على الأقل
المقال الأخير
فلأبدأ من الآخر، مثلما نقول.
هذا المقال هو المقال الأخير الذي اكتبه في هذا المكان.
التجارب تنتهي، وهذه التجربة انتهت. وانا اغادرها بلا حزن ولا مرارة، اغادرها لأنها انتهت، ولم يعد مكاني هنا.
المكان لا يريدني، وعلاقتي به صارت ملتبسة من زمان. يجب ان نضع نقطة الخاتمة بلا حزن، او رثاء.
لا شيء ارثيه، ما اريد كتابته كتبته، كما اريد، وسأستمر في ذلك، حيث اريد، وكما اشاء.
الكاتب لا يحتاج الى مكان، الأمكنة تحتاج الى كتاّب، اما الكاتب فمكانه كلماته، وارضه مواقفه، ومستقبله حلمه.
هكذا علّمنا المتنبي، الذي منه نستوحي. فشاعر العرب لم يستغن عن الأمكنة فقط، بل استغنى، ولو في شكل رمزي، عن الأوطان ايضا:
"غنيٌّ عن الاوطان لا يستفزني/ الى وطنٍ سافرتُ عنه إيابُ"
هذه الزاوية التي اخترتُ لها اسم "على الأقل"، ستختفي من هنا، كما اختفت زوايا كثيرة واسماء كثيرة.
لكنني لا اغادر مديراً ظهري لأحد، فالكتابة أهم من الشكليات التي، سواء احترمت ام لم تحترم، تبقى هامشية وقد اقول تافهة.
الكتابة موقف وليست مهنة، ولم يخطر في بالي مرة عرضها للبيع، لأنها لا تُباع ولا تُشترى. ما يباع ويشترى ليس كتابة ولا ادبا، انه سفاهة لا تفيد في شيء.
لكن في اللحظة التي اغادر فيها هذا المكان، لا استطيع سوى ان اتوقف، طالبا من القارئ الكريم اعطائي فسحة صغيرة للتعبير عن شعوري تجاه مسألتين:
المسألة الأولى هي اعترافي بأن فسحة الحرية التي صنعها "الملحق"، كانت بلا حدود. والفضل في ذلك لا يعود فحسب الى التقاليد الليبيرالية في "النهار"، التي نأمل ان تستمر، ولا الى دفاعي عن استقلالية الكتابة، وعدم استعدادي للمساومة على حرية الكلمة وشرفها فقط، بل يعود ايضاً الى دور غسان تويني شخصيا، فهذا الرجل ادهشني دائما بإيمانه المطلق بالحرية، وكان نموذجا للفكر المستنير والرؤية الديموقراطية، وهما صفتان نبيلتان صارتا نادرتين، للأسف الشديد، في زمن الانحطاط الذي يعيشه لبنان والعرب.
لهذا الرجل مكانة لا تتزحزح في ضمائرنا وذاكرتنا، وله كل الحب والتقدير والأمنيات.
المسألة الثانية تتعلق برفيقي واخي سمير قصير، الذي كان لقائي به في "النهار"، ذروة صداقة ابتدأت بفلسطين، وانتهت بزيتونة جليلية مباركة زرعناها في المكان الذي سال فيه دمه على ايدي اعداء حرية لبنان وديموقراطية سوريا وتحرير فلسطين.
صار هذا المكان ارض لقائي اليومي به. من مكتبي الصغير اطلّ على مكتبه، فأراه كل يوم ضاحكا لحياة احبها لكنها خانته، حين جعل القاتل من دمه ثمنا لحبر قلمه.
هذا المكان صار بالنسبة اليَّ حديقة حية لشهداء الصحافة والحرية، الذين كان قتلهم اغتيالاً محاولة لقتل المدينة وجزءا من الحرب المفتوحة للإجهاز على فكرتي لبنان والعروبة.
لرفيقي واخي الصغير، اقول انني احاول ان احمل امانة دمه، ودماء رفاقنا من شهداء الحرية في لبنان وفلسطين، حيث اكون.
واخيرا اريد ان اشكر جميع زملائي الذين تحملوا معي اعباء هذا العمل خلال سبعة عشر عاما، الشاعر الراحل بسّام حجار والسينمائي محمد سويد والشاعر والكاتب بلال خبيز، واخيرا وليس آخرا الشاعر عقل العويط.
كما لا استطيع ان انسى صورة استاذ علم النفس رالف رزق الله، الذي جعل من هذا "الملحق"، مكانا خصبا لقراءة نفسية للتجربة اللبنانية المريرة، وكان انتحاره المأسوي، علامة يأس مبكرة من المكان البيروتي الذي ضاق بنا.
هؤلاء صنعوا "الملحق"، في نسخته الجديدة ابتداء من عام 1992، لهم الشكر والمحبة والعرفان.
كما اتوجه بالشكر الى الأصدقاء الكتاب والشعراء والفنانين الذين ساهموا في هذه التجربة في مراحلها المختلفة، وكتبوا وضحّوا، وعملوا في شروط مادية لا يمكن تشبيهها بسوى العمل التطوعي، كي يبقى لبيروت صوت حريتها، وللكتابة شرف رسالتها.
اما انا، فليس لي سوى ان ابقى وفياً للكلمة التي كانت وستبقى المعنى الوحيد لحياة كل ما فيها باطل وقبض ريح.
كانت علاقتي بمهنة الصحافة ملتبسة منذ البداية، وستبقى كذلك. فالروائي يرى في الكتابة الصحافية نافذة على المعرفة التفصيلية، والمثقف يعتبرها منبرا لتحدي الضمير والموقف. وانا العامل في هذا الحقل منذ اعوام لا تحصى، اعتبرت نفسي دائما غريباً عن عوالم السلطة والمال، التي تجد الصحافة نفسها جزءا منها، وكانت غربتي هذه جزءا من رؤيتي لنفسي وللآخرين.
هذا الالتباس هو النكهة التي جعلت من الكتّاب صحافيين، واعطت الصحافة اللبنانية منذ تأسيسها بعدا نهضويا، لا تستطيع التخلي عنه، والا فقدت مبرر وجودها.
جئت الى هذا المكان من طريق مصادفة غريبة، اذ لم يدر في ذهني يوما، انا الآتي من خطاب ثقافي يساري، ومن تجربة فلسطينية- لبنانية خاصة وغنية، ان اجد لنفسي فسحة هنا. وكانت هذه الفسحة ارضا للحرية، على الرغم من بعض التوترات الصغيرة، التي لا يخلو منها اي عمل.
لا اريد لمغادرتي ان تتخذ طعم المرارة، او ان يصادرها تصرف لم يراع، من حيث الشكل على الأقل، المكانة التي صنعتها كلماتنا للمنبر الذي كتبنا فيه طويلا.
الكاتب يصنع المكان، فالأمكنة تمشي وراءنا. واذا كان من شعور بالمهانة لاسباب كثيرة، فالمهانة ليست مهانتنا. نحن ابناء الكلمة، والكلمة تعرف اننا لا نخونها.
نمضي ولا ننظر الى الوراء، نصنع حياتنا كل يوم من جديد. ونعرف ان امكنتنا تصنعها خطواتنا.
الياس خوري