر الفلسطيني الزاحف خارج المخيمات وحتى حدود بوابة فاطمة وشوارع مدن لبنان، واطواراً أخرى بتحريك مشروع إلغاء الطائفية السياسية، أو بتحريك خطر الأصولية الشيعية.
وقد لعبت تصريحات ومواقف السيدين فضل الله ونصر الله وتهويلهما مع غيرهما بخطر الضنية للدفاع عن الوجود السوري في لبنان، دوراً سلبياُ في الشارع المسيحي المستنفر أصلاً في هذه الظروف.
يكفي أن نستعيد وقائع حادثة الحجاب في مدرسة عين إبل أو تصريح السيد نصر الله في صحف 16/10 أو تصريحات السيد فضل الله حول نداء بكركي، لنكشف حجم الفزاعات التي إستخدمت هذه الأيام لمضاعفة شعور المسيحيين بالهاجس الأقلوي وبخطر الضياع والذوبان..
فما بالك والمظاهرات الإسلامية تملأ شوارع لبنان والعالم العربي والإسلامي وتحمل شعارات الجهاد والحل الإسلامي، والعنف الطائفي يتجدد في مصر، بعد السودان وأثيوبيا واريتريا ونيجيريا وأندونيسيا..
هل نسينا تزامن حادثة الضنية في شمال لبنان مع حادثة الكشح في صعيد مصر؟..
هل نسينا حادثة تفجير العبوة على طريق البلمند أثناء مرور باص يحمل كهنة وأساقفة أرثوذكس في إبان مجازر البوسنة؟
هل نسينا متفجرات الكنائس في طرابلس أثناء مجازر الشيشان؟؟
هل نسينا أن البابا يوحنا بولس الثاني دعا إلى سينودس من أجل لبنان في عز الحملة المسيحية لمقاطعة الإنتخابات النيابية صيف 1992؟ وأن بطاركة الشرق الكاثوليك، ورؤساء الكنائس الشرقية كافة، ما فتئوا يعقدون المؤتمرات ويصدرون البيانات والنداءات ومنذ عام 1990 تحديداً (تاريخ إنعقاد مؤتمر لبطاركة الشرق الكاثوليك في بكفيا) وحتى الشهر القادم (تشرين الثاني) حيث سينعقد في لبنان مؤتمر لرؤساء الكنائس الشرقية؟؟
هناك إذن هواجس حقيقية ومخاوف مشروعة تتعلق بمصير ومستقبل المسيحيين في هذا الشرق المضطرب المتوتر.. وهي هواجس ومخاوف عبرت عنها كما سبق القول مؤتمرات ونداءات رؤساء وبطاركة الكنائس العربية والمشرقية عموماً... وهي إنطلقت منذ عام 1990، ووصلت اليوم إلى ذروتها.. فلا يجوز بالتالي إهمالها أو تجاهلها أو التعامل معها تعامل الشعور بالقوة والغلبة أو بإستحضار شعارات ومفاهيم الذمية، والحل الإسلامي، والحرب ضد الكفار والمشركين...
وعلى المقلب الآخر، فإن الشعور بالخوف والقلق كان له أيضاً ما يبرره محلياً... فرغم ما قدمه المسيحيون، وعلى رأسهم بكركي، من إسهامات في إنجاح الطائف وإنجاح التعديلات الدستورية، والدخول في مشروع دولة الطائف وحل الميليشيات وتسليم السلاح والإنتقال إلى العمل السياسي، وإعلان التوبة وطلب الغفران (الإرشاد الرسولي)، نقول رغم ذلك كله، لم تقدم الدولة أي دليل على جديتها في بناء التوازن وتحقيق المشاركة ولا على نيتها في طي صفحة الماضي وتحقيق المصالحة الشاملة ولا على إحترامها لعهودها ومواثيقها... فنحن ما زلنا نعيش صيفاً وشتاء تحت سقف واحد.. ونكيل بمكيالين، وما زلنا نلجأ إلى المناظرة والمحاجة والشقاق (والنفاق طبعاً) ونعتبر الحوار تكتيكاً ذكياً للإقناع أو التذويب أو الإستيعاب أو النفي والنبذ والإلغاء.
ما زالت مقولة غالب ومغلوب هي الحاكمة، وما زال العدل منتهكاً والحقوق مستباحة.. فكيف يطمئن الخائفون ولا يهاجر الشباب ولا يحبط العاملون في الحقل العام؟ وإذا لم يتكلم رجال السياسة والإعلام والفكر، أفلا يكون مبرراً لرجال الدين، وللمقامات الروحية، بما تمثل وبما تمتلك من تاريخ ومن حس بالمسؤولية ومن وعي وحكمة ومن جدارة وحزم، أن تقول كلمة الناس، بحسب تعبير البطريرك هزيم..
إن "إستحمار" الناس (مقولة للشهيد الدكتور علي شريعتي) أو إستكرادها (بحسب تعبير الوزير جنبلاط) والإستهتار بمشاعرها وبكراماتها وبحقوقها ومصالحها هو الذي أوصل ويوصل البلاد إلى حافة الإنهيار وإلى حدود تضخم الهواجس والمخاوف وتحولها إلى سرساب أساسه عدم الثقة وإنعدام الأمان والإطمئنان.
وحده الحوار الوطني "الصادق" تحت سقف الطائف ومن خلال المؤسسات الشرعية، وبين الدولة والمجتمع، وبين قوى المجتمع الأهلي وعلى رأسها المرجعيات الروحية، وحده هذا الحوار المتعدد الأوزان والإيقاعات هو صمام أمان الوحدة الوطنية. فلا التخوين والتكفير ولا الهجرة والتهجير، ولا الإحباط والتثبيط، ولا الأجهزة الأمنية والفبركات الإعلامية والمصادر المطلعة، ولا إسكات الأصوات وكم الأفواه ولا التملق والمداهنة والنفاق، بقادرة على تغيير الواقع أو تهدئة المخاوف أو تسكين الهواجس أو نزع فتائل التفجير.
وحده الحوار حول الإشكاليات والمشكلات الأساسية في الحياة الوطنية قادر على إستعادة ثقة اللبنانيين بأنفسهم وبدولتهم. إن ذلك يتطلب من الدولة أولاً أن تكون منسجمة مع طبيعة مجتمعها، غير منفصلة عنه ولا مستقوية عليه، ترعى صيغة عيشه المشترك وتصون وحدة أبنائه ووفاق عائلاته.. وان تكون ديمقراطية تتسع للتحولات والتطورات الحاصلة في المجتمع وتؤمن أوسع مشاركة في القرار السياسي والإقتصادي والتنموي. كما أن ذلك يتطلب ثانياً من الجماعات الطائفية بذل جهل كبير لتجسيد إحترامها لدولة القانون والمؤسسات ولتطوير عملية إندفاعها ومشاركتها في الشأن العام ضمن أطر الوحدة والوفاق والتوازن والعدالة. إذ لا بد من تغليب هذه العناصر داخل كل طائفة وفي ما بين الطوائف حتى تستقيم الأمور.
إن الصراع داخل كل طائفة بين إتجاهات تدعو إلى التواصل مع الآخر وإلى تطوير المساحات المشتركة وإلى التضامن والمشاركة، في كل الظروف والأحوال بغض النظر عن موازين القوى، وبين تلك التي تدعو إلى الغلبة والهيمنة والإستحواذ في مرحلة نهوضها وإلى الإنكفاء والإنطواء وفك الشراكة في مرحلة تراجعها، إن هذا الصراع حسمته وتحسمه على الدوام المواقف الوطنية التاريخية لمرجعيات المجتمع الأهلي أي قياداته الروحية والفكرية والسياسية التي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة عيشه المشترك وصمام أمان وحدته الوطنية.
وختاماً "فإن السيادة والإستقلال متلازمان في لبنان تلازماً كاملاً مع الوحدة الوطنية. فلا إستقلال ولا سيادة في ظل التناحر الداخلي. كما أن الوحدة الوطنية لا يفرضها فريق على آخر وإنما تأتي عبر البحث الدائم عن تسوية مبنية على التوازن ساعية إلى الإقتراب من العدالـة". (من مانيفست: دعوة للإتفاق على معنى لبنان)..