تحية مصرية إلى الشعب الإيرانى
عمرو الشوبكي
تعتبر إيران واحدة من أعرق دول المنطقة، ذات حضارة ثرية أثرت فى مسار الإنسانية، وهى أمة كبرى وشعب حى امتلك تاريخا ثوريا بامتياز منذ ثورة مصدق الليبرالية فى الخمسينيات، مرورا بثورة الخمينى الإسلامية فى نهاية السبعينيات، وانتهاء باحتجاجات موسوى والإصلاحيين فى يونيو ٢٠٠٩، لتظل الأمة الإيرانية نموذجا يحتذى فى الحيوية والفاعلية ورفض القمع ودفع ثمن الحرية.
والمؤكد أن الثورة الإيرانية كانت حدثا تاريخيا فريدا عاشها جيلى عند بداية دخوله الجامعة، وألهمت الراغبين فى الحرية من كل الاتجاهات السياسية، وصار الخمينى رمزا غنى له الشيخ إمام «لو كان الخمينى عندنا والمعارضة يد واحدة» حالما بثورة مماثلة فى مصر، إلى أن تأكد لنا جميعا أن هذا حلم بعيد المنال، لأن واقع إيران ليس واقع مصر، ولأن كثيرا من دول العالم تحول نحو الديمقراطية دون ثورة، إنما بقدر من الاحتجاجات الاجتماعية والضغوط السياسية من داخل النظام وخارجه دفعته إلى الإصلاح والتغيير.
وفى حين اتجه العالم كله نحو الاعتراف بالثورة الإيرانية اتخذ الرئيس السادات فى ذلك الوقت موقفا وصفه «بالإنسانى» تجاه شاه إيران السابق، حين استقبله فى مصر بعد أن رفضت أمريكا حليفته الأولى استقباله، ومنذ ذلك الوقت قطعت علاقة مصر بإيران وضاعت على الشعبين فرصة تاريخية للتفاعل الحضارى والثقافى حتى لو اختلف الحكام فى السياسة، وظلت مصر «مخلصة» لركودها، فما ورثه الرئيس مبارك من عصر الرئيس السادات لم يغيره ومنه بالطبع العلاقة الدبلوماسية الحميمة مع إسرائيل والعلاقات المقطوعة مع إيران، لتظل مصر ثالث دولة فى العالم ليس لها علاقات مع إيران بجانب أمريكا وإسرائيل، وإن كانت الأولى فتحت خطوط اتصال جديدة مع إيران.
والمؤكد أن توجهات مصر السياسية تختلف عن توجهات إيران تماما مثلما أن تركيا تختلف عن إيران ليس فقط فى توجهاتها السياسية، إنما أيضا فى نموذجها السياسى الذى هو تقريبا نقيض النموذج الإيرانى، ومع ذلك ظلت هناك علاقات دبلوماسية طيبة بين البلدين وتبادل تجارى وحوار سياسى لا ينقطع، والفارق بين تركيا ومصر أن الأولى دولة اعتدال حقيقية يحكمها نظام ديمقراطى يتسم بالكفاءة الاقتصادية والسياسية، والثانية دولة اعتدال اسما فشلت فى إصلاحاتها السياسية والاقتصادية وتجمدت فى مكانها على مدار ٣٠ عاما.
وقد زرت إيران مرة واحدة منذ حوالى ٦ سنوات، بمبادرة من مؤسسة «فردريش إيبرت» الألمانية فى رحلة ضمت بعض أساتذة الجامعات ومثقفين وممثلين عن بعض منظمات المجتمع المدنى، للتحاور مع نظراء لهم فى إيران، وقضينا ٨ أيام بين طهران وأصفهان، فزرت «طهران الشمالية» بأحيائها الراقية و«طهران الجنوبية» بأحيائها الشعبية، ورأيت كرم الإيرانيين وحفاوتهم البالغة وحبهم لمصر خاصة أن من كان فى الحكم فى ذلك الوقت هو الرئيس الإصلاحى محمد خاتمى.
ودعانى إعلامى إيرانى شاب إلى عشاء فى منزله وعرفنى بزوجته وأطفاله بحفاوة وكرم بالغين، وكان يعمل فى إذاعة إيرانية ناطقة بالفرنسية، واعتاد أن يتصل بى لكى أعلق على بعض الأحداث السياسية، وأخذنى بسيارته لجولة فى أحياء طهران المختلفة قبل أن أجد نفسى على مائدة عشاء اتسم بالحفاوة والحميمية والبساطة فى نفس الوقت.
وإيران بها فقر ولكنه أقل بكثير من الفقر فى مصر، والشعب مثقف وحى والمرأة ساحرة وفاعلة، وشاركت بحيوية مذهلة فى كل المناقشات واللقاءات التى حضرناها دون ادعاء أو تصنع، وأذكر أنى قابلت امرأة إيرانية شديدة الجمال عاشت فترة من حياتها فى فرنسا للدراسة، ولأن من يتحدثون بالفرنسية يشعرون دائما فى أى محفل دولى بأنهم أقلية أمام هيمنة اللغة الإنجليزية، فقد دار حديث طويل بيننا أثناء الندوة وبعدها وفى العشاء الذى نظمه لنا الجانب الإيرانى فى أحد مطاعم العاصمة المسموح فيه بالغناء.
وقد ارتدت هذه السيدة حجابا يغطى معظم شعرها، وحين خرجنا من قاعة المؤتمر فى الجلسة الأخيرة وكان عدد الحاضرين محدودا نزل الحجاب بالكامل عن شعرها وما كان منها إلا أن رفعته بسرعة كأن جزءا من ملابسها قد سقط، وقالت بعد ذلك أنها رغم عدم اقتناعها تماما بارتداء الحجاب، فإنها تتعامل معه باعتباره قانونا يجب أن يحترم، وأن احترام القانون حتى لو اختلف معه البعض أمر مقدس لدى معظم الإيرانيين.
والشىء المدهش أن إيران الإسلامية أكثر انفتاحا من مصر المدنية، فالحجاب كان وراءه ثورة كبرى، وترتديه الفتيات إما عن قناعة أو احتراما للقانون، ولكن ليس لنفاق اجتماعى كما جرى فى كثير من الأحيان فى مصر، حين انتشر غطاء الرأس وانهارت القيم والأخلاق وتبلد المجتمع وغابت السياسة.
وحين تدخل محلا لبيع السجاد الإيرانى الشهير يستطيع صاحب أو مدير أو عامل فى المحل أن يشرح لك تاريخ السجاد فى إيران وقصة السجادة التى ترغب فى رؤيتها، والفنان الذى صممها، سواء اشتريت أم لم تشتر، وأذكر أنه كانت معنا أستاذة جامعية مصرية أبدت أكثر من مرة استياءها من هذا الشرح ورغبت أن يقول لنا السعر و«نخلص» رغم أنها مثلنا لم تشتر سجادة واحدة. إيران أيضا دولة إبداع فنى عظيم والسينما الإيرانية التى أحرص على متابعتها حين أسافر إلى باريس هى واحدة من أجمل «سينمات» العالم، وهناك إبداع فى الفن التشكيلى وفى الأدب بارز.
لقد زرت بلادا كثيرة فى العالم وعشت فى الخارج لسنوات ولكن هناك بلدانا «تعلم فيك»، وإيران- والإيرانيون- واحدة من هذه الدول، فنحن أمام شعب مثقف مبدع مرهف الحس، المرأة فيه حاضرة فى الشأن العام بصورة أكبر من مصر، والمجتمع شديد الحيوية وفيه جدل سياسى وفكرى حقيقى، ومع ذلك يصر البعض أن يختزله فى «ولاية الفقيه»، فى حين أن إيران أكبر بكثير من المرشد، ومن نظام الثورة الإسلامية، وقادرة بفضل حيوية شعبها أن تصحح أخطاء نظامها بل وربما تعيد بناءه على أسس جديدة.