الثلاثاء، 1 يونيو 2010

كريم مروة: إذا كانت قضية بناء الدولة تهمة إصلاحية فلا أتبرأ منها

صدر مؤخراً للكاتب اللبناني اليساري كريم مروة كتاب بعنوان "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" الصادر عن دار الساقي، والذي يقدّم فيه مشروعاً لنهضة جديدة لليسار في العالم العربي، بعد الانكسارات والتراجعات الكبرى التي شهدها في العقود الأخيرة، لا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار التجربة الاشتراكية بوجه عام. ويستند مروة في مقاربته هذه إلى خبرته الطويلة في العمل السياسي والفكري كأبرز رموز التيار الماركسي في لبنان والعالم العربي. كما اقترح عدداً من الأفكار التي يراها ضرورية لخروج اليسار من أزمته الراهنة، مركزاً على أهمية القيام بقراءة غير أيديولوجية للتحوّلات التي تجري في العالم المعاصر لاستخلاص العناصر الأساسية التي يمكن لليسار الجديد أن يستند إليها في تحديد أهدافه ووسائل نضاله.

هل سقط الفكر الإشتراكي عموماً والفكر الماركسي خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أم أن هناك إمكانية لإعادة الروح للفكر اليساري؟
الفكر الاشتراكي هو فكر إنساني، له تاريخ، وهو سابق على الماركسية. لكن أهمية مشروع ماركس لتغيير العالم أنه فتح باباً حقيقياً لإحداث تغيير جوهري في مسار حركة التاريخ. والنقطة الجوهرية في مشروع ماركس أنه يعطي لحركة التاريخ اتجاهاً محدداً وفق قوانين وضعية تقود إلى تحقيق التقدم والحرية والعدالة الإجتماعية كأقانيم متحدة وفق الشروط التاريخية الملموسة. بهذا المعنى أستطيع القول بأن الفكر الإشتراكي المرتبط بمشروع ماركس لا يمكن أن يفقد مبرر وجوده واستمراره. لكن المشكلة تتحدد في القوى التي حملت هذا الفكر، وحاولت أن تدخله إلى الواقع في مراحل تاريخية تمتدّ إلى ما يقرب من القرن ونصف القرن منذ البيان الشيوعي حتى اليوم، وبالتالي يتحملون مسؤولية فشل التجربة التي ارتبطت باسم ماركس، وأعني فشل التجربة الاشتراكية التي تمثلت بسقوط الاتحاد السوفياتي كأول دولة اشتراكية في التاريخ. وأعتقد أن علينا التوقف عند "إشكالية العلاقة بين الفكر والممارسة"، أي بين الفكر والذين يمارسونه! فهؤلاء تعاملوا مع أفكار ماركس كما لو أنها أفكار ثابتة غير قابلة للتغيير على طريقة الفكر الديني. وبالإضافة إلى عجزهم عن تطوير هذا الفكر وتطوير المشروع المرتبط به لكي يتطابق مع التحولات التي تجري عبر التاريخ فأساؤوا إلى هذا كله من خلال سلوكهم العملي. وخلاصة ما أود قوله إن الفكر الاشتراكي يجب أن يتغير مع تغير الشروط التاريخية، وعندما تتوفر القوى التي تتعامل معه على هذا النحو سيستعيد مكانه ودوره في إحداث التغيير في حركة التاريخ.

كيف يمكن تجاوز الأزمة التي يعاني منها اليوم اليسار اليوم؟
عندما نتحدث عن اليسار اليوم فهو يختلف عن اليسار الذي كان سائداً منذ ثورة أكتوبر 1917 حتى سقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991. ويكمن جوهر الاختلاف في الأثر الذي تركه انهيار التجربة السابقة، وتغير القاعدة الاجتماعية والسياسية لليسار المعاصر. وبحكم قناعتي، يعتبر التاريخ حلقة تواصل بين مراحل وحقبات مختلفة. والجديد إنما يولد دائماً من القديم ثم يتخذ لنفسه شخصية مستقلة عنه دون أن يفقد صلته بالرحم الذي ولد منه، على قاعدة دعوة ماركس بعدم تحنيط الأفكار وتأبيدها بل تجاوزها مع مرور الزمن وتطور الوقائع. من هنا أدعو إلى إعادة إحياء المشروع الاشتراكي ضمن شروط العصر، مع الأخذ بالاعتبار أن في تاريخ الحركة الاشتراكية ما هو مجيد ينبغي التمسك به. وأن في هذا التاريخ أخطاء لا بد من نقدها وتجاوزها.

هل هناك معوقات معينة تقف أمام تطور اليسار العربي غير تلك مرتبطة بالأزمة الدولية التي يعاني منعها الفكر اليساري عموماً؟
لا فرق جوهرياً عندي بين أزمة اليسار في العالم العربي وأزمة اليسار في العالم، لأن طبيعة الأزمة هنا وهناك هي ذاتها وكذلك أسبابها التاريخية والراهنة. لذلك عندما أدعو إلى نهضة جديدة لليسار في عالمنا العربي فإنني ألتقي مع إيريك أورلو الذي تحدث عن تشابه أزمة اليسار في العالم العربي مع أزمة اليسار في أوروبا، مع فارق غير قليل الأهمية أن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا تحكم الآن في بعض البلدان رغم أنها تراجعت من 15 دولة إلى 5 دول! لذلك مفهومي لليسار اليوم أشمل مما كان عليه كشيوعي سابق. ذلك أننا كشيوعيين في فترات سابقة كنا نعتبر أن أحزابنا الشيوعية هي وحدها الممثل للإتجاه الإِشتراكي. في حين أن التاريخ أثبت أن الشيوعيين لا يحتكرون اسم الإشتراكية ولا اليسار، ولا اسم ماركس والماركسية. من هنا إصراري على أن اليسار المعاصر أشمل بمكوناته وقاعدته الإجتماعية وتياراته الفكرية.

بمناسبة عيد العمال: أين أصبح دور الطبقة العاملة؟ وهل مازال للبروليتاريا رسالة تاريخية؟
تعتبر الطبقة العاملة القوى المعنية بمشروع ماركس. لكن الوقائع التاريخية والتحولات التي شهدها العصر، والمنجزات العلمية الكبرى، والتقنيات على اختلافها أعطت لمفهوم الطبقة العاملة معنى مختلف عما كان عليه الأمر في زمان ماركس، وحتى في الزمن الذي انتصرت فيه ثورة أكتوبر الاشتراكية. وجوهر التغيير هنا في مفهوم الطبقة العاملة هو دور هذه الطبقة في عملية الإنتاج. إذ حلّ العمل الذهني محل العمل اليدوي. وأدى ذلك إلى ضعف تمركز الطبقة العاملة في المراكز الصناعية على اختلافها، وإلى تحول أعداد كبيرة ممن كانوا يعتبرون جماهير الطبقة العاملة إلى فئات مهمشة، وإلى جماهير غفيرة من العاطلين عن العمل. إلا أن هذا لا يعني أن تلك الفئات الواسعة من العمال والمستضعفين أي الأجراء بمختلف ميادين عملهم قد كفوا عن أن يكونوا قوى أساسية في عملية التغيير باسم الاشتراكية أو باسم اليسار، لكن عدداً كبيراً من قوى اجتماعية أخرى بما في ذلك ما يُسمّى بالطبقة الوسطى مضافاً إليهم العاملون ذهنياً وفكرياً وعملياً في عملية الإنتاج باتوا يشكلون اليوم القاعدة الاجتماعية الأوسع والأكبر لليسار، حامي مستودع التغيير باسم الاشتراكية. وعلى قاعدة مشروع ماركس الأساسي ينبغي أن ننظر إلى الطبقة العاملة بمنظور مختلف عن السابق. وإذ نستمر بالاحتفال بعيد أول أيار كعيد للطبقة العاملة فإننا نحتفل بالجمهور الذي يحمل هذا الاسم، ومعه فئات واسعة ذات مصلحة في إحداث التغيير باسم اليسار.

مع تنامي الحركات الإسلامية والإنتصارات التي حققتها المقاومة في لبنان والعراق والإنتفاضة الفلسطينية: هل بات اليسار العربي غير قادر على إجراء مصالحة مع هذه الحركات؟
على اليسار بالمعنى الذي أشرت إليه وبالفكر الذي يرتبط به أن يكون مستقلاً. وبهذا المعنى أرى أن ثمة فارقاً نوعياً بين اليسار الذي أتحدث عنه وبين الحركات الإسلامية ذات المرجعيات الدينية، رغم التقائهما في ظروف ما حول قضايا معينة. وأشير هنا إلى أن ماركس وأنغلز توجّها في البيان الشيوعي إلى الأحزاب المنتمية إلى عصبة الشيوعيين لكي تتحالف في ظروف ما مع خصمها الطبقي حول قضايا معينة.
ويهمني في هذا السياق أن أشير إلى أن ضرورة إلتقاء جميع القوى بمعزل عن الخلاف الفكري والسياسي والطبقي في ظروف الإحتلال والعدوان. لكن سيكون من الخطأ بالمقابل أن لا يأخذ اليسار بعين الاعتبار في نضاله من أجل التغيير أن جماهير المؤمنين ذات مصلحة في النضال من أجل التغيير. أي أن بإمكانها أن تلتقي مع اليسار في هذا المضمار دون أن تفقد علاقتها بإيمانها ومرجعيتها الدينية. وبالطبع لا يعني اليسار أن يتخذ موقفاً معادياً للدين، لكنه معني بأن لا تصبح المرجعيات الدينية صاحبة الرأي والقرار في العمل السياسي والنضالي، لا سيما إذا تعلق الأمر ببناء الدولة. فمن شعارات اليسار الأساسية الفصل بين الدين والدولة. لكن إذا عدنا إلى الوقائع التاريخية خصوصاً في المرحلة الأخيرة من وجود الإتحاد السوفياتي وبالأخص بعد انهياره، فسنجد أن انهيار التجربة الاشتراكية قد ترك فراغاً كبيراً في العمل السياسي، وأحدث ما يشبه الإحباط واليأس من قدرة الاشتراكية واليسار على متابعة النضال للتغيير! لذلك ملأ الفراغ الإسلام السياسي بتنويعاته المختلفة، لا سيما الإسلام المناضل ضد العدوان الخارجي والاحتلال الأجنبي. من هنا يطرح السؤال حول نوع العلاقة التي ينبغي أن تنشأ بين اليسار بمكوّناته المختلفة وبين بعض الحركات الإسلامية المعاصرة؟ والجواب البسيط: أن ثمة حاجة موضوعية في الوقت الراهن لالتقاء محدد بين اليسار وبين بعض هذه القوى في بعض القضايا وبشكل خاص في القضية الوطنية، شرط أن يبقى هذا اليسار محافظاً على استقلاليته كيسار علماني لبناء دولة قائمة على الفصل بين الدين والدولة التي يسود فيها الديموقراطية والحق والقانون ضمن مجتمع مدني تعددي.

ما هو تصنيفك لليسار واليمين اليوم في ظل التداخل في الممارسة السياسية بينهما؟
حددت في السؤال الأول مفهومي لليسار، بالنسبة لاتساع قاعدته الاجتماعية وتعدد مكوناته ومشروعه لإحداث التغيير في المجتمع القائم على تحقيق التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية. وفي رأيي فإن ما يمكن أن نسميه اليمين متعدد ومختلف حيث يسود رأس المال. إلا أن اليسار يمكن أن يلتقي مع اليمين في مهمات محددة عندما يصبح ذا قوة فاعلة، ويحمل مشروعه للتغيير، ويجند وراءه الجماهير، أو أن اليسار بحكم قوته سيفرض على اليمين الحاكم بمكوناته المختلفة تحقيق بعض القضايا. ولكن على اليسار أن لا يكون يساراً شعبوياً. أي أن لا يطرح شعارات غير قابلة للتحقيق، بل عليه أن يحدد بدقة المهمات الراهنة التي لا بد من النضال لتحقيقها. وعندما يفعل ذلك إنما يستجيب لرأي ماركس الذي يقول بأن على الحزب الإشتراكي حامل مشروع التغيير أن يكون دقيقاً في تحديد المهمات المطلوب تحقيقها بواقعية، لكي يستطيع تجنيد الجماهير من اجل تحقيقها، لأن طرح أي مهمة غير متوفرة شروط تحقيقها سيؤدي إلى إحباط الجماهير، والانكفاء عن النضال تحت قيادة اليسار.

هناك من يتحدث عن سقوط الرأسمالية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية: فهل سيشهد العالم عودة الروح إلى الفكر الاشتراكي أم سيظهر نظام ثالث؟
هذا كلام إنشائي ليس له علاقة بالواقع، بل كلام شعبوي، لأن النظام الرأسمالي هو السائد. ولا يوجد نظام بديل عنه أو شريك له، وكان لدينا وهم له أساس موضوعي خلال وجود الإتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي العالمي، أن المنظومة الاشتراكية هي شريك فعلي للنظام الرأسمالي العالمي. لكن بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وما كان يسمى نظاماً اشتراكياً عالمياً لم يبق إلا النظام الرأسمالي حتى إشعار آخر. لكن الذين ينظرون لأبدية النظام الرأسمالي مثل فوكوياما الذي تحدث عن نهاية التاريخ بعد سقوط الإتحاد السوفياتي مخطئون، لأنهم يتصورون أن البشر سيستسلمون لنظامهم القائم على القهر والإستغلال والظلم مدى الحياة. وهذا أمر مخالف للطبيعة. فالتاريخ القديم والحديث مليء بالحركات والثورات التي وإن لم تنجح حتى الآن في تحقيق أهدافها وأحلامها في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية فإنها ستولد حركات وثورات من نوع جديد تتابع هذا النضال لتحقيق أهدافها وأحلامها. ولكن هنا أطرح فكرة إعادة تجديد حركة اليسار في بلادنا لكي تحمل راية النضال ضمن شروط تاريخية معاصرة لتحقيق هذه الأهداف. وهي مهمة إذا لم تتحقق الآن لا بدّ أن تتحقق ذات يوم. وهي مهمة الأجيال الشابة التي تناضل لصنع مستقبلها. وبالإشارة للأزمة الرأسمالية القائمة حالياً لا بد من القول إنه رغم آثارها الكبيرة والخطيرة فإنها لن تزعزع النظام الرأسمالي العالمي. وقد سبقت هذه الأزمة أزمات كبيرة. لذلك علينا أن لا نراهن على شعارات شعبوية لا تستند إلى وقائع تبشر بنهاية سريعة للنظام الرأسمالي!

قدمت في كتابك "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" برنامجاً لليسار الجديد ارتكز على معالجة 20 قضية مستعصية في عالمنا العربي. فما الذي يميز هذا البرنامج عن أي برنامج إصلاحي لا يحمل صبغة اليسار؟
للأسف تستخدم أحياناً كلمة "إصلاحي" كتهمة لليسار الذي يناضل من أجل تحقيق مهمات واقعية وملحة،ّ وهذا الاستخدام شائع، ولا يستند إلى رؤية واقعية للأمور في بلادنا التي يسود فيها الاستبداد. والمهمة الأولى بالنسبة لي بناء الدولة التي يلتقي حولها الفقراء والمستنيرون من الطبقة الرأسمالية، رغم ما بين هؤلاء من تناقض في المصالح! فالفقراء بحاجة لدولة ذات مؤسسات لكي يطالبوها بحقوقهم عبر النضال، وأصحاب رأسمال بحاجة إلى دولة لكي يحققوا بواسطتها مصالحهم. من هنا كانت قضيتي الأساسية في الكتاب بناء الدولة. كما تضمّن البرنامج المقترح عندي كل ما له علاقة بحياة الناس. وبالتالي إذا كانت قضية بناء الدولة تهمة إصلاحية فلا أتبرأ منها. وأزعم أن القضايا العشرين التي وضعتها تحتاج إلى نضال لتحقيقها في بلادنا خلال زمن طويل!