أخي المهاجر،
السلام عليك ورحمة الله وبركاته،
وبعد، فإني فارقتك غير هاجر وودعتك وما أنا بتارك. فمعك بالقلب والعقل أعيش بخفقة قلب تطوي المسافات وتختصر الأيام وتزيل الأبعاد؛ وبومضة فكر تلتئم الأجواء وتهون الأحداث وكأنه ليس من فراق: فوجودي كله ملأتَ وعلى مشاعري سيطرتَ، وبأجمل الذكريات إياي غمرتَ، ومن خطوط أهدافي أصبحتَ.
فترة قصيرة هذه التي معك قضيت ولكنها هجرة فريدة من نوعها عشتُ ولاحظتُ وها أنا أعيشها بعد سنة كاملة كأني معها حِملًا وأثرًا وقلبًا وعقلًا. وتراني لا أعتذر عن تأخيري حيث إني ما شعرتُ بالابتعاد.
عشتُ معك الطموح الثائر فما استسلمتُ في بدء هجرتك لوضع موروث ولا لفكرة متخاذلة ولا لمفاهيم سطحية.
وخشعتُ معك في إيمانك بالله الذي غرسَ في نفسك الثقة، فتركتَ أهلك وبلادك دون حماية ولا رعاية ولا مستندًا على ضمانات مكتفيًا بالله حاميًا وكفيلًا…
وواكبتُ دورك الإيجابي البنّاء، ترفع من المستوى الحضاري للمواطن الإفريقي وتعلي بناء مدينته.
وأكبرتُ فيك قناعتك وعدالتك في الربح، على الرغم من التشويش، فبنيت وغرست مكتفيًا بدخل معدّله بالنظر إلى عدد المهاجرين وسنين الهجرة لا يتجاوز دخل عامل بسيط.
وتقحمتُ معك المجاهل فإذا شأنك شأن المغامرين الأبطال في حياتك ورحلاتك.
واحترمتُ تضحياتك الكبرى حيث تواجه الصعاب وتتحمل العذاب متخطيًا الشدائد والنكبات.
وشكرتُ نبل مشاعرك وكريم أحاسيسك فإذا أنت الإنسان المثال: تهاجر ولا تهجر فللوطن والأهل عندك طيب الأثر وجميل الأحدوثة بما ترتبط بهما وتحفظ لهما.
وحَبَوْتُ إلى يدك المعطاة، فإذا هي في بلدك أساس كل بناء وزهوة كل علاء. فمن ألمك الخلاق ازدهت المعرفة وازدهرت الحضارة وخُطَّتْ لأجيالنا دروب التربية.
لاحظتُ هذه النقاط فغمر قلبي احترامك، وأحس عقلي بعظيم أثرك في بلدك وفي كل مكان في الماضي والحال وإلى أن يشاء الله من المستقبل.
سجلتُ هذه النقاط ثم انتبهت إلى بذلك المطلق دون انتظار جزاء أو شكور، وإلى عطائك السمح دون عوض إلا خدمة الأهداف السامية لخدمة بلاد الله وعباده.
ورأيتُ استعدادك الدائم في جميع الظروف والأحوال لتلبية كل نداء واستجابة كل مطلب.
لاحظتُ هذا كله فأدركت طاقتك العظيمة وقيمة درهمك المنغمس بعرقك ودمك الثمينين فامتلأ وجودي حبًا وقلبي احترامًا ودعاء.
أخي الكريم،
وأنت مع كل هذا في مهجرك معمِّر لا مستعمر، أخٌ للمواطن لا مترفع محتقِر. وقد ارتفعت بوطنك بالمستوى الذي رفعت من دنيا الاغتراب، فما من بيت سعيد إلا وكان لك فضل عمرانه، وما من بناء شامخ إلا كان لك السهم الأوفر في تشييد أركانه، وما من مشروع إنساني، ديني اجتماعي إلا كان ليدك أثر في تأسيسه وإعلاء جدرانه.
لهذا كله: لا يمكن أن أنساك أبدًا، كما لا أتمكن من شكرك على كريم عاطفتك وضيافتك وبهيج استقبالك واحتفالك وسخي مساهمتك وكثير تفاعلك خلال فترة إقامتي عندك.
لا يمكنني ذلك لأنك في هذه كلها ارتفعت عن مستوى الشكر اللفظي والخطي، ثم أنك ارتفعتَ في غايتك وسموتَ في أهدافك. فما قصدتَ شخصًا ولا اندفعت لصلة مادية، بل قصدت وجه الله ورضاه.
فأُفَضِّل يا أعز الإخوة أن أبِّدل الشكر بالدعاء لك والابتهال إلى الله تعالى لدوام صحتك ونجاح عودتك وتمام توفيقك وقرة عينك في أولادك وأهلك.
وإني أسأله تعالى أن يجعلني شاعرًا بواجبي تجاهك مؤديًا أمانتي متحملًا مسؤولياتي، ساعيًا مع المخلصين من أبناء الوطن لتحسين وضعك وللدفاع عن حقوقك، وافيًا بوعدي لتحقيق مطالبك، أمينًا على أمانتك العزيزة – المؤسسة الاجتماعية – وأن أتوفق لتجديد زيارتك وتكرار الاتصال بك.
كما أسأل الله تعالى أيضًا: أن يجعلك في يومك وغدك مثل أمسك معتمدًا عليه ساعيًا لكسب رضاه معتبرًا عملك جهادًا، وأن يوفقك للقيام بدورك الرسالي لخدمة أبناء بلاد الاغتراب وتوجيههم فأجدادك كانوا دعاة دين وبناة حضارة.
وأن يوفقك الله القدير أن تحاول تطوير عملك حتى تكون دائمًا كما كنت قدوة حسنة ومثالًا لا منافسًا معلمًا لا مزاحمًا.
وأن تتمكن من ممارسة مسؤولياتك الدينية في نفسك وفي أولادك متغلبًا على ظروف البيئة – محاولًا إصلاحها لا الانفعال بها والذوبان فيها فانك وأيم الله كنتَ ولا تزال أقوى من أن تستسلم لمحيطك ولظروف بيئتك وعلى هذا كان مبدأ هجرتك وسوف تستمر عليه بإذن الله.
أخي المجاهد،
إن الظروف الصعبة التي تمر على بلادك وعلى أمتك تتطلب اليوم مزيدًا من السعي والنشاط في مختلف الحقول فنحن نعيش على مفترق طريق ترسم مواقفنا اليوم مستقبلنا ومستقبل أولادنا فلنعمل ولننصر الله في دينه وفي عدله وفي حقه حتى ينصرنا حيث وعدنا بذلك في كتابه: ﴿لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ [الحج، 40-41] صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
موسى الصدر
صور كانون الثاني 1968