من أروع ما حمله ربيعنا الذي انطلق من تونس ثم مصر وليبيا والبحرين واليمن، وها هو يكتمل في سوريا، استعادة الشعوب العربية لأوطانها من المحتلين المستبدين الجبابرة والفراعنة الطغاة واستعادة ذاكرتها المكانية والزمانية بعد أكثر من نصف قرن من استباحة الذاكرة وتشويهها ومن استحمار الشباب وإذلاله ومن استعمار البلاد وإخضاعها...وتاريخ هذه الاستباحة وهذا الاستعمار والاستحمار يبدأ مع أول انقلاب عسكري بعد نكبة فلسطين 1948 ولا يتوقف مع آخر خطاب يستهزأ بنضالات الشعوب أو يستخف بشعارات الحرية والكرامة..
لم يرفع التوانسة في ربيع ياسمينهم علماً آخر لأن علمهم كان هو نفسه علم جهادهم ضد المستعمر واستقلالهم الوطني، ونشيدهم الوطني كان هو نفس النشيد الذي غنته الحناجر العربية من المحيط إلى الخليج في تلك السنوات المجيدة (حماة الحمى يا حماة الحمى هلموا هلموا لمجد الوطن).. ولم يخترع المصريون علماً جديداً ولا نشيداً جديداً لأن علمهم هو علم الثورة وعلم الوحدة العربية وعلم حرب أكتوبر.. لكنهم استعادوا نشيد (بلادي بلادي) للفنان الخالد سيد درويش وغنوا نشيد (والله زمان يا سلاحي) الذي غناه العرب معهم أيام المقاومة ضد العدوان الثلاثي 1956.. وفي ميدان التحرير استعادوا أغاني الشيخ إمام وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفايزة ونجاة وعبد الوهاب ونجاح سلام وخصوصاً النشيد الجماعي التاريخي: الوطن العربي الكبير (وطني حبيبي...الوطن الأكبر..). وحين رفع الليبيون علمهم الجديد ظلت وسائل الإعلام العربي تردد أنه علم الملَكية قبل تدارك الأمر بعد عدة أسابيع حين اكتشفوا أنه أصلاً علم الاستقلال.. ونفس الشيء حصل في سوريا حين رفع المتظاهرون علم الاستقلال القديم راية ورمزاً لاستقلالهم الجديد... وحنيناً إلى مرحلة النضال من أجل الاستقلال الوطني وإلى أعلامها وراياتها وإلى أهلها وزمانها وقيمها وأخلاقها... فكأن 70 سنة من عمرهم ضاعت هباء!! وكأن المستعمر لم يخرج بعد !! أو وكأن مستعمراً جديداً حل محل القديم وأفقدهم انسانيتهم وكرامتهم بعد تنغيص حياتهم وتقييد حريتهم..
وعلى نفس المسار استعدنا جغرافية بلادنا العربية الحبيبة : استعدناها مدينة مدينة وقرية قرية وشارعاً شارعاً وحارة حارة وزنقة زنقة لا بل وداراً داراً...ومن المحيط إلى الخليج صار الطفل العربي يعرف جغرافية تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا والعراق وذلك بعد سنوات على معرفته وحفظه لجغرافية جنوب لبنان في حرب تموز 2006 .. حفظ العرب أسماء قرى وبلدات حوران أولاً ثم حمص ودمشق وريفها وحماة وريفها وحلب والقامشلي وإدلب ودير الزور والحسكة واللاذقية... وحفظوا أسماء الحارات والشوارع.. فكيف والحالة هذه لا يقارنون معركة بابا عمرو بمعركة ستالينغراد التاريخية الخالدة..
بعض اللبنانيين المغرورين كانوا يتندرون على مسلسل باب الحارة الذي حفظوه لكثرة تكرار عرضه على شاشاتهم..وصاروا يستخدمون بعض لقطاته وقفشاته في حياتهم السياسية اليومية للتدليل على "عروبتهم" و"شعبويتهم" وعلى نزعة القبضاي في داخلهم.. والحال أنهم كانوا يستنسخون الشبيح والبلطجي لا القبضاي والفتوة.. وهم اليوم حين يتهكمون على سقوط ستالينغراد فإنما يتنكرون لتاريخ بلدهم ولذاكرة مقاومتهم..
بابا عمرو اليوم هي بنت جبيل وقلعة الشقيف وعيتا الشعب ووادي الحجير وزبقين وقانا والخيام وجبشيت وصور والنبطية...وهي بيروت الرائعة 1982.. نعم يا رفاق... وهي ستالينغراد وأكثر من ستالينغراد.. لأن روح التضحية والبطولة كانت واحدة...ودبابات الفاشية والنازية والصهيونية كانت واحدة... لأن دماء الأطفال والنساء والشيوخ كانت واحدة... وإعدامات وانتهاكات القتلة كانت واحدة.. لأن الصمود الأسطوري كان واحداً.. والوحشية والبربرية كانت واحدة.. لأن قضايا ونضالات الشعوب واحدة...ولأن مصير أعداء الشعوب وأعداء التحرر هو واحد أيضاً...
والمناضل الثوري الحقيقي هو الذي لا يفقد شعوره الإنساني ولا ينسى روحه الثورية ولا يبيع ضميره ولا يتكرّش في غروره حتى يصير من غير رقبة...