الخميس، 1 ديسمبر 2011

العدالة لن تغيب

مرافعة النقيب الاستاذ رمزي جريج (في الشق الوطني II) ممثلاً جهة الادعاء الشخصي في جلسة المجلس العدلي بتاريخ 14/10/2011 لمحاكمة معمر القذافي واعوانه في جريمة خطف وحجز حرية الإمام الصدر واخويه
الجمعة، 14 ت1، 2011

حضرةُ الرئيس
السادة اعضاء المجلس العدلي الموقر،

كلفتني عائلة الإمام موسى الصدر بشخص نجله السيد صدر الدين ان أُمثلَها، إلى جانب سعادة النقيب بسام الدايه وسائر الزملاء الاكارم، في قضية خطف الامام موسى الصدر؛ فَشَعِرْتُ، بمجرد تكليفي بهذه المهمة، أَنني لا امثِّلُ هذه العائلة الكريمة فحسب، وانما امثل كامل الشعب اللبناني بجميع شرائحِ مجتمعه من شباب وكهول واطفال، وبجميع فئاته من مسيحيين ومسلمين؛ كما امثل الوطن بأسره بجميع مناطقه من جَنوبه إلى شَماله، من جبله إلى بِقاعه، وجميعِ مدنه وقراه من صيدا وصور إلى جونيه وجبيل، من بيروت وطرابلس إلى اصغرِ قريةٍ من قراه المحرومة، التي التزم الامام المغيّب قضاياها خلال مسيرته الرائدة.

ذلك ان الامام موسى الصدر ليس لعائلته القريبة او لطائفته الكريمة فحسب، وانما هو ثروةٌ حقيقية للبنانَ بأسره وللعالمِ العربي والاسلامي على حدٍّ سَواء، لا بل إنه قيمةٌ انسانية كبيرة.

ويكفي للدلالة على ذلك ان نستذكرَ بعضَ مواقفهِ واقواله، فندركَ مدى الخسارةِ التي لحقت بنا، كلبنانيين وعرب، بسبب تغييب الامام موسى الصدر عن الساحة اللبنانية لأكثر من ثلاثة عقود، شهِدت خلالها تلك الساحةُ أَزَماتٍ كبرى واحداثاً دامية، ربما ما كانت لتحصلَ او تستمرَ لو ان سماحةَ الامام كان حاضراً وقادراً على معالجتها.

ان مواقف الامام موسى الصدر، في الشأن السياسي، تقوم على اربعةِ مبادئَ اساسية:

المبدأ الاول: هو ان لبنان ضرورةٌ حضارية. لم يدافع سماحة الامام عنِ النظام اللبناني، بل دان بشِدة التمييزَ الطائفي والتمزقَ الوطني، ودافَع عن صيغة العَيش المشترك. يعتبر الإمام ان التعايش ليس ملكاً للبنانيين او حقاً لهم فحسب، ولكنه امانةٌ في يدهم. يقول الإمام موسى الصدر في هذا المجال "اننا نتمسك بوحدة لبنان ونحافظ عليها وعلى استقلال لبنان وعلى انسجام لبنان معَ المنطِقة وعلى صيانة هذا الكيان الذي هو أمانة للحضارة العالمية".
وان هذه النظرة للكيان اللبناني تلتقي مع مفهوم الوطن – الرسالة، الذي اطلقه البابا يوحنا بولس الثاني في العام 1995.
ومن هذا المنطلق بالذات نادى الامام موسى الصدر بنهائية الكيان اللبناني، التي كرّستها مقدمة الدستور اللبناني في العام 1990.

المبدأ الثاني: هو ان الحُرية هي عِلّةُ ومبرّرُ وجود لبنان، وان هذه الحرية لا تحدّها الا الحُريةُ نفسُها. لذلك يعتبر الامام موسى الصدر ان الديمقراطية هي النظام المناسب للبنان. وهو يقول في هذا المجال اِنه يدافع عن التعايش في ظلّ الديمقراطية، واِنه يمكن بقاءُ مجموعاتٍ حضارية تتعايشُ في وطن واحد على اساس الحرية.

المبدأ الثالث: هو ان العُنفَ لا يَحُلّ أيَ مشكلةٍ في لبنان. لقد اطلق الامام موسى الصدر ثورةَ اللاعنفِ ضدَ سلبياتِ النظام اللبناني، الذي فرض الظلمَ الاجتماعي؛ ولجأ الامام إلى الاعتصامِ والإضرابِ عن الطعام احتجاجاً على المذابحِ التي تُرتكبُ بحَق الأبرياء وعلى الرَصاص الذي يَحْصُد الذينَ هم بلا ذنب.
هنا يلتقي الإمام موسى الصدر في ثورته ضد العنف، مع المهاتما غاندي، الذي لجأ هو ايضاً إلى الصوم ضد ظلم الانتداب البريطاني.

المبدأ الرابع: هو احترام حقوق المواطنين، أي العدالة التامة، العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ان تطبيق هذا المبدأ، على الصعيد السياسي، حمل الإمام موسى الصدر على نبذ النظام الطائفي الذي يفرق بين المواطنين.

وانه لمن غير المعهود ان يتخذ رجل دين، بمستوى الإمام موسى الصدر، مثل هذا الموقف المتقدم، فيؤكدَ به ان الدين، بطبيعته السمحاء، يتجاوز الطائفية الضيقة؛ وهو يلتقي في هذا الموقف مع جبران عندما يقول:
"ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهبُ والطوائف، وتخلو من الدين"

اما تطبيق هذا المبدأ على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فقد تجسد بحركة المحرومين التي اطلقها الإمام موسى الصدر ضد التمييز بين المواطنين توخياً للعدالة الاجتماعية.

تلك هي المبادئُ الأربعة الأساسية التي يستند اليها فكر الإمام موسى الصدر السياسي؛ وكان سماحته يجسدها في قوله وفعله، ويعتبر ان اعتمادها وتطبيقها من شأنهما المحافظةُ على استقلال لبنان ووحدة شعبه وسيادته الوطنية.

من هنا ان الجريمة النكراءَ التي تناولت الإمام موسى الصدر ورفيقي جهاده، فضيلة الشيخ محمد يعقوب والصحافي الاستاذ عباس بدر الدين، اللذين كانا من اقرب المقربين اليه فكراً ونضالاً،

وبسببِ ما يجسدهُ الامام موسى الصدر من مبادئَ وما يمثلُه من قيمة وطنية،

ان جريمة الخطف هذه،
لم تكن اعتداء على اشخاص فحسب، وانما شكلت مؤامرةً دنيئة، نفذت بأبشع الوسائل الاجرامية عن طريق الغدر والاستدراج والخيانة، بحق وطن بأسره وشعب بكامل شرائحه، من اجل تهديم ركائز استقلاله ووحدته، وضرب صيغة العيش المشترك فيه.

وللدلالة على ذلك نحيل مجلسَكم الموقر إلى ما ورد في التحقيق ولا سيما في قرار المحقق العدلي من عرض، مدعوم بالأدلة القاطعة، لأبعاد المؤامرة التي استهدفت، من وراء خطف سماحة الإمام ورفيقي نضاله ومن ثم إخفاء معالم هذه الجريمة، تقسيمَ لبنان وضربَ صيغةِ العيشِ المشترك بين ابنائه، وكذلك فكرةَ نهائية الوطن اللبناني، وكل المبادئ التي آمن بها الإمام موسى الصدر وعمل من اجلها.

فَبِقَدْرِ ما يمثلُ الإمام موسى الصدر من قيمٍ حضاريةٍ ووطنية، بقدْرِ ما تكون الجريمةُ المرتكبة بحقه اعتداءً صارخاً على تلك القيم، وبالتالي جريمة نكراء ضد وطن وشعب، لا يجوز ان يُفْلِتَ مرتكبوها من العقاب الصارم، الذي يستحقون.

ولا يخفف من فظاعة هذه الجريمة ووجوبِ معاقبةِ مرتكبيها، كونُ هؤلاء قد ارتكبوا على مدى اكثر من اربعين سنة جرائمَ اخرى فظيعة.

فكلُ جريمة نكراء ارتكبها معمر القذافي وشركاؤه بحق الأبرياء من مواطنيه وسواهم يجب ان يلقى عنها العقابَ الصارم.

ومن البديهي ان الجريمة التي ارتكبها معمر القذافي وشركاؤه بحق الامام موسى الصدر ورفيقيه، وبحق لبنان وشعبه، يجب بالدرجة الأولى ان يلقى العقابَ عنها من قبل قضائنا الوطني، الذي يَنْطُق باسم الشعب اللبناني ويدينُ الذين اجرموا بحق المواطنين والوطن.

ان احالة معمر القذافي إلى المحكمة الجِنائية الدولية، لكي يحاكم عن الجرائم ضد الانسانية التي اقترفها طيلة توليه السلطة، لا تعفي القضاء الوطني اللبناني، صاحب الاختصاص والممثل بمجلسكم الموقر، من واجب الحكم في القضية الحاضرة المحالة اليه اصولاً، وانزالِ العقاب الصارم بحق معمر القذافي وشركائه في جريمة خطف الامام موسى الصدر ورفيقيه.

ان من شأن هذه الادانة:
ليس فقط تحقيقَ العدالة، التي تنتظرها عائلة الامام موسى الصدر وعائلتا رفيقيه والشعب اللبناني بأسرهِ مُنذُ سنين طويلة،

لا بل ايضاً منعَ تكرار مثلِ هذه الجريمة الفظيعة في المستقبل، والحُؤولَ دون قيامِ معمر قذافي آخر، في الآتيات من الأيام.

حضرةَ الرئيس،
السادةُ اعضاءُ المجلس العدلي،

بينَ يديّ كتيبٌ نشره مركزُ الامام موسى الصدر للأبحاث والدارسات بعُنوان "الحقيقة لن تغيب".
في هذا الكتيّب موجز لقضية اخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه يبيّن بوضوح اسباب وظروف زيارة الإمام إلى ليبيا ومجملَ الإجراءاتِ القضائية التي تمت بهذا الخصوص.

هذا الكتيّبُ يحتاجُ إلى ملحقٍ لا يستطيعُ سوى مجلسكم الموقر كتابته بعنوان "العدالة لن تغيب".

لن اتناول في مرافعتي عرض وقائع القضية والأحكامَ القانونية التي يجب ادانة معمر القذافي وشركائه بالاستناد اليها، وانما اترك لزميلي العميد فايز الحاج شاهين والاستاذ سليمان تقي الدين هذه المهمة.

جلّ ما اودّ قولَه في خاتمةِ مرافعتي هو تذكيرُ مجلسكم الموقر بكلمة المحامي جورج كليمنصو دفاعاً عن الكاتب الفرنسي اميل زولا، اذ خاطب قضاةَ المحكمة قائلاً:

"نحن اليوم نمثل امامكم... اما انتم فانكم تمثلون امام التاريخ".

اننا لواثقون ان التاريخ الذي تَمْثُلون امامه، ايها السادة القضاة، سيذكر القرار الذي سوف يصدره مجلسكم الموقر في هذه القضية، والذي نطلب ان يقضي بإدانة معمر القذافي وشركائه بالجرائم المحالين بها امامكم، وذلك وفقاً للادعاء الشخصي وبالاستناد إلى القرار الاتهامي الصادر عن المحقق العدلي الأستاذ سميح الحاج.

بذلك تتحقق العدالةُ التي نتوق اليها جميعاً، وينتصر لبنان، الذي تحكمون باسم شعبه، على المؤامرة التي استهدفت قيمه الأساسية ومرتكزات وجوده.