إن التاريخ هو طبعاً من صنع إرادات وأعمال البشر، إلا أن هذه الإرادات وهذه الأعمال تندرج دائما في إطار عدد محدد من القناعات والمعتقدات والتمثلات، التي تعطيها وجهتها ومحتواها وترسم لها خياراتها.. ومن واجبنا اليوم استعادة هذا المعنى وصياغة نص فكري تقدمي تأسيسي جديد...
لقدعجزت الأحزاب والنقابات كما الحكومات والطبقة السياسية و"المجتمع المدني" عن صياغة وبلورة فكرة جديدة محددة تعيد الأمل الى شعوبنا بمستقبل ممكن للحياة في لبنان كما في بلادنا العربية أو على هذا الكوكب. لقد انتهى الإنقسام التقليدي بين يمين ويسار الى مأساة بعد انهيار جدار برلين، وانهيار المرجعيات الضابطة للفكر والحركة ، وزال وَهمُ الحداثة قبل أن تصلنا بركاتها المفترضة، وانقشع شعار التقدم الذي كان حجاباً يمنعنا من رؤية حقيقة مجتمعاتنا وظروفها، وبان الخطر المخيف: تطور لا بل انفجار لا سابق له لوحشية الأنظمة الاستبدادية الحاكمة باسم التقدم والتغيير، وللحروب الأهلية المخبوءة، وللرأسمالية المتوحشة، وفي سيرورة غير مضبوطة النتائج وبمعزل عن قِيَم وضوابط البشر ووجودهم واستمرار نوعهم وخارج كل اهتمام بحياة الناس الفقراء الكادحين والمنتجين ومستقبلهم.
من هنا أهمية وضرورة بلورة أنماط تفكير جديدة ، واجتراح رؤية جديدة متماسكة للذات وللآخر، لبلادنا وللعالم، تكون متجاوزة للقديم، إنما غير مفارقة له، وتكون منشدّة الى الجديد، إنما غير محلقة في الفراغ..
ويحتاج هذا الأمر إلى إعادة النظر في المفاهيم التي قامت عليها تجربة "الدولة الحديثة" في العالم العربي، بحيث يمكن رسم طريق عربية جديدة نحو الحداثة والتنمية والعروبة والاشتراكية لا تكون مجرد اقتباس لتجارب الآخرين أو ترداداً ببغائياً لمقولات الأقدمين...
ولا بد لنا في هذا المجال من إعطاء مفهوم "الإنسجام" في مواجهة مفهومي الإلغاء والاستتباع، حيزاً أساسياً، لأن هذا المفهوم يشكل سمة مميزة تطاول كل مجالات التفكير والعمل لبناء مشروع جديد.
لقد قامت الدولة العربية الحديثة (الرجعية والتقدمية على السواء) باستتباع المجتمع ونصبت نفسها وصية عليه، وهي لم تفكّر أصلاً في ادخال المجتمعات العربية عالم التقدم والحداثة بل هي دمرت هذه المجتمعات تدميراً كبيراً وأعادتها الى الوراء ودفعت بها الى الإنكفاء على الذات والدفاع عن النفس في وجه الدولة (الطائفية العشائرية) التي استباحت كل شيء لتأمين بقائها ومصالحها.. لقد مارست الدولة الاستبدادية العربية الإلغاء بحق كل مخالف فرداً كان أم جماعة، والاستتباع بحق كل المجتمع وكل الطبقات والفئات.
إن المشروع التقدمي الجديد يعني الانسجام بين الدين والدولة، أي عملياً بين المجتمع والدولة، لأن الدين متحقق أساساً في المجتمع، وليس فكرة مجردة. كما أن الدولة ليست بحال من الأحوال مجالاً لتجسيد المقدس. فالمشروع الحضاري الحقيقي يرفض في آن واحد إختزال الدين في السياسة، كما يفعل الأصوليون، ويرفض التقابل بين الدين والدولة، كما حصل في بعض التجارب الغربية.
والمشروع التقدمي الجديد يعني الإنسجام بين الماضي والحاضر تأسيساً للمستقبل بعيداً عن الانقطاع الذي أوجدته الحداثة الغربية مع الماضي بحجة التأسيس للمستقبل انطلاقاً من حاضر منقطع عن جذوره، وكذلك بعيداً عن محاولات تأبيد الماضي وإلغاء التاريخ، كما يفعل الأصوليون في ردهم على الأطروحة الغربية.
كما أن المشروع النهضوي التقدمي الحضاري يعني الإنسجام بين المكونات المتعددة لهوية الانسان، فيرفض اختزاله في بعد واحد من أبعاده.
فهوية الإنسان العربي هي هوية مركّبة تحتوي على إنتماءات متعددة (عائلية، مهنية، وطنية، طائفية، ثقافية، إنسانية...) وهذه الهوية المركبة ليست تراكماً عشوائياً للإنتماءات المتعددة، إنما هي تعبير عن خلاصة موّحدة للشخصية الانسانية ...واختزال الهوية بأحد مكوناتها يؤدي إلى إحداث فصل غير طبيعي بين دوائر الإنتماء المختلفة للإنسان ويضعف تماسك شخصيته وتكاملها، ما يدفعه عند الأزمات إلى الهروب إلى دائرة أوسع أو أضيق من الدائرة المأزومة ..