عن ليبيا والحكام العرب
في مقالة له نشرتها مجلة الشراع اللبنانية في 19 آذار 1995 كتب محمد حسنين هيكل أن اليكسي كوسيغين رئيس الوزراء السوفياتي، في زمن مضى، سأله مرة ماذا يفعل القذافي ببتروله؟ ثم أمسك كوسيغين ورقة وقلماً وراح يحسب حجم دخل ليبيا من البترول ويوزعه على عدد سكانها ثم ينظر إلى هيكل ويقول له "في غضون عشرين سنة سيكون كل مواطن ليبي مليونيراً"..
فوفقاً لأكثر التقديرات تحفظاً بلغ إجمالي عائدات ليبيا النفطية حتى عام 2009 ما لا يقل عن ألف مليار دولار..في حين أن الزيادة السنوية لعدد الليبيين بقيت في معدلاتها الطبيعية: فإرتفع عدد السكان من 2 ونصف مليون عام 1974 إلى 3 ونصف مليون عام 1984 فإلى 5 ونصف مليون عام 2006..وهو اليوم يُقارب ال6 مليون..فماذا جرى لهذه الثروات الهائلة ؟؟ طبعاً الجواب عند أسرة القذافي ..كماعند أسرة مبارك وأسرة بن علي..وأسر غيرهم من حكام العرب..الذين يخبئون حساباتهم وعقاراتهم في أميركا وأوروبا..
ماذا فعل هؤلاء الطغاة ببلاد العرب وقد إستلموها في النصف الثاني من القرن الماضي وهي تذخر بالإمكانات والطاقات والثروات..فحولوها خلال أربعة عقود إلى خراب ودمار وتوحش؟؟
طبعاً سيقول لنا قائل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"..فهذه الأنظمة القمعية الديكتاتورية الفاسدة وصلت إلى الحكم بإسم فلسطين وحكمتنا بالنار والحديد وبالسجون والتشريد بإسم المعركة (المؤجلة دوماً) مع العدو الصهيوني..وفي الحقيقة هي لم تطلق طلقة واحدة ضد العدو ولم تبذل أي جهد حقيقي لنصرة شعب فلسطين ومجاهديه..بل أن نظاماً مثل نظام القذافي لم يترك جريمة إلا وإرتكبها بحق الثورة الفلسطينية وقادتها ومنظماتها..وستكشف لنا المحاكمات في مقبل الأيام كيف خطف العقيد القذافي الإمام موسى الصدر ورفيقيه.. وكيف نظم عمليات إغتيال العشرات من قادة وثوار فلسطين..وكيف دّبر تفجير الطائرات (لوكربي والأفريقية كمثال) وإختطاف الرهائن وإغتيال وتصفية المعارضين العرب في أربعة أطراف الدنيا... لقد بلغ حجم الإنفاق العسكري الليبي خلال عقد الثمانينات وحده ضعف المعدل العالمي..فهل كان ذلك للدفاع عن فلسطين؟؟ لا بالطبع..بل كان هذا لتمويل حروب القذافي مع مصر (1977) وأوغندا (1979) وتشاد (المشتعلة منذ 1980 وهي حرب أشرك فيها يومها أتباعه ممن يتولى تمويلهم من الأحزاب اللبنانية والفلسطينية على ما نذكر وتذكرون) وفي تمويل حرب الصحراء الغربية ضد المغرب (حتى اليوم).. والحرب الأهلية في لبنان (1975-1990).. والميليشيات الإنفصالية في جنوب السودان.. ناهيك عن دعمه لحلفائه في حروبهم ضد الشعوب مثل حرب السفاح المقبور منغستوهايلي مريام ضد الشعبين الأثيوبي والأريتري..
وبعد.. كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي أنه "لا بد أن نشهد لليبيين بأنهم أشجع العرب، بل أشجع الناس طراً لأنهم حين خرجوا وهم عزل لتحدي القذافي ورجاله كانوا أعلم الناس بطبيعة ذلك النظام، خاصة حين إختاروا السابع عشر من شباط (فبراير) تاريخاً لهذا الخروج". والحال أن هذا اليوم صادف ذكرى مجزرة أرتكبت في حق مظاهرة سلمية شهدتها مدينة بنغازي عام 2005، وقتل خلالها أكثر من ستمائة متظاهر أعزل. ومظاهرة بنغازي تلك كانت تحيي ذكرى مجزرة رهيبة أخرى إرتكبتها السلطات الليبية في سجن أبوسليم قرب بنغازي وراح ضحيتها أكثر من 1200 سجين في عام 1996. وهكذا.. من مجزرة إلى مجزرة.. إعتقد القذافي وأولاده أنهم بمنأى عن غضب الشعب وثورته وبمنأى عن يوم الحساب..وهكذا معظم الحكام العرب الذين بدأت عروشهم تتهاوى مع نسائم ربيع العرب الذي إنطلق من بيروت في شباط وآذار من العام 2005..وربيع طهران الذي ما أن يخفت صوته حتى ينطلق هادراً في كل عام... وإلى أن يرث المستضعفون الأرض مستعيدين تلك الثورة المغدورة التي كانت أول ربيعاتنا في العام 1979 .
لا بد لنا في الختام من أن نحيي شعب ليبيا العظيم ، لأنه لا أحد يستحق الحرية اليوم أكثر منهم، إذ دفعوا مهرها مسبقاً أغلى الدماء والتضحيات.. ولا بد من أن نحيي كل الشعوب العربية التي إنطلقت في ثورتها السلمية الديموقراطية ولن تتوقف حتى تحطيم كل الأصنام ...
نعم: يحسبونه بعيداً ونراه قريباً..أليس الصبح بقريب؟... وإن غداً لناظره قريب..
سعود المولى