السبت، 16 يونيو 2012
كيف قادنا النظام السوري الى هزيمة 1967؟!
شمس الدين الكيلاني
انقسمت الحياة السياسية السورية بعد انفصال سوريا عن مصر، في أيلول 1961، بين كتلة أساسية من الشعب أرعبها ضياع حلم الوحدة فتعلقت بشعار: عودة الوحدة مع رئيسها عبد الناصر، وهو شعار وقفت وراءه الحركة الناصرية، وبالمقابل وقفت قوى أخرى من المجتمع مع الدفاع عن الكيان السوري الديموقراطي، جمعت الفئات التي تضررت من الإصلاح الزراعي والتأميم، والأوساط السياسية لحزبي الشعب والوطني، ومعهم أكرم الحوراني والشيوعيون، وغالبية الأقليات، وأيضاً الإخوان المسلمين. لم يترك انقسام الحياة السياسية السورية، بهذا الشكل الحاد، على مسألة الوحدة/الانفصال، لحزب البعث الذي اتخذ موقفاً وسطياً ملتبساً - من وزن سياسي جماهيري يذكر، فعملت (اللجنة العسكرية) البعثية على تعويض هذه العزلة الجماهيرية - في ظل وضع سياسي دراماتيكي، قامت فيه، خلال سنتين، ثلاث محاولات انقلابية لاستعادة الوحدة - بأن استَبَقَت تحرك الناصريين في توقيت انقلابهم، فأجبرت الأخيرين على مساندتها من موقع الصف الثاني في انقلاب 8 آذار1963.
مهد هذا التحرك الاستباقي (للجنة العسكرية) البعثية لتفردها بالسلطة، عبر تصفية شركائها وإزاحتهم بطريقة جمعت بين العنف والخبث. فكان لا بد، في ظل عزلة حزب البعث الجماهيرية، أن تغدو الأرجحية للجنة العسكرية، التي حرِصت، مؤقتاً، على إبقاء القيادة التاريخية (عفلق - البيطار) في واجهة المسرح الحزبي السياسي، لتتفرغ هي لبناء قواعد السلطة وأجهزتها الأمنية الضاربة، ولتُلحِق النقابات وهيئات المجتمع المدني بالسلطة. ومن ثم توجت ممارستها السلطوية بطرح نهج يساري في الداخل كي تستولي على القاعدة الاجتماعية للناصرية، وقدَّمت خطاباً قومياً راديكالياً لتنافس عبد الناصر عربياً. فرفعت شعارها المدوي: عبر تحرير فلسطين نحو الوحدة، وعملت مع (حركة فتح) وراديكاليين فلسطينيين آخرين على القيام ببعض العمليات (الفدائية) عبر الحدود، كانت كافية لإسرائيل لتتخذها ذريعة للحرب... إن ما جمع بين النظام السوري و(فتح)، آنئذ، ليس أكثر من عدائهم المشترك لعبدالناصر واستعدادهما للعمل عبر الحدود، تحت ذريعة تثوير الأنظمة ودفعها إلى المعركة، و(تحرير) الجمهور من هيمنة الخطاب الناصري!
شنّ البعث حملة مركزة على عبد الناصر وموقفه تجاه القضية الفلسطينية، ولقبوله وجود قوات طوارئ دولية تفصله عن إسرائيل. وفي 28 أيلول 1964 أطلق الإعلام السوري نفير المعركة، فاتهم عبدالناصر بأنه يقبض من الغرب معونات كي يؤجل تحرير فلسطين، ويضع قوات الطوارئ الدولية بينه وبين إسرائيل بدلاً أن يواجهها. ثم حسمت اللجنة العسكرية صراعها على السلطة بحركة 23 شباط 1966، فتخلصت من القيادة التاريخية للبعث بعد أن استثمرتها كيفما شاءت. وشرعت على الفور باستخدام (حركة فتح) لتوجيه الأنظار على (الجبهة) بدلاً من الانشغال بخيارات الوحدة مع مصر واستحقاقات الداخل. لقد ادعى النظام و(فتح) أن هدف تحرير فلسطين هو في أمر اليوم. فشرعت (فتح) في عملياتها، التي لم تُكبد إسرائيل سوى قتيل واحد حتى هزيمة حزيران، لكنها كانت كافية لتتخذها إسرائيل ذريعة لعدوانها ولتوسعها الشامل. وفَّرت هذه (العراضة)، على الحدود، فرصة لإسرائيل لتنفيذ مخططاتها الجاهزة. وفي حين استمرت القاهرة بالدفاع عن شعار الوحدة العربية والتقدم "طريق لتحرير فلسطين"، قلبت دمشق الشعار وأشهرت شعار "تحرير فلسطين طريق الوحدة"، ووصل الأمر أنه في مؤتمر القمة المنعقد في كانون الأول 1964، بناء على طلب عبد الناصر لمناقشة تهديدات إسرائيل بتحويل مياه نهر الأردن، فاجأ رئيس الوفد السوري (أمين الحافظ) الجميع بأنه يملك خطة لتحرير فلسطين خلال ثلاثة أيام! وذلك في مواجهة ما صرح به عبدالناصر من أنه ليس لديه خطة لتحرير فلسطين.
الغريب في الأمر، أن عبدالناصر وجد نفسه مساقاً إلى المعمعة التي مهد لها البعث، وهو الذي صرح أكثر من مرة أنه ليس لديه خطة حالية لتحرير فلسطين، وأن هزيمة إسرائيل ليست ممكنة إلاَّ بعد تحقيق الوحدة العربية مع تفوق عسكري عربي واضح تسنده تنمية فعَّالة. بدا وكأنه لم يستطع مقاومة اتهامات البعث له بالتقصير والعمالة، فانساق الرجل إلى الهاوية أمام معمعان الديمغاوجية والقومجية الزائفة، والضغط النفسي الذي تركته اتهامات البعث له، وأمام تأكيدات قوية من الحكومتين السوفياتية والسورية في 1967 عن حشود إسرائيلية كثيفة على الحدود السورية - تبين فيما بعد أنها غير صحيحة - وثقة في غير محلها بأن الاتحاد السوفياتي الذي دعاه لاتخاذ إجراء في مواجهة الحشود الإسرائيلية تلك لن يتركه ينهزم.
وهكذا انزلقت خطوات عبد الناصر نحو معركة غير محسوبة نتائجها، بإعلانه عن حالة حرب مع إسرائيل وإغلاق مضايق تيران وسحب قوات الطوارئ الدولية، وهو ما اعتُبر من قبل أميركا وإسرائيل كافياً لتبرير عدوان 5 حزيران. كما انزلقت قدما الملك حسين أيضاً بإعلانه الوقوف مع مصر وسوريا، تحت خشية الاتهام بالخيانة. فاتجه العرب بطريقة غير معقولة إلى الحرب، دون تخطيط أو استعداد لها، فذاقوا ويل هزيمة 5 حزيران الشنيعة، ومازالوا يتجرعون سمها الزعاف إلى أيامنا هذه، أضاعوا معها الأرض والأوطان والكبرياء.
هزت هزيمة حزيران البنيان السياسي - الاجتماعي العربي، ومعه الذهنيات والإيديولوجيات السائدة، ودفعت كل التيارات السياسية إلى تفحص مواقعها وآلية عملها، وإلى مراجعات متفاوتة العمق والجدية. لكن السلطات السورية اكتفت بتقديم أطروحتها الصماء القائلة:إن العدوان لم يحقق اغراضه بإسقاط نظامها التقدمي! وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على تلك الهزيمة الشنيعة، بقيت الذهنية التي أوصلتنا إليها هي الذهنية الحاكمة على تفكير السلطة السورية وممارستها إلى الآن، مرة تحت شعار الصمود والتصدي، ومرة أخرى تحت شعار الممانعة! إلى جانب إنكارها الدائم للواقع، والتعامل مع ما تفبركه من أوهام على أنها الحقيقة الثابتة.