عباس بيضون- السفير- الجمعة 2 نيسان 2010
لا يمكننا أن نتكلم على روجيه عساف إلا بمزيد من الاحترام لرجل تولى، في ظروف حالكة، مهمة انقاذ المسرح، واستطاع بمثابرته وعناده، وموهبته أيضاً ان يبقيه واقفاً. هذه تحية يستحقها روجيه وتستحقها تجربته ويستحقها معاونوه في كل حين ويستحقها معه مسرحه «دوار الشمس».
غير ان روجيه يذكر بسلف عنيد أيضاً هو ابن المقفع الذي كره ان يبيت على غثر دين، غيّر روجيه دينه (السياسي أو الديني) غير مرة إلا انه لم يبت ليلة على غير دين. ربما لذلك يؤدي في حياته لله ما لله ولقيصر ما لقيصر، غير ان خدمة إلهين ليست دائماً سهلة، يؤدي روجيه للمسرح حقه وللدين «السياسي او الديني» أيضاً حقه. غير ان المسرح فن شكاك غير ممتلئ ولا مستوف خبيث وشائك والدين بعكسه بسيط مؤمن يقيني كامل ممتلئ. يعطي روجيه للمسرح ما للمسرح فنقع على المهارة والايقاع بل ونعثر أيضاً على الاسئلة والشكوك، ويعطي للدين ما للدين فنقع هذه المرة على الدوغما والكليشيه والتلاوة وما الى ذلك.
كانت، على سبيل المثال «في انتظار غودو» تحفة وكذلك «المغنية الصلعاء» فهنا كان المسرحي وحده في اللعبة ولم تكن المرأة العمودية وبوابة فاطمة على سبيل المثال أيضاً، إلا هذا العمل المتنازع بين المسرح والايمان، حيث الذكاء والرشاقة من ناحية والتلاوة والدوغما من ناحية ثانية، تنازع قد يصل الى حد التنافر فترى مسرحيتين في واحدة. المسرح في جهة والدعوة في جهة والاثنان ليسا من جنس واحد ولا من جبلة واحدة.
في مرايا بيروت يبدأ روجيه بذلك الحجر/ النيزك يحاوره الممثل الواحد تقريباً وهو روجيه، ثم يرسمه على اللوح بقلم ضوئي فيتدور الرسم وتظهر عليه ملامح بول غيراغوسيان والبورتيه الشهيرة التي كان صنعها لنفسه. لا نجادل في اننا أمام بداية بارعة، روجيه يظهر هنا سحره المسرحي وحين نرى فوراً بورتريهات غيراغوسيان الذاتية نفترض ان السحر سيستمر وان البداية تحوي في داخلها مفاجآت أخرى لكن بول يغافلنا وينتقل بخفه الى حديث عن وحدة الفنون، ودرس في أنواع الموسيقى ينتهي برقصة، وكلام عن فضل القدمين غير المعترف به من قبل الذين يكرمون الرأس والجزء الأعلى من الجسد، ثم هناك بالطبع الإبادة والشتات الأرمنيين وهناك الموسيقي الفلسطيني «جوهرية» العائد في نهايات الليل الى بيته حيث تلقاه أمه بالسباب والسخرية، هناك بالطبع الشتات الفلسطيني وهناك حكاية بول وأبيه الأعمى الذي يخرج من لوحة، هناك قصة بتر رجل بول وقصائد عن بيروت واشارات بيروتية. هذه بدون ترتيب صحيح بالضرورة قائمة ناقصة بالموضوعات التي تطرق اليها الممثل الوحيد الذي أدى ادوار الموسيقي والوالد الأعمى من ضمن مونولوغه المثابر. موضوعات لا يكفي ما تقوله أروى عيتاني انه ينتقل بينها ببراعة وايقاع لكننا امام شتات موضوعات متفرقة تتسلسل بدون رابطة إلا ذلك الإيقاع الذي يغدو هو نفسه اصطلاحياً وبرانياً أيضاً. نحن هنا أمام سيولة سطحية لا تملك فعلا أي بنية، فقط الاسترسال الخطي والانسياب الفائض، انها لمامة موضوعات اثيره غالباً على روجيه لكنها لا تصنع مسرحية، فهي في تراصفها وتحاذيها تبقى هكذا ذات انتشار افقي، هي أخبار متجاورة كما لو أنها في جريدة، لا تتداخل حقاً ولا تشتبك الا في مقابلة ذهنية كتلك التي قامت بين الشتات الفلسطيني والأرمني. عدا ذلك نحن أمام عمل لا تنجح اداءاته المسرحية (الأعمى والموسيقي والدرس الراقص في الموسيقى) الا في مسرحة آلية ووظيفية لكن الناتج ليس مسرحية، الناتج ليس أكثر من مسرحة.
الممثل الوحيد ليس «الحكواتي» إذ ان ما ينقص فعلاً هو الحكاية. الممثل الوحيد لا يحكى بقدر ما يعلّق. أما أداءاته المسرحية فهي فقط وسائل ايضاح، انه في الواقع وهذا ظاهر في صوته وأدائه. لا يفعل شيئا سوى أن يعلّم. هو على الخشبة يتنقل من درس الى درس، وكل هذا الكلام عن الموسيقى ليس سوى درس في الموسيقى، والكلام عن وحدة الفنون درس واضح وصريح، وكل هذا الكلام عن فلسطين وارمينيا وحتى بيروت دروس، (مع ان درس الأخيرة «بيروت» بقي معلقاً وإضافياً ومستعجلاً بحيث بدا أكثر من غيره ملصقاً الصاقاً وزائداً بغير حاجة واضحة، الا ما يستدعيه عنوان المسرحية، وما تفترضه السياحة الجغرافية الأرمنية الفلسطينية.
أما الدروس فهي حقاً كذلك، انها امثولات فحسب، هذا الحديث عن وحدة الفنون والموسيقى والقدمين والشتات الأرمني الفلسطيني لا يقول في الواقع سوى المعاد المكرور، وكونه يقال بلا مناسبة واضحة وبدون ان يكون في سياق درامي أو سياق حواري لا يعدو أن يكون درساً فحسب، وإذا أخذناه بهذه الصفة لن نجد سوى خلاصات. سوى عناوين مشهورة معروفة، ولو بدا لأول وهلة جديداً فهو من الجدة التي تواطأ الجميع عليها وباتت في العموم، هذا الحديث عن وحدة الفنون مثلاً هو حقا شرح لفكرة شائعة لم يعد لها مؤلف. انها دروس او عناوين وإذا استعملنا مصطلحاً آخر، قلنا انها كليشهات، إذ ان لكل موضوع الكليشه الخاص به، وما يجمعه روجيه في مسرحيته هو تماماً هذه الكليشهات.
إذ ذاك نعود الى السؤال أين المسرحية إذ لا نزال نفكر ان المسرح حوار حتى حين يكون مونولوغاً. هنا ثمة أجوبة على اسئلة غير مطروحة وغير قائمة في الأصل، الممثل الوحيد تقريباً يقرر فحسب ويمثل لزيادة الشرح و»لتمثيل» الفكرة الجازمة النهائية. الممثل الوحيد ليس وحيداً تماماً، ان له تابعاً لا يتكلم ولا يقوم بشيء الا ما يقوم به صاحبه الذي يتكلم وحده ويقرر كل حركة. الممثل الآخر صامت فهو ظل للمتكلم الذي لا يصمت لحظة. حق الكلام موكل فقط إليه وهو بهذا المعنى صاحب الأمر وليس الآخر سوى تابعه، وإذا شئنا ان نجد وجهاً آخر للصلة بين الاثنين بدا لنا اننا أمام الاستاذ وتلميذه، أمام الشيخ وتابعه، أمام الولي وتلميذه كما في القديم، كل هذا ليس الا نفياً للحوار الذي يحل محله التقليد والتابعية.
أين بيروت في المسرحية انها فضيلة، لكننا نسال أيضاً عن الرسام، لوحات غيراغوسيان تنطبع على الشاشة ونتف من حياته تستعاد. لكن في أحيان كثيرة لا نعود نعرف الصلة بين كلام الممثل وبين ما يرتسم على الشاشة. يستمر عرض اللوحات بإطاراتها وبأحجام لا تزيد كثيراً جداً عن الاخص. انها اللوحات كما يمكن ان تظهر في المرسم، كما يمكن ان تعلق في معرض. ليس ثمة دخول إليها إلا في القليل. انها أيضاً للتمثيل على ما يقال ولتوضيحه، أي انها تدخل في آلية التعليم. أما العالم الذي فيها فبقي مغلقاً. أما الفن الذي فيها فلم يصل إليه الدرس. كان كلام عن الموسيقى ووحدة الفنون لكن فن بول غيراغوسيان، فيما يبدو، لم ينتج الكليشه الخاص به. لم يصر بعد درساً.
أذكر في هذا السياق مسرحية لروجيه عن فن سمير خداج. ورغم مشكل النص فيها إلا ان العرض البصري للوحات خداج كان ملحمياً بحق واستطعنا، وإن من تعارض مع الحكاية الملعوبة، ان ننفذ الى داخل اللوحة الخداجية وأن نراها حية مجسمة بمسافات وجوانيات عميقة وحركة درامية.
ربما أفضل ان انهي المقالة بما بدأتها به، تحية روجيه ومسرحه. لم يدر وقت طويل على مشاهدتي إخراجه لمسرحية «بيكيت» في انتظار غودو كانت هذه متعة بحق. أما فيما يؤلفه روجيه أخيراً فإن منكر المسرح الذي فيه هو الذي يظهر. لا يعود المسرح رجوعاً الى الأسئلة الأولى وصراعاً حول كل شيء بقدر ما يغدو أجوبة وخلاصات وتلقيــناً، ولنا عندئذ أن نسأل أين المسرحية؟