هاني فحص
من حقي أن أتفاءل الآن وهنا بمستقبل البلاد العربية، أكثر من أي وقت مضى. والتفاؤل جزء من إيماني الشخصي، كما هو جزء من الايمان الابراهيمي الذي «أنتجته» بلادي ذات مرة، وأعاد هو إنتاجها مراراً... لكن الصحيح أيضاً أن هذا التفاؤل المقيم كان على الدوام «افتراضياً»، يستمد حضوره من «الرجاء» على قاعدة «مَنْ وثق بماءٍ لا يظمأ». غير أنني اليوم أعاين الماء يجري في حقول العرب، نابعاً من وجدان الناس، صافياً كالحقيقة، منعشاً كالحرية، وشافياً كالعدل. لم يخطئ العالم حين قال انه يشاهد «ربيع العرب».
وإذ أزعم أني كنت نزيلاً دائماً في خيمة الرجاء والأمل، فلا أجرؤ على الزعم بأني كنت أتوقع لقاء مع هذا الفارس الجميل في أيامي المقدرة. غاية ما كنت أتوقعه، ويرضيني، أن يحصل هذا اللقاء مع أبنائي أو أبناء أبنائي... ولا بأس اذا ما هرمت على رصيف الانتظار.
وقد لاحظت أن أبناء جيلي، على اختلاف المشارب والتجارب والمواقف ودرجات الاطلاع، قد فوجئوا مثلي بما حدث. ولعل الأكثر اطلاعاً من بينهم كان الأشد مفاجأة! وقد خيل الينا، في لحظة ما، أننا تعرضنا لما يشبه «الخدعة». ذلك ان هذا الشيء إنما أتى من خارج دفاترنا! فقد نظرنا في ذات الحديثة البالية، الماء الذي يجري فلم نقع فيه على فصيلة «الأمناء العامين» (ديناصورات الاحزاب) الذين داخوا ودوخونا عقوداً من الزمن بالايديولوجيات القومية والدينية، ذات اليمين وذات اليسار، وقطعوا أنفاسنا بمطاردة أذناب الامبريالية والصهيونية والاستعمار (هم متخصصون بقطع الأذناب... أما الرؤوس فلها رب يقطعها!). كلا ولم نقع على قائد ملهم يمتطي حصاناً أبيض أو متْنَ دبابة!
يبدو لي أن ما حدث قد خرج من مساحتين اثنتين للحرية، عصيتين على الضبط والرقابة. أما الأولى، فهي أعتق ما عرفته بلادنا، وأعني مساحة العبادة ومواقيتها صلاة الجمعة والعيد والتراويح، وأما الثانية فهي أحدث ما عرفنا، وأعني «مواقع التواصل الاجتماعي الشبابي الحر»، هاتان المساحتان اجتمعتا لتكوّنا ساحات الحرية وميادينها. ما فعلته هذه الساحات الجديدة هو أنها أعادت خلق الاجتماع الذي كانت قد بددته الدكتاتوريات وحولته الى أفراد خائفين ومعزولين. وما ان اجتمع هؤلاء حتى استشعروا القوة في مفاصل جسدهم الجديد. وعند أول مواجهة وأول شهيد، (بوعزيزي) سقط جدار الخوف، وأصبحت المعادلة واضحة في حساب الفريقين: في حساب الاستبداد فإن التراجع أمام الناس يطمعها بلا حدود. وعليه لا بد لهذا الاستبداد من المضي في طبائعه. وأما في حساب الناس الذين كسروا حاجز الخوف فتقول المعادلة ان المضي قدما وحتى النهاية أقل كلفة من التراجع بما لا يقاس... وهذه - في الجانبين - حسابات بقاء: نكون أو لا نكون!
ويبدو لي أيضاً أن سلمية الناس - في «غاندية» جديدة - وديموقراطيتهم ولا ايديولوجيتهم، هي الرصيد الحقيقي لفكرة السلام والعيش معاً في المنطقة. فإذا عطفنا هذه على قضية الاصلاح بوصفها قضية لا يمكن تفاديها أو تأجيلها أو الاحتيال عليها (كما يقول لسان حال الناس)، تقف معادلة الخلاص - ربما للمرة الأولى - على قدميها: السلام والاصلاح معا وجميعاً.
وبوصفي مهموما بقضية العيش معا في بلادي وفي ما يليها من بلاد الناس، فإني أقل خشية من أي وقت مضى على ما يسمّى «حقوق الاقليات». ذلك ان ظلم الاقليات انما نشأ من رحم ايديولوجية العنف وفي سياقاتها. وقد نكون أمام اقتراح تكوين أكثرية جديدة، على اساس السلم والاصلاح والديموقراطية، لا على أساس العرق والدين واخواتهما.. مؤكداً ان مصطلح الاقليات ليس دقيقاً، بل هو ظالم ومضلل... لأن اجتماعاتنا تقوم على المعنى المشترك، والجامع، لا على العدد المفرِّق... واليابس.