نحو تجديد العقل والفكر
إن الأوطان الحرة لا تملك ترف الاستغناء عن جهود أحد من أبنائها، ولا تستطيع إهمال رأي فريق منهم. لذلك فإننا نعتقد بأن لبنان سيكون أقوى عزماً وأعظم شأناً عندما تتضافر جهود أبنائه وتتعدد اجتهاداتهم على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وتنوع انتماءاتهم وسياساتهم . ذلك أن لبنان الوطن النهائي لجميع بنيه أغلى على أبنائه وبناته من أن يقعد عن المساهمة في إقالته من عثرته الراهنة أي انسان قادر على المبادرة والمشاركة ، بالفكر والرأي والعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وقد شهد لبنان خلال المرحلة الماضية من تاريخه المعاصر تحولات عميقة بفعل عوامل داخلية وخارجية ، ولا بد من أخذ هذه التحولات بعين الاعتبار عند صياغة أي مشروع وطني مستقبلي. ومن واجبنا الإسهام فى توجيه هذه التحولات الوجهة الصحيحة التي تخدم جميع أبناء الوطن خاصة بعد أن تدهورت الأحوال الاقتصادية لأبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة وازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتساعاً مما صار ينذر بالخطر، من ناحية، وبعد أن شهدت الحياة السياسية تكلساً واضحاً وانحطاطاً وتدهوراً في القيم والثقافة والأخلاق من ناحية أخرى . كما أن لبنان لايعيش فى فراغ. فما يجري فى العالم من تحولات كبرى من شأنه أن يؤثر تأثيرا كبيراً على حاضرنا ومستقبلنا.
والوضع الحالي للعرب والمسلمين عموماً يعكس أزمة حقيقية تتجلى فى الإستحمار (بحسب علي شريعتي) أو القابلية للإستعمار(بحسب مالك بن نبي) المباشر وغير المباشر الناتج عن الوهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي. وهو الأمر الذى يغري الطامعين ويدفعهم إلى التداعي علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.ورغم أن هناك اتجاهاً عالمياً وإقليمياً متنامياً نحو الهيمنة والاستبداد والتعصب، فإن هناك أيضا قوى وحركات اجتماعية شتى تزداد قوة حول العالم ومن حولنا تتحدى الطغيان بشتى صوره وتنتصر لقيم العدل والحرية والكرامة والديمقراطية والسلام والتأكيد على المشترك الإنساني العام. ونحن، إذ ننحاز لتلك القوى التى تكافح من أجل العدل والحرية والديمقراطية والكرامة والسلام نجد أن لبنان فى حاجة أولاً لبناء الذات حتى يتمكن من الإسهام الفعال فى الكفاح العالمى من أجل نظام دولي أكثر عدلاً وإنسانية، ومن أجل عالم عربي أكثر ديمقراطية وحرية ووحدة.
ومن هنا نؤمن بضرورة بلورة رؤية وطنية واضحة تستوعب متغيرات الواقع المحلي والدولي وتكون قادرة على بناء النهضة اللبنانية الحقيقية التى هى أيضاً المفتاح الوحيد لاستعادة الدور والمكانة العربية والدولية للبنان، كما ولمواجهة التدخلات الأجنبية. ونحن نرى أن النهوض بلبنان وإخراجه من عثرته أمر لايمكن لتيار واحد أن يقوم به وإنما هو عمل يحتاج إلى فكر الكل وجهدهم. ومن هنا، رفض العمل السياسى القائم على الإستحواذ أو الاستئصال أو السيطرة الأحادية النابذة والملغية للآخر وللاختلاف وحق الاختلاف وحرية الرأي والتعبير. ورفض الصراع و التصادم مع أي من التيارات الوطنية أو الاسلامية ، وانما الأنسب والأوفق تقديم اجتهادات تطرح رؤية وطنية حضارية تمثل إسهاماً تحتاجه الحياة السياسية فى لبنان وتهدف للبناء مع الآخرين من أجل خير الوطن وحريته وكرامته وازدهاره.
نعم إن لدى لبنان ما يقدمه للعالم. فقد أضفى من روحه وشخصيته كمركب حضاري ثري بعناصره المتعددة طابعاً مميزاً على الحضارة العربية الإسلامية وعلى الحضارة الإنسانية، الأمر الذى جعله صاحب ثقافة ثرية أسهم فى صقلها أبناؤه - مسلمون ومسيحيون- عبر العصور المختلفة. وتلك الحضارة العربية الإسلامية ذات النكهة اللبنانية المتميزة التى تتسم باعتدالها ووسطيتها، هى جوهر الإسهام اللبناني إذا ما نفضنا عنه الغبار ونجحنا فى أن نخلّص لبنان من الوهن والتراجع الذى يعانى منه فى الوقت الحاضر كي تواصل التجربة اللبنانية التراكم على ما أنجزته من خلال النضال الوطني الديمقراطي لكل اللبنانيين .
د. سعود المولى