فخري كريم
في خطوة بالغة الدلالة، اعتذر سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني، عن استقبال السياسيين العراقيين من ممثلي وقادة الكتل المشاركة في الحكم. ويأتي هذا الموقف، في أعقاب لقاءات كثيرة للسيد المرجع الأعلى، مع كل قادة الكتل المشاركة في العملية السياسية، والمسؤولين البارزين في الحكم. وقيل الكثير على لسان من التقى سماحته، عن موقفه الواضح مما يدور في البلاد وأروقة الحكم، وتشديده بلغة "النصح" وليس التدخل الذي نأى بنفسه عنه، على ضرورة الاهتمام بقضايا المواطنين وحل مشاكلهم والاسراع في تأمين الخدمات لهم، والتصدي للفساد المستشري في البلاد والمظالم التي يتعرض لها الناس الفقراء والمحرومون.
ولم يكن ما قيل، إلا تعبيراً عن الهاجس الذي ظل يقلق السيد والمراجع الكبار الثلاثة الآخرين في النجف الاشرف، ويثير اهتمام مراجع محترمين آخرين.
إن حراجة المراجع العظام من تدهور الاوضاع العامة في البلاد، وفسادها، وتدني الخدمات وتفاقم المشكلات التي تثقل كاهل المستضعفين من الفقراء وذوي الدخل المحدود وغيرهم، الكثيرين، لها علاقة ولو ضمنياً، بهوية الأحزاب الحاكمة الدينية والمذهبية، وإعلان قادتها الالتزام بتوجيهات المرجعيات العليا والأخذ بنصائحهم واعتمادهم على تزكية هذه المرجعيات، عشية الانتخابات وفي مخاضات النشاط والحراك السياسي المحتدم، وفي المراحل التي كان يحتدم فيها الصراع في الحياة السياسية ويشب الخلاف في ما بينهم على توزيع المواقع والأدوار والمغانم.
ومما يضاعف هذا الإحراج، الذي لا يُكشفُ عنه، بحكم التزام السيد الصمت، وتجنبه الخوض العلني في شؤون الدولة السياسية وقراراتها، أن كل المسؤولين المقررين للشؤون العامة والمعنيين بما هو مصدر شكاوى الناس ومظلماتهم، هم إسلاميون، من أتباع آل البيت ومحبيهم، لا مراء في ذلك ولا شك. وهم يؤدون طقوس دينهم وفروضها في أوقاتها، حتى إذا حلت مواقيتها بالنسبة لأكثرية الوزراء والموظفين أثناء تصريف معاملات الناس، الذين قدموا من المحافظات الأخرى، ويتعذر عودة كثرة منهم إلى بيوتهم إذا ما حل الظلام، او ان عدم انجازها المباشر يُعرّض مصالحهم للضياع. ولا يتحرج البعض من هؤلاء، وفيهم وزراء ومتنفذون، عن تبديد وقت كثير مما يتقاضون عليه أجوراً لخدمة الناس وتصريف شؤون الدولة، في ممارسة طقوس دينية، يُحبَذ أداؤها في منازلهم أو في بيوت الله ومساجدها الوضيئة. وكأنهم ساهون، عن حديث الإمام علي بن طالب إذ يقول"الساعات ثلات، ساعة لربك، وساعة لرزقك، وساعة تستعين بها على هذين الأمرين".
وتكاد الحيرة والدهشة أن تعقدا لسان المواطنين وهم يتلمسون هذا التناقض بين ما يسمعونه عن مواقف المرجعية من قضاياهم ومطالبهم والحيف والعسف اللذين يلاقونهما من المسؤولين في دوائر الدولة، مقارنة مع ردود الفعل السلبية التي تتسم بها مواقف مسؤولين وقادة أحزاب في الحكم من شكاواهم ومطالباتهم العادلة، وضيق صدورهم في التعامل معها، والتي انعكست بأسوأ الأساليب في التعريض بنيات المواطنين المتظلمين والتشكيك بهويتهم الوطنية، والتعرض لحركاتهم الاحتجاجية وتظاهراتهم السلمية الداعمة للعملية السياسية الديموقراطية، على قاعدة إصلاحها من جوانب الخلل فيها، والارتقاء بها إلى مستوى تطلعاتهم، وليس لهدف باطل أُريد إلصاقه بهم دون روية وحكمة.
ولم يتوقف التناقض عند المواطنين، الذين بدت جوانب كثيرة فيه تتكشف لهم بعد سنوات ثمان من سقوط الطاغوت، وبعد وعود لم تنقطع عن إصلاح الأحوال، في انحياز المرجعية لهم وتعدّي الحاكمين عليهم، بل في ما يطلعون عليه وهم يتوافدون على مرقد إمامهم علي، ويشاهدونه بأم أعينهم، من مظاهر ورع وزهد مرجعهم، وهو يقيم في أضيق حارة من حارات المدينة المقدسة، وفي أكثر البيوت تواضعاً، وابسطها أثاثاً، وما يرونه لدى مسؤوليهم من أسباب الترف والأبهة والبذخ، في القصور والسيارات والرواتب والامتيازات وأسباب التنقل والسفر، حتى ليكاد المرء منهم، يردد مع نفسه ما جاء على لسان صحابي جليل: أهي كسروية!
لقد فاض الكيل بالناس، وهم يتابعون نهب الدولة والمحسوبية وهي تستشري، والفساد والمفسدين وهم يعبثون بالمال العام، وأقارب القادة ومحازبيهم والمقربين منهم يحتلون الوظائف العليا في الدولة، دون كفاءة ولا وجه حق، والامتيازات والمكافآت تنهال عليهم.
لكن ما يثير الشك والريبة في نفوسهم، أن قادة الأحزاب، وكلهم مسؤولون، ولكل منهم يدٌ قصُرت أم طالت في دهاليز الدولة ومسالكها، يتحدثون عن الفساد وعن النهب والامتيازات وغياب الإنصاف والعدالة، ويوجهون التهم في الهواء، دون أن يظهر بينهم من يقول: هذا فاسد من بني قومي وأنا اعرف موضع الفساد فيه، وأخشى على ديني من التغطية عليه، فهاتوا ما عندكم عليّ وعلى من بينكم، واني به وهو يفعل ذلك يستذكر موقف الإمام علي من ابن عمه وعامله على البصرة!
أن البعض منهم يتاجر و"يتوسط" في مجالاتها، و يتواطأ في التغطية على ما يؤمن انه حرامٌ "شرعاً"، وفي لحظات الضيق من منافسيه، يجاهر هذا البعض علناً، أن الكيل إذا ما طفح وان الأبواب إذا ما سدت أمام الإصلاح فسيكشف الفاسدين والعابثين.
ولا يتورع البعض الآخر منهم، عن توجيه الاتهامات إلى زملاء من فريقه أمام وسائل الإعلام، وتحت قبة البرلمان، والتهديد بوضع الحقائق أمام الشعب، لكن الوقت يمضي والمستور لا ينكشف للناس.
لم يعد مناسباً، الوقوف أمام الادعاءات التي تساق يومياً، في مختلف المحافل والمناسبات عن الفساد والمتورطين فيه وأمام الملأ وبعد كل هذه السنوات دون أن يكشف أو يحاكم، لص أو فاسد واحد وبدون أن يماط اللثام عن مرتش ومزور، وان يظل المستور طي الكتمان، والمتنابذون، يؤدون صلواتهم معاً، دون أن يرف لأحدهم جفن، أو يسهو عن عدد ركعاته، أو يضيع عليه وضوء!
المتظاهرون، المحتجون سيتكاثرون إذا ظلت الأوضاع على ما هي عليه من سوء، وقد اكتشفوا المسافة بين الدين والفساد، بين المتطفلين على الدين باسم السياسة، ومبادئ الدين الحنيف، وأدركوا بإيمانهم وسماحة تدينهم، ان الدين يوصي بالأمانة، وحفظ المال العام، وإجراء العدل بين الناس وإنصاف المحرومين منهم، والحرص على أرزاق الناس، كما أدركوا بفطرتهم الدينية، أن الدين لله، لا تستقيم أداء فروضه وطقوسه للجهر والمفاخرة به، لا لمرضاة الله، بل لسوى ذلك مما لا يرضي الله، لان ذلك من باب النفاق، وقد وعد الله المنافقين بسعير جهنم.
إن السكوت عمّا يجري من أي كان، تواطؤ ومساهمة في المظالم والفساد والتعدي على حرمات الناس. وليس صحيحاً أن يتردد الناس في التصدي للفساد وهم يرون المفسدين والمتطاولين يزايدون عليهم بدينهم، والدين يكفّر الفساد ولا يوجد باب فيه، يشرع أو يبرر أو يسوغ أي مظهر من مظاهره. وفي سير الرسول الكريم والأئمة والصالحين، ما يفيض من الأمثلة والأحاديث على إقامة الحد عليهم، مهما كانت درجة قرابة الحاكم من الفاسد واللص والمرتشي، فهل يجوز للبعض من القادة ممن يلوحون، بين الحين والحين، بتكفير غيرهم، أن يغضوا الطرف، عن لصوص، أو من يتواطأ معهم، و أن
يدّعوا المعرفة بهوية الفاسدين، ويمتنعوا عن إماطة اللثام عنها؟!
إن للسياسة أبوابها، وفيها صنوف المناورة والتحايل واعتماد الدسيسة والتآمر والتخلي عن الحليف وتغييره وفقاً للمصالح والأهواء، وفيها "الرجم بالغيب"، والإكمان للصديق إذا تضاربت المصالح، وتفرقت الأهواء، وفيها التنازع والتنافس الذي لا يقوم دوماً على ما هو فاضل ومستقيم في وسائله وأساليبه. فأين الدين من ذلك وغير ذلك مما هو حرام وسحت؟
فليس لأحد من هؤلاء فضل على غيره في الدين، وإنما، في الدنيا على ما اختارت له نفسه. فالسياسة باب على الدنيا، فلكل فرصته فيها بعيداً عن الدين، قريب من أهواء الدنيا ومراميها. وعلى الناس ألا تأخذهم الخشية ممن تبدو عليهم مظاهر الدنيا، ويعيّرونهم، بالانحياز إلى المظاهر الفانية، وليس في سيمائهم ما يوحي بالعفّة والتدين أو بالتخلي عن خيلائها.
من أراد التعرف على الفرق بين الزهد في الدنيا، والتقوى في الدين، فليسترجع سير الأئمة، وليشاهده الأحياء منهم، وفي المرجع السيستاني مثل، وغيره كثيرون، يزهدون بدينهم عن دنياهم، وينأون، كما يجتهد المراجع عن الخوض في أمور السياسة السائرة، إلا ما انتفع الناس منها، والعياذ مما يُرتكب، تجنياً باسم الدين.
لقد قال الإمام زين العابدين: "إن بعض الناس يدعون إخوانهم إلى الجنة، ويزّينونها لهم، ولو كانت كما الدنيا في أيديهم، لما تخلوا لهم عن شبر واحدٍ منها"! وكان جده رسول الله قد قال قبله: "إنما اهلك من قبلكم أنهم كان يخطئ فيهم الضعيف فيعاقبونه ويخطئ فيهم القوي فيتركونه، والله لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها".