مقنطفات من كتاب لدانيال غيران (1904-1988)
ترجمة واختصار سعود المولى
الغيبية الصوفية هي أول شيء تقدمه الفاشية لجمهورها...
أولاً: لأن مجنديها الجدد ينقصهم التجانس ولأن لكل فئة من الفئات التي تتوجه اليها الفاشية مطالبها ومطامحها الخاصة... ولا شك ان ديماغوجية معادية للراسمالية تخدم في مثل هذه الحالة... الا ان هذه الديماغوجية المتناقضة في الغالب لا تكفي لربط كافة هؤلاء المتذمرين فيما بينهم..ومن هنا ضرورة ايجاد الوثاق الذي يوحدهم: غيبية صوفية يراد لها ان تكون غامضة يشترك فيها الجميع كائنة ما كانت التناقضات في مصالحهم ومفاهيمهم وتجعلهم مندمجين في وحدة شعورية روحية..
ثانياً:لأن الفاشية تفضل اثارة الايمان على التوجه نحو الذكاء..اذ ان حزبا يعيش على الاعانات المالية للراسمال الكبير ويستهدف سرا الدفاع عن مصالح المالكين لا يملك اية مصلحة في التوجه نحو ذكاء المنتسبين اليه ما لم يسحرهم بشكل كامل..وما ان يصبح المنتسب مؤمنا حتى يسهل التلاعب بالحقيقة والمنطق اذ لا يعود هذا المؤمن يرى سوى النار..واذا فتح عينيه صدفة يمكن اعادة اغلاقهما بالحجة السامية التالية: هذا ما يريده الزعيم!! بالاضافة الى ان الفاشية تتمتع بحظ التوجه للبؤساء والمستائين..والمعروف ان ظاهرة البؤس مع الاستياء هي ما يمهد للغيبية الصوفية..وهذه ظاهرة قديمة قدم العالم...فبعد حد معين من البؤس لا يعود الانسان يفكر ولا يعود يطالب بحلول منطقية لمصائبه ولا يعود يملك شجاعة انقاذ نفسه..فهو ينتظر معجزة ويطلب مخلصاً ويبدي استعداداً للحاق بهذا المخلص والتضحية بنفسه من اجله..
ثالثاً: لأن الفاشية على عكس الاشتراكية تحتقر الجماهير ولا تتأخر في النظر اليها من زاوية ضعفها.. كان موسوليني يفاخر بتجربته مع الشعب التي "خدمته كثيراً" و"سمحت له بمعرفة نفسية الجماهير"... وكان يردد بعض أحكام كتاب غوستاف لوبون "نفسية الجماهير": الجماهير غير جديرة بالرأي الحر ولا بأية آراء سوى تلك المفروضة عليها من خارج.. لا يمكن قيادة الجماهير وفق قواعد مؤسسة على الانصاف النظري الحالص بل بالبحث عما يمكنه التأثير عليها وسحرها... لا تعرف الجماهير سوى العواطف البسيطة والمتطرفة... ولا يمكن التأثير عليها الا بواسطة الصوَر....
أما هتلر فكان يقول: ان الغالبية الكبرى للشعب تجد نفسها في وضعية وحالة نفسية أنثوية الى حد ان آراءها وافعالها محددة بواسطة الانطباع الجاري على مستوى الحواس اكثر مما هي محددة بواسطة التفكير..كما ان الجمهور قليل التأثر بالافكار المجردة وبالمقابل يمكن التأثير عليه بسهولة اكثر في ميدان العواطف والمشاعر"..
خدعة الفاشية الكبرى هي في نبش الشعور الديني في شكله الأكثر قدماً : تمجيد رجل العناية الالهية.
فتحت غطاء الحضارة بقي الانسان يعبد الأصنام.. في الماضي كان البشر يتخيلون الهة ليست سوى الانعكاس الوهمي لكائناتهم..اما اليوم فهم يشعرون بالحاجة الى خلق أسطورة منقذة يسقطون فيها أنفسهم.. إلا أنها بالمقابل أسطورة تحمل وزر أحقادهم وحاجاتهم وافكارهم وحتى حياتهم اليومية...وهم يضعفون أمام الإله الذي خلقوه على صورتهم... فينتظرون الخلاص على يد الفوهرر أو الدوتشي أو الزعيم...
بيد أن هذه الشخصية الأسطورية لم تتشكل دفعة واحدة: لقد صنعتها الفاشية كلياً وخلال عمل إيحائي طويل وصبور.. ففي البداية نرى بعض الدجالين المهرة وبينهم المعبود المقبل يحاولون أن يخلقوا لدى الشعب حاجة غامضة الى مسيح مخلّص..إلى ديكتاتور منقذ...الى زعيم..
هذا ما فعله موسوليني وهتلر وما يفعله كل من لف لفهم...