(إلى أطفال الثورة الكبرى)
بول شاوول
كيف لهم، ومن اين، اعتلوا شرفات سملت خلف أجسامهم،
او هبطوا اودية عذراء بسحيقها
كيف لهم، وبلحظة من عماء طويل،
ومن شقوق شائعة،
ان التفّوا وفجأة، وبلا تقاويم، ولا عرّافين، ولا كتاتيب، ولا انصاب، ولا حكماء، ولا مرشدين على قاماتهم،
وافوا ما لم يكن لهم ان يوافوا من مصائرهم التالفة،
اخترقوا ما كان سجوناً وطبقات سفلية وفزاعات بأصواتهم،
عندما كان لمحمد البوعزيزي أن يرفع جسده باباً مشتعلاً، أمامهم، في الأرياف، والهوامش، والتذكارات، والغضب، والصراخ،
شعلة الجسد البائس، المجهول، المهمل، الرث، بين عربات الخضار، والمهانات، والفتات، ها هو بركان ينفجر،
بركان واحد لكل البلاد،
بركان لم يكن له ان يلامس اليباس أو العاصفة،
بركان البائع الجوال، جرف ما أوقفه دهراً خلف يديه فكان الواحد كثيراً، في الدساكر، والمدن، حتى الميادين، من ساحة بورقيبة الى كل الساحات والمنازل، والأزقة، والمقاهي،
زمن الأجساد المشتعلة،
زمن الاجساد الحية، المنبعثة من حواسها، تلتمع في بورسعيد،
الرصاصة التي اخترقت قلب خالد سعيد،
تصل تونس بميدان التحرير:
وجه واحد،
يتكاثر، بين الأمكنة المتكاثرة والتواريخ المتناثرة،
صرخة واحدة بملايين الأصوات. عيون واحدة بملايين الوجوه. يد واحدة بملايين الايدي، قدم واحدة بملايين الخطى، خيمة واحدة تحتل المدن كلها،
انه الربيع المفلت من كل الفصول،
الفصل المفلت من كل الاتجاهات
الدم الذي صار ربيعاً،
ربيعاً، من سُبُلٍ بعيدة، ومن اوراق قديمة
ومن ازهار بكل الألوان: الأخضر، والأبيض، والأحمر، والناصع، والاصفر، والوردي،
ربيع اعزل، كهواء سابق،
كيف لكل هذه الابدان ان تصير ربيعاً أطولَ من دهر،
كيف لكل هذه الأبدان أن تصير أطول من انتظاراتها المبهمة،
في تونس، وفي مصر، حتى اليمن
ودرعا: أيدي الأطفال هناك، رسمت المستقبل بالطبشور، هكذا، رسمت الحياة ببراءتها، وبتلك الغرائز المبهمة، والعيون الفائضة بالدهشة،
على جدران درعا التي لم تعد جدراناً "الشعب يريد إسقاط النظام"، كيف لأطفال أن يصيروا شباباً فجأة،
أن يتقدموا اعمارهم وهم لا يدرون،
ان يصبحوا شعباً: المعجزة المبتكرة، المرتجلة، أن يصير الأطفال شعباً،
المعجزة المبتكرة المرتجلة أن يصير الشعب أطفالاً، يكبرون كل لحظة،
في دمائهم، في شهقاتهم، في نضاراتهم المقبلة،
ينافسون الوقت بعيون عالية، وبأقدام هشّة،
ينظرون الى العالم بأحداق حادة من حنانهم،
بأبصار لامعة من رغباتهم،
درعا الأُم في الربيع العمومي، درعا الأطفال، سُرّاق التاريخ المقبل، درعا حمزة الخطيب.. حتى حماة العائدة من ميتاتها السائبة،
ومقابرها المجهولة، كيف تصير المقابر القديمة سماء جديدة، والرميم حدائق وبساتين،
كيف تلتهب حمص، ودير الزور، ودمشق، وادلب، عابرة الاسمنت والحديد،
قافزة بحرياتها الاتية، فوق القتل،
والمجزرة، والعذاب، ومن قال ان العذاب ليس واحداً: صامتاً أيام الصمت، ومليئاً، ونعمةً أيام الجنون، صمت المقهورين جنون، وأكثر، وصراخ المقهورين جنون أجمل،
"الشعب يريد إسقاط النظام"، شطر من شطور الحواس، من هواتف الاحشاء،
من دموع صبرت فلم تعد دموعاً.
فليسقطوا! هكذا اعلوا هتافاتهم فوق الموت.
الموت العالي، صاروا اعلى منه،
الموت القادم صاروا اسبق منه،
القتل الهادر بالمدافع، القتل الزاحف بالدبابات،
القتل الهابط بالحوامات،
صاروا أقسى منه، أنفذَ منه، وأصوبَ،
هنا القتل العابر، قتل الطغاة، وهنا القتل الدائم، من شدة الشغف بالهواء،
هنا القتل باليأس وطغاته وهنا مع الجموع، الموت بالأمل، قتل الموتى المنتصبين بفولاذهم، مثل الجثث المتراكمة على سنواتهم الطويلة
فليكن الموت فاصلاً، للحياة! فليكن الطغاة في جحورهم الأخيرة، سبايا قتلهم:
أولُ الطغاة أسعفه قتلُه على السقوط بخفة الغبار،
ثاني الطغاة أسعفه قتله على الهروب بخفة (اللصوص)
ثالثهم، اسعفه قتله على نسيان نياشينه، وتيجانه، وسيوفه، وخيمه، على الاحتماء بجحور الجرذان والعقارب، سليلاً من سلالات العتمة،
ورابعهم، مجدور بحروقه، يغطي هزيمته بمونولوغات النهاية،
وخامسهم يدور بين ظلال معدنية، اذابتها هتافات، الجموع
وصفَّتها دماءُ الشهداء..
هؤلاء الذين خانتهم السماوات الجاحدة طويلاً،
وتركتهم ايديهم طويلاً،
وتخلّفت عنهم خُطاهم طويلاً،
وغرقت اصواتهم في حناجرهم طويلاً،
وغدرت الشموس بعيونهم طويلاً،
سُكّان الظلال ولا وقت،
ضرّابو الطبول ولا أصوات،
عرّافو الخوف ولا دمع،
هؤلاء الذين أبعدتهم القواقع والاصداف عن شرفاتهم،
ها هم، حَصَدَة الضوء يُعلنون أزمنتَهم الجديدة،
قطعاً مجهولة في أمكنة مستعادة،
وفي حناجر من ذهب الشموس القريبة، يشُجّون بحرياتهم المقبلة خوذاً وعساكر وفرقاً للموت، وغيستابو، وبلاطجة،
وحطامَ أعمدة تصدعت بأسبابها،
وخفاياها، وشهودها، ونسورها، ومحنطاتها، ونوافلها، وهياكلها،
حطام، فقهاء، العتمات الابدية،
ارتال كلام من غروب الافواه،
ومن قمامة الثقافات البائسة بكتابها وشعرائها، الموتى من غياب الموت،
المترهّلون في حضور الأجساد الساطعة،
الكتبة ولا من يكتبون غير ما يفزعون اليه من خسوفهم، المناطقة، والفلاسفة، ولا يمنطقون غير ما يجعلهم غرباء عن الأيدي، وعن التواريخ، والشوارع، سكان الرطوبة، والعفن، خفافيش المصادفات، مجازات الترف، والبحبوحة، والبلاطات الدموية، يجهلون ما يرونه، يتخلفون عما لا يجارونه، لحظة التاريخ في سراويلهم، ضوء الجموع في جيوبهم، مقصد التمرد خارج غرفهم، وملابسهم، واناقاتهم، وأمانهم، وسلامتهم مطيّباتهم العفنة،
من حطام الأزمنة الجديدة، بلا حداثة ولا مَن يستحدثون، خارج الجنون ولا من يستجنّون، خارج المغامرة ولا من يستغمرون، يقايضون الدم بالحفن، يتسلقون المراتب على الموتى، يرتقون على سقوطهم، وعلى اجراسهم المتصدعة، أمام الحرائق، والمجازر، والشهداء، يعدون ايامهم بكلامهم السابق، ولا من لوعة، ولا من دمعة، ولا من رجعة الى السماء،
الثوار يصنعون ما لن يعرفه هؤلاء، لا في الشوارع، ولا في السجون، ولا على القباب، ولا في مدارات الأنهر، ولا في هيجانات البحار، ولا في اشتعال الجبال، ولا في زحف السهول، خضراء خضراء قانية من دمائهم، حمراء من مشقاتهم،
ها هم هوامش الأمس، أهل الأزقة الخلفية، أهل الشاشات المغبشة، اهل الرؤى الجوفية، يخترقون المتونَ، يبرعون في طي التواريخ الميتة يتناسلون بأصواتهم، واحيائهم، وبحرائرهم، ونسائهم، وفتياتهم، بعجزّهم، في نسغِ ما يجعل الشجرة غابة، والدسكرة مدينة، والمدينة قارة، والاحلام قطوفاً على أجسامهم، نزوراً على جباهم، وصلاً بين أذرعهم،
فيصرخ الواحد ممن كاد يتخثر في يأسه، "عشتُ آه لأرى هذه اللحظةَ" ما أعظمك أيها الكون. ما أشدَّك أيتُها الحياة. ما أبهاك ايها الزمن. فيصرخ الواحد منا: أف! نبت لي خمسة قلوب وأكثر قلبٌ في سوريا. وقلب في مصر. وقلب في اليمن. وقلب في ليبيا. وقلب في تونس. كلَّ من أضعفَ اليأسُ قلبه صار بعدة قلوب. كل من أوهن الذل قلبه المفتوح ينبض بملايين القلوب! من قارة الى قارة. من اقصى المغرب العربي الى أقصى مشرقه، جمهور من القلوب الخافقة الفتيّة، من الشباب المستعاد، فيصرخ الطفل: أنا نضجت يا أمي! فاحلميني إلى الثورة. يصرخ العجوز أنا فتى يا ابني فخذني معك الى الميادين. وتصرخ المرأة: أنا قفزت فوق التواريخ الجافة.. وسأوافيكم، إلى أجسامي المقبلة، وإلى ما بعد وقت الطغاة. وتصرخ الجدران: ها أنا بين أيديكم ماء. ها أنا بين أنفاسكم هواء! كيف يصبح الكون فجأة أمّاً واحدة. وأباً واحداً. وأخاً واحداً. وقبيلة واحدة. ومكاناً واحداً، من الربيع العربي عندنا فإلى الربيع العربي في الهند، وفي اسبانيا، ولندن، وفي القارة الافريقية: هل تتصورون ربيعاً واحداً بكل ألوان العالم يطلع فجأة من العناصر والأعراق، والأديان، والأصوات!
العالم اليوم، يتكلم "عربي" آه! عندما كنّا المذلّة. آه! عندما كنا بلا لغاتنا. بلا تواريخنا. على هوامش الانفال. بين الكتاتيب الميتة، والطغاة بأصنامهم، وأنصابهم، يعلنون غيابنا. موتنا. يدفنون صراخاتنا كما يدفنون قططهم. يطفئون أنفاسنا كما يطفئون سجائرهم!
هؤلاء العيّارون! غربان الدم الماضي. آلهة الكرتون. فقهاء المقاصل. عرّابو الهزائم. ها هم اليوم "ولا من يراسلهم"، ولا من يوافيهم، ولا حتى من يُجرّعهم "سم" النهايات"، "جنرالات الجيوش الميتة"، يتضاءلون في الجحور، وفي القصور، يبحثون عمّن يؤويهم.. ولا يجدون. يبحثون عن أصوات كانت تباركهم "بالدم بالروح.." ولا يسمعون غير وقع تدحرجهم،
غير دوي دركباتهم المتمادية،
يدورون حول خوفهم ولا جهات لهم،
نسيت اقدامهم الجهات،
يدورون ولا إشارة لهم،
يحفرون عميقاً ولا تتسع حفرهم لنهاياتهم الكثيرة،
وفوقهم، وبعدهم، ما يجعل العالم أجمل،
ما يجعل الهواءَ شبيهاً بأصابع الجموع
ما يجعل الميادينَ شبيهةً بأنفاس الأطفال
ما يجعل المدنَ شبيهة بناسها (بعدما كانت شبيهة الطغاة)
ما يجعل الأمكنة ملء الأمكنة ملء ذاتها ملء سحرها، ملء دهشتها، ملء أسرارها، ملء سمائها، ملء عشقها، ملء هندساتها الحية،
ما يجعل النوم نوماً، واليقظة يقظة، والحلم حلماً، والرغبة رغبة،
ما بعد الطغاة زمنٌ آخر، لا تصنعه الخرائط الجاهزة، ولا الهويات القاطعة، ولا الخوف العاقر، ولا خشب الحناجر، ولا تفل الافكار، ولا لاهوت الهروب، ولا مصانع الخراب،
ما بعد الطغاة وقتٌ لكل الأوقات
ما بعد الطغاة بيوت تُخلص لسكّانها،
حقول تحتضن زُرّاعها،
هواء يختار شعراءه وشفافيات تصيب فنانيها وساحات تبكر قبلَ طرَّاقها، وشوارع ترسمها خطى مجانينها واحرارها، وشموس تقود أسرارها،
حيث ينتهي الطغاة تبدأ الحياة
حيث يبدأ الطغاة تنتهي الحياة
إنها البداية.